الكاتب: محمد باقر كجك

مقدمة
یکتسب موضوع "الأنا والآخر" أو ما بات يسمّى عالمياً بمسألة "الغيرية"(Otherness) أهمية عالية عند أي حديث يتناول بناء الأمم والحضارات وتعزيز قضية الهوية العامة لأي مجتمع وأية حضارة. 
يقود النقاش حول قضية الغيرية في تداعياته الفلسفية والأيديولوجية إلى رسم حدودٍ للذات والآخر، وفق العدسة التي يصنعها صاحب الطرح، ويؤثر ذلك بالضرورة على رسم السياسات والمناهج والرؤى العامة المسيّرة للمجتمع والدولة والطاقات البشرية. لأنَّ كل جهدٍ إنسانيٍّ إنما يستهدف جبراً: ما ينفع الذات، أو الآخر، أو يضرهما. 
فالصراع الحقيقي قديماً، وحالياً، ومستقبلاً، هو حول ماهية هذه التصورات المتعلقة بالذات وبالآخر، وبالصراع على قوة الطرح فيها وشموليته وقربه من الواقع والحقيقة. يؤكد الإمام الخميني (قدس سره) في بعض خطبه على أنَّ الخلاف هو في بناء التصورات، وأننا "نحن" لدينا تصوّر أكمل من غيرنا، بينما "الآخرون" لديهم تصورات "محدودة"، وبدهيٌّ أنّ هذا الكلام لا يتفرد به الإمام وإنما هو منطقُ كل بناة الحضارات والمجتمعات الإنسانية عبر التاريخ. 
 

يقول الإمام الخميني (قدس سره): "بغض النظر عن الإنسان الكامل، فإن كل الرؤى البشرية محدودة، وليس بوسع البشر تكوين تصورات صحيحة حول الإسلام أو القرآن أو البعثة أو الرسول الأكرم أو الإنسان كما هو. المحدود لا يمكنه الإحاطة بغير المحدود إلا إذا أصبح هو أيضاً غير محدود. الإنسان الكامل غير محدود، الإنسان الكامل غير محدود في كل الصفات وهو ظل الذات الإلهية المقدسة، بمقدوره تصور الإسلام كما هو، وتصور الإنسان كما هو، والبعثة كما هي، والقرآن كما هو، والعالم كما هو. الآخرون لهم تصوراتهم بحسب مراتب وجودهم وبحسب مراتب كمالهم، لكنها تصورات محدودة" .
ومن هنا، كان لا بدَّ أن نطرح ولو بشكل مختصرٍ ما تُظهره نصوص السيد القائد الخامنئي (دام ظله)، من تطبيقات لرؤيته حول "الذات" و"الآخر" في بيان "الخطوة الثانية للجمهورية الإسلامية". لقد قلتُ "تطبيقات" لأنَّ هذا البيان يتّجه في الحقيقة إلى إرشاد الشباب نحو المسؤوليات العملية للانتقال بالثورة إلى المرحلة التاريخية الثانية، فهو بالتالي ليس في وارد طرح مسائل نظرية ذات صبغة فلسفية شديدة التعقيد. 

مقدمة حول مفهوم الغيرية
يحمل الخطاب الفلسفي القديم، عناصرَ ثريةً في بلورة مفهوم الغيرية، ابتداءً بمحاولة تنقيح طبيعة الوجود الإنساني بين مثالية أفلاطون وواقعية أرسطو وامتداداً للمدارس الفلسفية المتنوعة اليونانية والشرقية، مروراً بالإسلامية ووصولاً إلى العالم المعاصر. فكيف يعي الإنسان ذاته، وكي يتحسس وجوده، ووجود الكون حوله، وما هي آليات تواصله مع الآخر، وهل الآخر ضرورةٌ، وهل لا يمكن وعيُ الذات دون وجود الآخر..الخ. يذهب الجابري إلى أنَّ مفهوم الذات والآخر، تبلور بشكل دقيق مع المبدأ الديكارتي الشهير بالكوجيتو ليؤسس للفلسفة الأوروبية الحديثة على فلسفة "الأنا" ("الذات") بمعنى أن "الإنسان ذات في مقابل العالم الذي هو موضوع لها. والفكرة المؤسسة لفلسفة "الذات" هذه هي كوجيتو ديكارت: لقد شك هذا الفيلسوف الفرنسي في كل شيء و"مسح الطاولة" حسب تعبيره (طاولة فكره)، مسحاً ولم يبق لديه أي شيء آخر غير كونه يفكر: ومن هنا قولته الشهيرة: "أنا أفكر إذن أنا موجود" .وقد لا نوافق الجابري على هذا الإدعاء إذ سبق للفلسفة الإسلامية، أن طرحت أفكاراً دقيقةً جداً حول سبل معرفة النفس وتشكل هوية لها من خلال هذه المعرفة الحضورية قبال معرفة الآخر (والآخر هو كل وجودٍ غير الأنا)، كما فعل ابن سينا مع مسألة الرجل الطائر في إثبات وجود النفس على سبيل المثال، فضلاً عن الجهد الفلسفي الجبار للملا صدرا في علم النفس الفلسفي ومباحث الهوية، وبقية الفلاسفة والعرفاء الفلاسفة المسلمين الذين تناولوا هذه المسألة كلٌّ من زاويته كما سنشير إلى شيء من ذلك عما قليل.
لقد قدم الفكر الأوروبي منظومات معرفية تمحورت كلٌّ منها حول براديغم (نموذج إرشادي) خاصٍ بها، فعلى سبيل المثال، لقد قامت فلسفة سارتر الوجودية على مبدأ أن "الآخر هو الجحيم" ، وهو مبدأ إقصائي يضع المعتقِد به أمام ضرورة إعادة إنتاج التراث الجمعي لهذه الأنا المتغوّلة والعدائية لأنها تضع "الآخر/الغير" في موضع العدو. أو كما عبّر هيغل: " وجود لذاته بسيط، مساوِ لنفسه، ينفي من الذات كل ما هو آخر، فماهيته وموضوعه المطلق هما بالنسبة إليه الأنا" ، فنحن هنا أمام وضعية تفوق الأنا على الآخر الأدنى، وهذه الرؤية هي رؤية مولّدة للعنف والإقصاء.
وهناك  وضعية الدونية التي تتخذها الذات أمام الآخر المتفوق، وتسعى للتشبه به على كل المستويات، بل هي ترى أن الآخر قد يكون هو النعيم في هذه الحالة وينبغى أن تسعى إلى تحقيق صورة عنه في داخلها وفيما يرتبط بها.
إذن، وبحسب الفلسفة الحديثة (خصوصاً ما قدمه الفيلسوف لاكان حول نظريته حول التحليل النفسي) التي قدمت أطروحات متنوعة حول مسألة الغيرية، نجد أنّ العلاقة بين الأنا والآخر يمكن تقديمها وفق طرق ثلاث :
1-إقصاء الآخر رمزيّاً:
الرّمزيّ يشمل فلسفيّاً كلّ الأنظمة الجماعيّة الّتي بها يتعامل البشر وعلى رأسها اللّغة، ومن الأنظمة الرّمزيّة نجد التّراتبيّة الاجتماعيّة وأساليب الأكل والشّرب واللّباس إلخ... وإخضاعُ الآخر المختلف رمزيّاً شائعٌ في التّاريخ . إنّ إقصاء الآخر رمزيّاً يفيد وسمه سلباً بما يقيم تراتبيّة جماعيّة يكون فيها الأنا في القمّة والآخر في السّفح أو في مرتبة دنيا في أفضل الأحوال.
2- إقصاء الآخر خياليّاً:
لقد شاع في السّنوات الأخيرة اعتماد مفهوم «التّسامح» بين البشر والأديان والحضارات، هذا المصطلح الّذي يبدو ظاهريّاً ممّا يقرّب بين النّاس. إلا أنّ التّسامح هو -بشكل من الأشكال- إعراض عن الآخر، بل قد يكون التّسامح بالمعنى الشائع قريبا لللاّمبالاة. وإذا علمنا أنّ الخياليّ هو ما يتّصل بالتّمثّلات والتّصوّرات الذّهنيّة، فهمنا أنّ هذه اللاّمبالاة ليست إلاّ إقصاءً خياليّاً للآخر.
3- إقصاء الآخر واقعيّاً:
 يكون إقصاء الآخر واقعيّاً عبر القضاء عليه أي قتله، وهو أقصى أنواع الإقصاء.  
وليس إقصاء الآخر وفق أيّ من هذه المنظورات الثّلاثة بقادر على أن يلغي الآخر أو ينفيه مطلقاً. فـالإقصاء الرّمزيّ للآخر والإقصاء الخياليّ له لا يمكن أن يلغياه لأنّه يظلّ حاضراً. بل إنّ الإقصاء الواقعيّ نفسه لا يمكن أن يلغي الآخر. ذلك أنّ قتل الآخر يلغي وجوده المادّي في الحياة، ولكنّه لا يمكن أن يلغي أثره. 
الغيرية في الفلسفة الغربية في بعض تجلياتها
لقد أوقع هذا البحث المعقد البشرية في الفترة المعاصرة خصوصاً -وبعد اتساع رقعة التواصل البشري إثر الثورة الصناعية، وثورة المواصلات، والثورة التكنولوجية، وثورة التواصل الرقمي- في أشدّ المآزق الإنسانية، والتي نتج عنها هذا الكم الكبير من المشكلات التي تجلت في بعض جوانبها في الحروب العالمية والإقليمية والداخلية، وهذا الفرز الحاد بين الجماعات البشرية على قواعد اجتماعية وإثنية ودينية واقتصادية. وليس الانتشار الإقصائي لاصطلاح دول العالم الأول ودول عالم الثالث دليلاً على ذلك فقط، بل التوقعات البحثية في استمرار هذا الفرز بطريقة أكثر توحّشاً وقساوة كنتيجة مباشرة لنظريات الحاجات الإنسانية (Human Needs Theory)  لماسلو. 
وكي لا نتوسع في البحث أكثر، نقتصر هنا على الإشارة إلى المسار الذي اتخذه الصراع بين الدراسات الاستشراقية والاستغراب، في أسسه الفلسفية والانثروبولوجية، حيث يسعى الطرفان إلى إيجاد صيغة أكثر قرباً من الإنسان نفسه، تارة من حيث "نبذ الاقصاء" وأخرى من حيث "الاعتراف بالآخر" وتارة أخرى من حيث "الاعتذار" من الآخر. مسالك ثلاث هي حصيلة البحث الانطولوجي في فهم "الغير" كـ"غريب" يقيم عنوة في قلب الوجود، والبحث الفينومينولوجي كوعي "آخر" على الأنا أن يخوض "نزاع اعتراف" رهيبا معه، والبحث الثقافي/السوسيولوجي كوجه "أجنبي" علينا أن ندمجه في فضائنا العمومي بعد فشل كلّ محاولات إقصائه خارج دائرة انتمائنا. 
لقد أفرز هذا التشوش الكبير في حسم هذه القضية، نتائج قصوى كالاسلاموفوبيا، والسخرية من الأديان كما حصل في رسومات شارلي ايبدو  و محاولة "  Everybody Draw Mohammed Day" للسخرية من النبي محمد وتحويلها إلى ظاهرة، فضلاً عن الاستنزاف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الكبير لمنطقة غرب آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية الخ.
ليس واضحاً بالتالي، إن كانت "الجهود"  العالمية للمنظمات والمؤسسات والهيئات العالمية كالأونيسكو والأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي وغيرها، قد نجحت في تقريب المسافات بين البشر، عبر ترويجها لمفاهيم ومشاريع مثل التربية على السلام، التربية على العيش المشترك، التربية على التسامح، التربية على الاعتراف بالآخر... الخ  من المشاريع الدولية الممولة والمدعومة في سبيل إيجاد أرضية "ما"  من التفاهم على نزع الخلاف وفضّه. ليس واضحاً، لأنَّ منطق إقصاء الآخر، والتعالي عليه، وفرض ثقافة أخرى عليه، لا يزال سارياً في السياسة الدولية والغربية وخاصة الأميركية.
ولذلك فإنّ الحلول الأساسية لمشكل الغيرية بما هي حلول محايثة أي "الصداقة" لدى الإغريق و"الاعتراف" لدى المحدثين و"المسؤولية" لدى المعاصرين، هي حلول تقع خارج الحياة الواقعية التي تجري رحاها بين المجتمعات ونسمع أصداءها بشكل واضحٍ، خصوصاً مع ذلك الانقسام الابستيمولوجي الحاد بين الإطار الفلسفي العلماني والإطار الفكري للأديان، والذي يتم ترسيخه جبراً وبالضرورة عبر تأكيد غيرية الآخر واغتراب الذات عن الآخر، عبر الدعوة إلى "التسامح" و"العيش معاً" وغيرها من المفاهيم التي تؤكد وتعترف وتشرعن كذلك وجود الخلاف والاختلاف والنزاع، وتعزِّز من الشعور بتزلزل مفهوم "الهوية". الارتباط والعلاقة بين مفهوم "هوية" الذات والمجتمع، ومفهوم "الآخر"، قوي جداً بحيث يؤثر أحدهما على الآخر بشكلٍ سببي. يختزن مفهوم "الهوية " سعياً لوعي الوجود من جهة، ووعي اللاوجود في الجهة المقابلة، وهو الأمر الخطير الذي يجعل من وعي "الغير" على حدِّ وعي "اللاوجود". وجود الذات ومعرفتها أمرٌ يبذر الطمأنينة في النفس البشرية، وكذلك إلغاء حضور "اللاوجود" يؤكد الطمأنينة. فالغيرُ -لانفصاله عن الذات- على حد اللاوجود، وهو شرطٌ في فهم الوجود.
 لذلك "فالاعتدال الذي أشار إليه أفلاطون عند مساءلة "اللاّ-وجود" إنّما هو ناتج عن كون الغير هو بالمعنى الصارم للكلمة "لا وجود" له. هو غيرُنا. إنّ الغير لا يمكن أن يُقال أو يُفكَّر فيه إلاّ بقدر ما نخضعه إلى استنطاق معتدل. وهو ليس معتدلاً إلاّ بسبب أنّ هذا الغير لا وجود له بالنسبة لنا. إنّه ليس جزء من نمط أنفسنا. وعلى ذلك هو يفرض علينا أن نعترف به بوصفه قادراً على رسمنا والإساءة إلينا".

 
مقترح رؤية حول "الغيرية" 
لقد قدم المفكرون المسلمون، رؤى مختلفة حول مفهوم الغيرية، تارة من باب الندّيّة مع الغرب، كما فعل إدوارد سعيد في تقييمه للذات من بوابة النقد للمنطق الاستشراقي في فهم "الآخر" وتعقيد بناءِ ذاتهِ على هذا الفهم، وتارة كما فعل بعضهم مستفيداً من جاك دريدا في تركيبه لمفهوم الغيرية على مفهوم "الضيافة غير المشروطة" ،  وكذلك شريعتي في بنائه لمفهوم الذات والعودة إليها على مفاهيم تتعلقُ بإعادة تجريد الذات من الإضافات التي لحقتها تاريخياً من خلال التزلزل الذي حصل للنص الديني وتفسيراته الاجتماعية والسياسية ، وكذلك تجريدها من عقدة الدونية التي أصابتها نتيجة التفوق الغربي الأخير، فضلاً عن المحاولات الفكرية المتنوعة التي شغلت بال الشعوب العربية والإسلامية في القرن الأخير نتيجة تراكمات تاريخية معروفة للمتتبع.
فما هي رؤيتنا نحو الذات والآخر؟ وما هو إسهامنا في موضوع "الغيرية" كمفهوم مؤسس لمنظومةٍ من العلاقات مع القريب والبعيد من المجتمعات البشرية؟
يحتاج الأمر حقاً إلى استنطاق كامل لما قدمّه مؤسس الثورة الإسلامية في إيران، الإمام الخميني (قدس سره) والسيد القائد الخامنئي طوال ما يربو على الخمسة والخمسين عاماً من الحركة الثورية قبل انتصار الثورة وإلى يومنا هذا، حول نظرة الثورة إلى الذات والآخر، والعلاقة بينهما، وتجليات هذا الأمر في الحياة الواقعية داخل مجتمع الثورة وخارجه.
الأمر غير سهل، من جهة ضخامة الانتاج الكتابي والشفوي لهاتين الشخصيتين، فضلاً عن الشخصيات العلمية والفكرية التي ساهمت وتسهم في إيضاح المنظومة الفكرية للثورة الإسلامية. ولكن، سنشير إلى عدة مقدماتٍ موجزةٍ (سيتم توسيعها في مقالة لاحقةٍ) لإطار مفهوم الغيرية عند السيد القائد الخامنئي، ثم نستلُّ الشواهد على هذا المفهوم من خلال بيان المرحلة الثانية للثورة الإسلامية.
مقدمات أولية حول مفهوم الغيرية في فكر الثورة الإسلامية
تنظر الثورة الإسلامية إلى موضوع "الغيرية" من خلال رؤية كونية تبتني على منطق الوحي الإلهي المتثمل بالدين الإسلامي.
هذه الرؤية الكونية تؤسِّس لعدد من الأسس التي تشكل الإطار النظري لمفهوم الغيرية كما هو المفترض:
1- الاعتقاد بأنَّ الوجود له موجِد واحدٌ، وهو الله.
2- يرتبط كل البشر برابطة العبودية لله تعالى، وهو رابط يتساوى فيه الجميع أمام الله وأمام بعضهم.
3- الوحي والنبوة هما المرجع الوحيد لرسم أطر العلاقة بين الناس، وبينهم وبين الله، والكون.
4- تؤمن هذه الرؤية بأنّ "الوجود الإمكاني" يتشكّل من حيثيتين غير متناقضتين وهما: الغيب، والشهادة. 
5- لا تؤمن هذه الرؤية بوجود عداءٍ مع أي أحدٍ، أو دينٍ، أو اعتقادٍ على وجه الكرة الأرضية، فالتشريع الإسلامي وكذلك رؤيته العقائدية هي رؤية سلميةٌ تسلّم بحيثيتي الأخوة الدينية، والأخوة البشرية .
6- تؤمن هذه الرؤية الكونية بحقيقة أنّ الناسَ جميعاً هم "خلق الله"، وبالتالي لا مجال لأي فوقية أو دونية بين البشر.
7- تؤمن هذه الرؤية بحقّ البشرية في الخلاص من الظالمين، وبالتالي فإنّ الغيرية ليس لها أي مطرح هنا إلا في هذا السياق. وهو سياقٌ مبتنٍ على مفهوم الرحمة الإلهية بمعناها الواسع.
طبعاً، لكلٍّ من هذه الأسس الأدلة الخاصة بها -وهي موجودة في التراث الفكري للإمام الخميني والسيد القائد- والسياق المعرفي الذي ينبغي طرحه في مقارنة مع بقية الطروحات التي تناولت موضوع "الغيرية"، والتي يتبنى بعضها الرؤية الكونية الإسلامية لكن نختلف معه في تفسير بعض النقاط أعلاه بشكل مفصلي (كما فعل فتحي المسكيني، الغيرية والاعتذار أو الفلسفة ومسألة تحريم الصور، في تفسيره لموضوع الغيب والشهادة وتأثير ذلك على قضية "الهوية" أي هوية الذات وهوية الآخر). 

نعود الآن إلى بيان الخطوة الثانية للثورة الإسلامية لسماحة الإمام الخامنئي (دام ظله) لنستخلص أهم مواضع تطبيق هذه الرؤية:
1- شعارات الخطوة الثانية مبنية على أسس فطرية: الفطرةُ في هذه الرؤية الكونية ضمانة لاستقرار القيم والأهداف على أرضيةٍ يتساوى فيها جميع البشر، لأنها تلبي تلك النوازع الأصلية التي خلقها الله فيهم، ولا يمكنُ بالتالي أن يرتفع شعارٌ في الثورة الإسلامية مخالف للفطرة، ما يشكّل طريقاً واسعاً لردم الهوّة بين الجماعات البشرية بمختلف أطيافها. يقول الإمام القائد دام ظله: "يُمکن افتراض مدّة زمنیّة معیّنة وتاريخ إنتهاء وإنقضاء لکلّ شيء، إلا أنّ الشعارات العالمیة لهذه الثورة الدينیة مستثناة من هذه القاعدة، فهي لن تكون عديمة التأثیر والفائدة أبداً، لأّنّها متجذرّة في فطرة الإنسان في جمیع العصور. فالحريّة والأخلاق والمعنوية والعدالة والاستقلال والعزّة والعقلانیّة والإخوّة لا يختص أيّ منها بجیل أومجتمع دون غیره، حتى يتألق ويزدهر في حقبة زمنیة ويأفل في اُخرى. لا يمکن أبداً تصوّر شعب يُعرض عن هذه الآفاق المبارکة".
2- وجود العدو: إن فطرية المبادئ والأهداف التي بنيت عليها الثورة الإسلامية، والتي شكّلت هويتها العميقة وأعادت ترتيب وعي الجماهير الثائرة بماضيها وحاضرها، كانت هي ذاتها سبباً في وقوف الـ"غير" بوجهها (الـ غير، يعني ذلك المفارق للمبادئ الفطرية تحديداً)، فهذا الغير عدو، ليس للثورة فقط بل لنوع الإنسان. يقول القائد حفظه الله: "لیست الجمهورية الإسلامیة متحجّرة وعديمة الإحساس والإدراك مقابل الظواهر والظروف المتجدّدة، لکنّها ملتزمة أشدّ الالتزام بأصولها ومبادئها، وتتحسّس بشدّة لحدودها الفاصلة بینها وبین منافسیها وأعدائها. وهي لا تهمل أبداً أطروحاتها الأساسیّة، ومن المهمّ بالنسبة لها أن تعرف لماذا تبقى وکیف تبقى. ولا شكّ في أن الفجوة بین ما ينبغي وما هو واقع، قد عذّبت ولا  تزال تعذّب الضمائر المنادية بــ[تحقیق[ المبادئ، بید أنّ هذه الفجوة يمكن طیّها وتجاوزها".
3- العدو هو "المستكبر": تتضح أكثر فأكثر هوية الـ "غير" المفارق والأقصى الذي يشكل حالة شاذة عن الفطرة الإنسانية ذات النشأة الإلهية، العدو هو المستكبر، و"الأنا" بهذا اللحاظ هي أنا تجمع كل مستضعف، في مظهرٍ لتكثيفٍ أنطولوجي أكدته الآيات القرآنية التي تناولت قضية الاستكبار والاستضعاف والخلافة الإلهية. ومع ذلك، فإن الثورة الاسلامية في علاقتها مع هذا الآخر هي ثورة رحيمة لا تبادر بالعداء. 
يقول السيد القائد (حفظه الله): "لقد كانت ثورة الشعب الإيراني الإسلامية قويّة، لکنّها عطوفة ومتسامحة بل مظلومة أيضاً. ولم ترتکب أعمالاً متطرّفة وانحرافیّة والتي سبّبت العار لکثیر من النهضات والحرکات. ولم تُطلق الرّصاصة الأولى في أيّ معرکة حتّى مع أمريکا وصدّام، وعملت في کلّ الحالات على الدفاع عن نفسها بعد هجوم العدو علیها. لم تكن الثورة منذ بداياتها وإلى يومنا هذا عديمة الرحمة ولا سفّاکة للدماء، وفي الوقت عینه لم تكن  منفعلة ولا متردّدة.[بل] وقفت علانیّة وبشجاعة مقابل العتاة والمستكبرين ودافعت عن المظلومین والمستضعفین.  وهذا النطاق الواسع من العمل العالمي والإقلیمي إلى جوار مظلومي العالم، هو مصدر اعتزاز وافتخار لإيران وللإيرانیین، وسیبقى کذلك إلى الأبد".
4- ضرورة الوعي بالتاريخ لبناء الذات: تشكّل مسألة وعي التاريخ الخاص لأي جماعة بشرية معبراً ضرورياً لرسم حدود الذات وفهم سيرورتها الانثروبولوجية ليساعدها على الاستمرار وتطبيق تلك البنى الفكرية الفوقانية التي تحتكم إليها في سيرها. إن وعي التاريخ، عملية مستمرةٌ، وهي مهمّة كل جيلٍ، خصوصاً أن العبث بالتاريخ من ضمن الخطط الدائمة للعدو، يقول السيد القائد: " إنّ أعداء الثورة يعملون، وبدوافع قويّة، على تحريف الماضي وحتّى الحاضر ونشر الأکاذيب، ويبذلون في سبیل ذلك الأموال ويستفیدون من کل الأدوات والوسائل. وقُطّاع طرق الفکر والعقیدة والوعي کُثر، ولا يمکن سماع ومعرفة الحقیقة عن طريق العدوّ وجنوده".
وهو ما أشرنا إليه من الإقصاء الرمزي للآخر، في كون العدو يحاول أن يشيطن المقاومة والثورة الإسلامية، فيضع بذلك حدوداً سميكة بينها وبين الآخر الغريب عنها، ويقطع جسور التواصل والمعرفة. فعملية التجهيل، بل التعريف المغلوط بالثورة الاسلامية، هي عملية إقصاء رمزي تلعب فيه القوى العظمى دوراً خطيراً في اختلاق منظومة من الدالات الرمزية (في الخطاب، والثقافة، والإعلام، والسينما، والقوننة، وغير ذلك) تقوم بغزو عقل "الآخر" أي المجتمعات الأخرى، وتخلق بذلك لها عدواً رمزياً ينبغي الانفصال عنه بالضرورة. هكذا يمارس الاستكبار العالمي دوره في اللعب على مفهوم الغيرية بطرق ذكية وناعمة كما أشار لذلك السيد القائد في العديد من المناسبات والخطب.
5- وعيُ الذّات الثورية عمليةٌ غير مسبوقة: ونقصد بذلك أنَّ الثورة الإسلامية بمشروعها العالمي هذا، لم تبتنِ على سوابق ثورية وبالتالي فهي ليس مبنية على رد فعل على تجارب مشابهة أو قريبة منها. لم يكن ذلك أبداً. وهذا أمرٌ يشكّل عنصر قوّة أصيلة في هذه المنظومة المعرفية. يقول السيد القائد (حفظه الله): "لم يکن لدينا أيّ تجربة سابقة ونموذج يُحتذى به، ومن البديهيّ أنّ الثورات المارکسیّة وأمثالها لا يمکن عدّها نموذجاً لثورة انبثقت من صلب الإيمان والمعرفة الإسلامیّة. لقد بدأ الثّوار الإسلامیّون مشروعهم من دون نماذج وتجارب، ولم تتحقق الترکیبة بین الجمهورية والإسلامیّة، وأدوات تشکّلها وتطوّرها إلا بالهداية الإلهیّة وبفضل القلب النیّر والفكر العظیم للإمام الخمینيّ".
6- نبذُ الضعف: تتجلّى قوة طرح الثورة الإسلامية في بلورة مفهوم حول الذات غير مرتبط بأي وجه من الوجوه بموقفها من الـ غير إن كان من منطلق الدونية أو الفوقية، فهي تعتمد على مبدأ الاقتداء والتمثل بالقوة الإلهية كقوةٍ أعلى لا يدانيها شيءٌ، فهي إذا لا تُنافِسُ ولا تنافَس، ولذلك تكون الذاتُ مظهراً للقوة والقدرة بما هي ذات مفطورة على الاهتداء بالله. يقول الإمام القائد: "لقد أوصلت الإدارة الجهادية المستلهمة من الإيمان الإسلامي والإيمان بمبدأ "نحن قادرون" الذي علّمه الإمام الخمیني الجلیل لنا جمیعاً، إيران إلى العزّة والتقدّم على جمیع الأصعدة."
7- الثورة الإسلامية فتحت بوابة الوعي: لقد قدمت الثورة الإسلامية خدمة جليلةً للناس، من حيث فتح أبواب الوعي بالذات وبالآخر، من دون أي حدود، إذ ليس في البنى العميقة وكذلك الممارسات الخاصة بالثورة وقيادتها، أي قصْرٍ وتحديد للأطر الفكرية للناس وحصرها مثلا ببعض النخب والـ "متنورين". المعرفة متاحة للجميع. ولا قيود تضعها فئة برجوازية أو صناعية تعزز القيم الاستهلاكية مثلاً كـ "ميكانيزمات" لاواعية تدفع بالناس إلى عدم الاعتناء بمظلومية البشر. هذا الأمر عزّزّ كثيراً قدرة الشباب على فهم أنفسهم وتاريخهم وكذلك فهم مجريات السياسة الدولية ومصائبها وجرائمها، والاقتراب أكثر فأكثر من الآخر المختلف دينياً وإثنياً وحضارياً. 
يقول السيد القائد (حفظه الله): "ارتقت الثورة بمستوى التفكیر السیاسي لأبناء الشعب ونظرتهم للقضايا الدولیّة بنحو مذهل.  وأخرجت عملیات التحلیل السیاسي وفهم القضايا الدولیة في موضوعات من قبیل، جرائم الغرب وخصوصاً أمريکا، وقضیة فلسطین والظلم التاريخي الذي حلّ بشعبها، وقضیة إشعال القوى المستكبرة للحروب وممارساتها الخبیثة وتدخّلاتها في شؤون الشعوب وما إلى ذلك، أخرجتها من كونها محصورة بشريحة محدودة ومعزولة تُعرف بــ "المستنیرين"، فانتشرت مثل هذه الاستنارة بین عموم الشعب وفي کلّ البلد وعلى مستويات الحیاة كافّة، وأضحت مثل هذه القضايا واضحة ممکنة الفهم حتّى للأحداث والیافعین".
8- الموقف من المنظومات الأخلاقية للعالم الغربي: إن إحدى إنجازات الثورة الإسلامية التي يطلب السيد القائد الحفاظ عليها واعتبارها سمةً فريدة لا يصح التخلي عنها هو الارتقاء المعنوي والأخلاقي، بل إن التخلي عنها إذا حصل، سيعيدُ الأمور إلى مراحل الانحطاط. إنّ معرفة الذات والآخر، بشكل دقيق، جعلت من الإمام الخميني (قدس سره) النموذج الأبرز في جانبه المعنوي والقيمي والأخلاقي، وذلك بسبب عدم وقوعه تحت جاذبية النموذج الغربي، وصناعته للثورة الإسلامية وفق النموذج المعنوي الإسلامي الأصيل. هذان الاتجاهان القيميان المتعارضان، إنما يعودان في جذورها إلى ذلك الافتراق والانفصال الخطير الذي قام به الغرب بسبب اعتماده على قيم الدنيوة والعلمنةِ وفصل الدين عن السياسة. إن هذا الإنجاز المعنوي في هذا العصر المادي من معجزات الثورة الإسلامية، يقول السيد القائد: "لقد تولى ذلك الإنسان المعنوي العارف الورع المنزّه عن زخارف الحیاة والمظاهر الماديّة رئاسة بلد، تعتبر مصادر إيمان شعبه ذات جذور عمیقة للغاية. ومع أن يد التطاول للإعلام المروّج للفساد والتحلّل طوال العهد البهلوي قد وجّهت لهذه المبادئ ضربات شديدة، وجلبت مستنقعاً من الأدران الأخلاقیّة الغربیة إلى داخل حیاة الطبقة المتوسطة وخصوصاً الشباب، إلا أن التوجّه الديني والأخلاقي في الجمهورية الإسلامیة اجتذب القلوب الموهوبة والنورانیة، ولا سیما الشباب، فتغیرت الأجواء لصالح الدين والأخلاق".
9-    رسم الحدود في العلاقة مع الآخر: يعزّز السيد القائد في هذا البيان، من قيمة معرفة الذات والآخر، عبر دعوته إلى : "تحديد العلاقات الخارجية، وتحديد الأطر والحدود مع العدو"، وكذلك ضرورة أن يقوم الشباب الثوريّ بترويج قيم الثورة وتقريبها إلى الـ الآخر الذي يقوم العدو بتعمية فطرته وبصيرته عن منجزات الثورة الإسلامية.
يقول السيد القائد (حفظه الله): "تشهد الساحة العالمیة الیوم ظواهر تحققّت أو هي على وشك التحقّق والظهور: الحركة الجديدة لنهضة الصحوة الإسلامیة على أساس نموذج المقاومة بوجه هیمنة أمريكا والصهیونیة، وفشل سیاسات أمريكا في منطقة غرب آسیا وعجز حلفائها الخونة في المنطقة، واتساع ]رقعة[ الحضور القوي لسیاسة الجمهورية الإسلامیة في غرب آسیا، وانعكاساته الواسعة في كلّ العالم المهیمن". 
فلذلك لا بد من إدراك خطر هذا العدو، ووضع حدود لا مع "الآخر" بل مع هذا العدو الذي يشيطن الآخر! يقول السيد القائد إنه لا بد من الحفاظ: " على الحدود الفاصلة بینها  (أي الحكومة) وبینهم بدقة، ولا تتراجع عن قیمها الثورية والوطنیة خطوة واحدة، وأن لا تخاف من تهديداتهم الجوفاء، وأن تأخذ في جمیع الأحوال، عزّة بلادها وشعبها بعین النظر، وتعالج مشاکلها الممكنة الحلّ معهم بطريقة حكیمة، ووفق المصالح، وبالطبع من الموقع والمنطلق الثوري. أمّا فیما يخصّ أمريكا، فإنّ حلّ أيّ مشكلة غیر متصوّر معها، والتفاوض معها لن يعود سوى بالخسائر والأضرار المادية والمعنوية".

خاتمة
لقد قمنا في هذه المقالة باستخلاص أهم الإشارات الواردة ضمن بيان الخطوة الثانية للثورة الإسلامية، التي تدور حول محور "الغيرية"، في سبيل تحديد أهم المسؤوليات الملقاة على الأجيال التالية للثورة الإسلامية ، في حفاظها على شعارات الثورة وبرامج عملها، والانتقال بها إلى مستوى أعلى من العمل والمواجهة والتقدم في هذا العالم الذي تحكمه طغمة مستكبرة تعمل على تفتيت الاجتماع البشري بألف طريقةٍ، وتسبب له الويلات والخصومات، والابتعاد تدريجاً عن مركز قوته الإنسانية.
إن آمال الثورة الإسلامية كبيرة جداً، وتضحياتها ضخمةٌ، وكل ذلك معلّقٌ على قيام الشباب الثوري بمهامها بقوة ووعي وذكاء.

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir