كاتب: سياوش فلاح بور
في ظلّ ترقّب كبير للرأي العام العالمي الذي كان ينتظر تفاصيل رسالة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية والمقترحات المحتملة التي قدمها لطهران، تحوّل كلام قائد الثورة الإسلامية الذي شرح فيه موقف إيران من المفاوضات وأسباب موقفها إلى الخبر الرئيسي لوسائل الإعلام العالمية؛ وقد أذهلت هذه الهندسة العكسيّة العديد من وسائل الإعلام. واحتلّت وسائل الإعلام الدولية الآن عبارات ”ترامب ليس جديراً بتبادل الرسائل“، و“تجربة المفاوضات المريرة السابقة مع أمريكا ضمن إطار الاتفاق النووي لن تتكرّر أبداً“ أو ”أيّ عاقل يفاوض بلداً نقض كلّ التعهدات؟“ مكان التكهنات بشأن تفاصيل رسالة ترامب. بعبارة أخرى، استغلّت إيران بذكاء زيارة حامل رسالة ترامب وبعثت من خلاله برسالتها إلى أسماع العالم دون أن تفسح المجال للعبة إعلامية - نفسية جديدة من قبل الرئيس الأمريكي! ولا شكّ في أنّ هذا الحدث سطّر انتصاراً لإيران في مجال الحرب النفسية لأنّ الكرة عادت الآن إلى أراضي واشنطن.
لكن بعيداً عن الإدارة الذكيّة لحرب أمريكا النفسية ضدّ إيران في مقرّ قيادة الجمهورية الإسلامية، فإنّ مضمون تصريحات قائد الثورة الإسلامية التي خاطب بها سماحته رئيس الوزراء الياباني يثبت أكثر من أيّ شيء آخر انتهاء المعادلة التي حاولت أمريكا خلال العام الماضي فرضها على طهران؛ معادلة إما ”الحرب“ أو ”التفاوض“. نقل رسالة الرئيس الأمريكي الشخصية (بصفته رمزاً لهذه المعادلة) بواسطة رئيس الوزراء الياباني إلى طهران بعد فرض ضغوط اقتصادية وأمنية غير مسبوقة يشكّل نقطة الذروة لهذه المساعي.
تكمن أهميّة الهزيمة العملية لمعادلة إما الحرب أو التفاوض في أنّه وخلافاً لما وقع في الظاهر، لم تكن أمريكا وحيدة في تنفيذ هذه المعادلة حيث أنّ الشركاء الأوروبيّين لهذا البلد أثبتوا بشكل عمليّ من خلال تصرفاتهم في مختلف المجالات أنّهم ساهموا في مدّ يد العون لواشنطن فيما يخصّ فرض هذه المعادلة ضدّ إيران. رغم ذلك فإنّ ردّ الإمام الخامنئي الواضح هو بمثابة إعلان عن موت سريع لهذه المعادلة؛ موت سببه الوحيد هو قوّة إيران في مختلف الأبعاد واستعداد هذا البلد لاستغلال وسائل الضغط التي يملكها من أجل فرض الضغوط على أمريكا وحلفائها.
انتصار إيران في ”حرب الإرادات“ (تحقّق حالة إما الحرب وإما التفاوض) يأتي في الوقت الذي تمتنع فيه الجمهورية الإسلامية بذكاء عن الدخول في مفاوضات جديدة مع أمريكا. يمكن الإشارة إلى ٣ نقاط فيما يخصّ تبيين جذور امتناع طهران عن الدخول في مفاوضات جديدة:
١- تجربة التفاوض مع أمريكا
بعد مرور أكثر من عام على انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي، لم تُنشر لحدّ اللحظة أيّ وثيقة معتبرة تدلّ على نقض إيران لمضمون الاتفاق النووي. وقد أكّد المرجع الوحيد للإشراف على التزام إيران بالاتفاق، أي المنظمة الدولية للطاقة الذريّة، مرّات عديدة على التزام إيران بتعهداتها في الاتفاق النووي. لم ينحصر تأييد التزام إيران بتنفيذ الاتفاق النووي بالمنظمة حيث أنّ سائر أطراف هذا الاتفاق (أوروبا، وروسيا والصين) ورغم تباين مواقفهم تجاه سياسات إيران اعترفوا بذلك مراراً. بناء على ذلك فإنّ انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي (كما هو الحال بالنسبة لسائر الاتفاقيات الدولية خلال العامين الأخيرين) دليل على عدم إمكانية الوثوق بهذا البلد. كما أشار قائد الثورة الإسلامية إلى هذه القضية خلال لقائه برئيس الوزراء الياباني قائلاً: أيّ شخص عاقل يفاوض مرّة أخرى بلداً نقض كافّة الاتفاقيات؟
٢- تحويل الهزائم إلى ميّزات
يدّعي الرئيس الأمريكي والمسؤولون في حكومته أنّهم حدّدوا ميّزات من أجل التفاوض مع إيران؛ الميّزات التي تمثّلت في التراجع عن التهديد بالحرب خلال الأسابيع الماضية وتمحور وسائل الإعلام حول خيار التفاوض الذي تكرر بشكل تدريجي على لسان مختلف الشخصيات. بدءاً من نفي وجود إرادة بشنّ الحرب مروراً بعدم وجود نية بتغيير النظام في إيران وصولاً إلى التخلي عن الشروط المسبقة التي تمّ طرحها سابقاً.
لكنّ طهران تعلم جيّداً أنّ كلّ هذه الميّزات هي في الحقيقة نتيجة هزائم وفشل الحكومة الأمريكية في مقابل إيران وهي اليوم تُقدّم من قبل حكومة هذا البلد كميّزة وتُعرض واحدة تلو الأخرى. العديد من الوسائل الإعلامية والمحلّلين وأصدقاء واشنطن غير الراضين في الخليج الفارسي أيضاً اعترفوا خلال الأسابيع الماضية بعجز أمريكا عن الدخول في مواجهة عسكرية مع إيران، العجز الذي بدا جليّاً أكثر من أيّ شيء آخر في التحذيرات المتكررة التي أطلقها البنتاغون إزاء تداعيات أيّ خطوة عسكرية ضدّ إيران.
ما هو أكثر غرابة من ادعاء فقدان الإرادة لشنّ أيّ حرب هو ادّعاء فقدان الإرادة لتغيير النظام! وردّاً على هذا الادعاء يكفي طرح هذا السؤال: أيّ خطوة امتنعت أمريكا عن اتخاذها في سبيل تغيير النظام في إيران؟!
وحول هذه القضية قال الإمام الخامنئي خلال لقائه برئيس الوزراء الياباني: "مشكلتنا مع الأمريكيّين ليست قضية تغيير النظام. لأنّهم عاجزون عن القيام بذلك حتى لو قرّروا هذا الأمر. كما أنّ الرؤساء الأمريكيّين السابقين حاولوا خلال هذه الأعوام الأربعين وباءت محاولاتهم بالفشل."
٣- الدخول في مسار نزع السلاح
في الوقت الراهن وبعد تنفيذ إيران لتعهداتها في الاتفاق النووي، لم تبقَ عمليّاً أيّ قضيّة بين أمريكا وإيران يحتاج حلّها إلى تفاوض سياسي بين البلدين سوى:
الف) القدرات الصاروخيّة
ب) العمق الاستراتيجي في المنطقة
وسائر وسائل الضغط على الجمهورية الإسلامية التي عبّر عنها قائد الثورة الإسلامية مؤخّراً بأنّها ”قضايا تمسّ بشرف الثورة الإسلامية“.
ورغم قدرات إيران الكبيرة في مختلف الأبعاد، فإنّ القوة الصاروخية والعمق الاستراتيجي من جملة القضايا التي يُنظر إليها كوسائل دفاعية ووسائل ضغط قويّة بيد إيران ضدّ أمريكا وحلفائها. بناء على هذا الأمر، فإنّه من الطبيعي أن تكون فلسفة العودة إلى التفاوض مع طهران بعد التزامها بكافة تعهداتها في الاتفاق النووي هي الدخول إلى [التفاوض] بشأن هاتين القضيّتين؛ القضيّتان اللتان بمجرّد أن يبرز تراجع أو ضعف فيهما، فسيكون الأمر بمثابة تجريد إيران من السلاح أمام أعدائها. لعلّه يمكن القول بأنّ تعبير ”قضايا شرف الثورة الإسلامية“ الذي أطلقه الإمام الخامنئي أطلق على هذه المواضيع استناداً لهذا الأمر.
فسماحته قال قبل هذا اللقاء في لقاء مع مسؤولي النظام:
”يقولون بأن تعالوا لنتفاوض بشأن الصواريخ، المعنى الحقيقي لهذا الكلام هو أنه ينبغي عليكم أن تقلّصوا مدى ودقّة صواريخكم لكي لا تستطيعوا الردّ علينا في حال هاجمناكم يوماً ما. لكنّ البديهي هو أنّ أحداً في إيران لا يقبل بهذا الكلام … العمق الاستراتيجي السياسي والأمني لأي بلد يشكّل قضيّة مصيريّة، وبالنسبة إلينا فإنّ العمق الاستراتيجي في المنطقة بالغ الأهميّة، هم منزعجون من هذا الأمر ويسعون لمقايضة إيران مقابل عمقها الاستراتيجي، هل يقبل أحد بهذا؟“
إضافة لكلّ هذه الأمور ينبغي أن تتمّ الإشارة إلى قضية نفوذ إيران في المنطقة التي وخلافاً للتصوّر الذي يسعى الطرف المقابل للإيحاء به لا يشكّل قضيّة إرادة وسياسية بالمعنى المتعارف عليه، بل إنّ العمق الاستراتيجي للجمهورية الإسلامية في إيران اليوم هو ثمرة من ثمرات شجرة الثورة الإسلامية الطيبة وتسييسها لا يعدو كونه جهداً يهدف لتقليص معنى هذه الظاهرة.
احتلّ رفض قائد الثورة الإسلامية الحازم لرسالة الرئيس الأمريكي الصفحة الأولى لوسائل الإعلام العالمية في الوقت الذي اتّجه فيه رئيس جمهورية إيران بعد ساعات من لقاء رئيس الوزراء الياباني بقائد الثورة الإسلامية للمشاركة في مؤتمر منظمة تعاون شانغهاي في عاصمة قرغيزستان؛ المؤتمر الذي عقدت على هامشه لقاءات ثنائية مع القادة الحاضرين في بيشكك، ومنهم رئيس جمهورية روسيا فلاديمير بوتين.
من جهة أخرى تطرّق الإمام الخامنئي إلى تصريحات رئيس الوزراء الياباني القائلة بأنّ ترامب قال بأنّ التفاوض مع أمريكا سينتج عنه تقدّم وازدهار إيران وعلّق سماحته قائلاً: نحن سنتقدّم بفضل الله عزّوجل بعيداً عن التفاوض مع أمريكا ورغم وجود الحظر. وواصل سماحته كلامه مخاطباً شينزو آبي قائلاً: اليابان دولة مهمّة في آسيا وعليها ”أن تظهر إرادة حاسمة“ إذا ما كانت ترغب في تطوير علاقاتها بإيران، كما أن بعض الدول المهمّة أظهرت هذه الإرادة.
العالم اليوم ينتظر الخطوات التالية للجمهورية الإسلامية في إيران التي تستهدف إحباط الممارسات الأمريكية بشكل كامل؛ البلد الذي كسر معادلة واشنطن وفرض إرادته على الطرف المقابل؛ أي الرضوخ لحالة ”لا حرب ولا تفاوض“.