قال قائد الثورة الإسلامية، الإمام الخامنئي، في لقاء مع جمع من تلاميذ المدارس، بشأن أفول أمريكا: «كثيرون من المحلّلين السياسيّين حول العالم يعتقدون بأنّ أمريكا تسير نحو الأفول وتذوب شيئاً فشيئاً. ليس هذا شيئاً نحن مَن ندّعيه - طبعاً هذا ما نعتقده أيضاً - لكنّ المحلّلين السياسيّين حول العالم يقولون هذا الأمر».
ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي مقالة كتبها الخبير في القضايا الأمريكية والدولية السيد حميد رضا غلام زاده، وهو مترجم كتاب المجتمع المنحل [The Decadent Society]، ويتطرق فيها إلى كيفية اكتساب أمريكا القوة وأفولها في القرن الماضي.

.....

كتب المفكر السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما، في العدد الثاني من مجلة Foreign Affairs عام 2019، في شرح حول كتابه الهوية «لا يمكن للديمقراطية الليبرالية أن توجد دون هوية وطنية تحدد القواسم المشتركة بين المواطنين»1. بالإضافة إلى العرق وجذور والهوية المشتركة التاريخُ المشترك هو أيضاً المكوّن للأواصر والأساس لتشكيل أي شعب. لكن كما يسأل الدكتور جيل ليبور، مؤلف كتاب «هذه الحقائق: تاريخ الولايات المتحدة»: [These Truths: A History of the United States] «عندما أعلنت الولايات المتحدة استقلالها عام 1776، تحولت إلى حكومة. لكن هل حوّلها شيء ما إلى شعب؟ وفق اعتقاده، رأى معظم الأمريكيين لوقت طويل بعد الاستقلال أن الولايات المتحدة ليست شعباً، بل إنها مثلما يظهر من اسمها اتحادُ ولايات»2. لقد تشكلت الولايات المتحدة الأمريكية بحضور المهاجرين الذين قدموا إلى القارة الجديدة من أعراق وجنسيات أوروبية مختلفة - وآسيوية لاحقاً - ودخولهم إلى هذه الأرض هو البداية التاريخية، وكان من وجهة نظر المهاجرين هو «فتح الجنة»3، وفي نظر السكان الأصليين إبادة ومذبحة وسفك دماء.4 في المراحل لاحقة أيضاً، كان دخول الأفارقة البداية التاريخية التي قسمت سكان هذه الأرض إلى عبيد وملّاك.

القرن التاسع عشر هو ذروة الافتراق في التاريخ الأمريكي. بالإضافة إلى سرقة أراضي السكان الأصليين وتهجريهم القسري إلى الغرب،5 وبالإضافة إلى معاناة الزنوج والعبيد، الأمر الذي وضحَته رواية «كوخ العم توم» وتحويل هارييت توبمان6 إلى أسطورة خلاصهم، وقف البيض أيضاً على جانبين مختلفين من التاريخ ضد بعضهم بعضاً، وكان الجنرال روبرت لي في جهة، والجنرال يوليسيس غرانت في الجهة المقابلة، قائدَي هذه الحرب.

قال جون كالهون، وهو سياسي أمريكي، عام 1848، إن الحكومة الأمريكية هي «حكومة الرجال البيض»، وكذلك قال ستيفن دوجلاس، وهو سياسي أمريكي آخر، بعد عشر سنوات: «هذا البلد بناه آباؤنا على أساس كونهم بيضاً، وقد بناه رجال بيض لمصلحة الرجال البيض وأجيالهم المقبلة»7. لكن أبراهام لنكولن رأى مفتاح الفوز في الحرب في معارضة هذا الرأي وإقراره إعلان إلغاء الرق وحرية العبيد. مع ذلك، لم يجلب هذا الإعلان ولا الملحق الدستوري المرتبط بذلك ولا إهداء تمثال الحرية إلى أمريكا، لم يجلب الحرية إلى المستعبدين والزنوج في الولايات المتحدة في هذا القرن.

 

الانقسامات في عمق التاريخ الأمريكي

في الواقع، أدت هذه الخطوة إلى مزيد من ترسيخ الانقسامات والاختلافات في قلب المجتمع الأمريكي في القرن اللاحق. ارتبط القرن العشرين بالفقدان التدريجي لعقيدة مونرو، وأبدت الولايات المتحدة مزيداً من الاهتمام للعب دور دولي، ما أدى في النهاية إلى التدخل في الحرب العالمية الثانية وتعزيز القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية لواشنطن. كان ازدهار الولايات المتحدة في منتصف هذا القرن ملحوظاً لدرجة أنه ذاع مصطلح «القرن الأمريكي»8 على الألسن، وأدى إلى تسريع التقدم والتطوير للإمكانات الأمريكية في منافسة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. لكن المجتمع الأمريكي أيضاً تقدم بالتزامن مع هذه التطورات وسعى إلى تحقيق الشعارات والمُثل التي كان يسمعها. طوت حركة الحقوق المدنية صفحة التاريخ الانقسامي وهذه المرة وُضع العنصريون في الهامش تدريجياً ومُنح الزنوج حقوقاً. مع ذلك، كان تاريخ هذه التطورات سردية للمواجهة والتضاد وليس تحقيق أهداف مشتركة. كان انهيار الاتحاد السوفييتي في العقد الأخير من هذا القرن مواتياً جداً لـ«النزعة الاستثنائية الأمريكية»9 لدرجة أن فرانسيس فوكوياما أطلق على تحوّل أمريكا إلى القوة العظمى في عالم أحادي القطب بعد الحرب الباردة اسم «نهاية التاريخ».

 

تلاشي الحلم الأمريكي

كانت بداية القرن الحادي والعشرين بداية النظرة الواقعية إلى أبعاد مختلفة للولايات المتحدة. كانت الحريات المدنية والمساواة بين الأعراق والأجناس على نحو أقرّ فيه باراك أوباما أنها لم تتحقق في الذكرى الخمسين لخطاب مارتن لوثر كينغ «الحلم الأمريكي»10. كانت الحركات الناجمة عن صرخة «لا أستطيع التنفس»11 و«حياة الزنوج مهمة»12 تفسيراً لحلم تحقيق هذه المُثل على يد رئيس ذات بشرة سمراء. تشكلت حركة «احتلوا وول ستريت»13 احتجاجاً على التمييز الاجتماعي والاقتصادي الناتج من وعود الرأسمالية، عبر المواجهة بين البنوك الرأسمالية وامتلاك الناس المنازل. يعتقد مايكل ليند في كتابه «حرب الطبقات الجديدة» أن الطبقة العاملة الأمريكية قد نهضت في مواجهة «الطبقة المتفوقة» الصغيرة ذات «الخصائص الإدارية»، التي تشكل بين 10% و15% من المجتمع، لكن لها تأثير كبير في الحكم والاقتصاد والمجتمع العلمي.14 أظهر أنجوس ديتون، الحائز «جائزة نوبل» في الاقتصاد، وآن كيس، في كتابهما الأخير Deaths of Despair [موت اليأس]15، كيف جعلت الرأسمالية فلسفة الشعب الأمريكي ومعنى حياته خاويين، فيلجأ الناس إلى تناول المهدئات والكحول والمخدرات لتقليل ضغوط الحياة، وقد أدى هذا النهج المحبِط إلى زيادة حالات الانتحار والوفيات بسبب تناول جرعات زائدة من المخدرات خاصة بين الطبقة الوسطى البيضاء.16

أدت الثورة الجنسية والحريات الاجتماعية إلى اتجاه تنازلي في الزواج واتجاه تصاعدي في الطلاق، والأهم من ذلك انخفاض معدل المواليد في الولايات المتحدة. روس دوثات، وهو مؤلف Decadent Society [المجتمع المحلول]17 والكاتب في صحيفة The New York Times، يعرّف في كتابه دور الانخفاض لمعدلات المواليد في العالم الغربي كأحد عوامل أفول القوة الأمريكية. العوامل الأخرى التي يشير إليها هي: الجمود السياسي، وعجز الصناعة الثقافية عن خلق هويات وأفكار جديدة، وتوقف الابتكار والتقدم التكنولوجي. الأشخاص الذين سمعوا عن «حرب النجوم» في السينما والسياسة في النصف الثاني من القرن العشرين وكانوا يسعون وراء أحلام الرحلات الفضائية (Odyssey 2001) يواجهون الآن مشكلة مياه الشرب في فلينت ونيوارك نيوجيرسي وتشارلستون وميلووكي... بالإضافة إلى خطوط الأنابيب تهالكت الطرق والجسور والسكك الحديدية وغيرها من البنى التحتية بشكل ملحوظ أيضاً.

كشف تدهور البنية التحتية خلال أزمة كورونا عن نفسه بأكثر الطرق شفافية وعلانية، ومع أن الجو السياسي الأمريكي ألقى باللوم كله بشأن كورونا على عاتق دونالد ترامب ومواقفه العجيبة والغريبة، لكن قلة أسرة المستشفيات والإمكانات ومستلزمات السلامة للطواقم الطبية وأجهزة التنفس الصناعي وما شابه ذلك في الولايات الديمقراطية والجمهورية كافة، وفي آخر المطاف نهب التجهيزات والمعدات من الدول الأخرى، تدل كلها عن عجز الولايات المتحدة عن توفير الاحتياجات الأساسية والأمن لمواطنيها. وصفَ جورج باكر في مقالة له في صحيفة The Atlantic وضع الولايات المتحدة خلال كورونا بـ«الحاكمية المهزومة»18، وصرّحت الدكتورة إيمي تشوا، وهي أستاذة القانون في جامعة ييل ومؤلفة كتاب «القبائل السياسية»، في مقالة في مجلة Foreign Affairs19: «كشفت جائحة كورونا أن الولايات المتحدة تقترب من نقطة الانهيار النظمي. في خضم الأزمة، يبدو أكثر فأكثر أن هذا البلد يسير على طريق العقاب السياسي العنيف».

 

أفول الهيمنة

على المستويين الوطني والدولي، تواجه القوة العظمى التي زعمت أنها تحدد مصير الحروب في القرن الأمريكي الآن مفهوم «الحروب التي لا تنتهي» ولا تزال تنفق مليارات الدولارات على هذه الحروب. دولةٌ من دون أن ينتهي تدخلها في صراعات البلقان لم تجد أي فرصة لدور في العملية السياسية للحرب السورية، في واحدة من أكثر القضايا إستراتيجية في السياسة العالمية. في مجال الاقتصاد العالمي أيضاً، تجد الولايات المتحدة أن موقفها قد ضعفَ وعليها أن تتصارع مع منافس عنيد مثل الصين. أدى الخروج من التعددية وتقليص التعاون الدولي في عهد ترامب إلى فقدان دور القيادة الأمريكية أكثر، حتى أعرب ماكرون عن شكوكه في قوة القيادة العالمية لواشنطن،20 واستخدم مؤتمر ميونيخ للأمن مصطلح «من دون الغربية» أو «أفول الغرب» (Westlessness)21 في اجتماعه الأخير كمحور رئيسي لمناقشاته وتبهيت القيم والمعايير الغربية وإبراز انحراف أمريكا وأوروبا عن هذه المثل العليا، ونتيجة لذلك رغبة الدول الأخرى عن التشبّه بها.

إن انخداش الهوية الوطنية والتضاد العلني بين حقائق المجتمع الأمريكي ومُثل العقود الماضية وشعاراتها خلقا أزمة لهوية أمريكا. الناس الذين هم في تضاد مع الظروف القائمة حتماً سوف يضطرون إلى البحث عن هويتهم في الماضي، وهذا الماضي يفتقر إلى «التاريخ المشترك» ومليء بالمواجهات والتضاد. لهذا إن إيزرا كلاين يرى في كتابه أن هناك هويتين حزبيتين متفوقتين فقط في المجتمع الأمريكي تضعان سائر مصادر الهوية تحت ظلالهما: «اليوم، تحولت الهوية السياسية للأمريكيين إلى "هوية متفوقة". إن ملصق الديمقراطيين والجمهوريين يبتلع على نحو متزايد المصادرَ الأخرى للهوية بما في ذلك العرق والدين والجغرافيا... الهويات الحزبية المتفوقة هي "المحرك الدافع نحو القطبية" في المجتمع و"الفجوة الاجتماعية الأكثر حدة" في البلاد، وهي أكثر حدة حتى من الفجوة العرقية. هذه الفجوة الحزبية خطر مميت»22.

مع أنه في الساحة الدولية يُنظر إلى مشكلة الأفول لقوة الولايات المتحدة أساساً من منظور الدور السياسي والعسكري والاقتصادي للولايات المتحدة في الساحة العالمية وتقلباتها، لكن ما يحدث داخل المجتمع الأمريكي على الساحة المحلية وفي الطبقات الاجتماعية من الاحتجاجات والاضطرابات التي أعقبت مقتل جورج فلويد إلى صراعات الانتخابات ثم الهجوم على مبنى الكونغرس في 6 كانون الثاني/يناير كلها نتيجة بديهية لقطبية الفجوة الاجتماعية المتجذرة في هذا البلد على مرّ قرون. لهذا، يرى ريتشارد هاس الهجوم على مبنى «الكابيتول هيل» الذي هو رمز المؤسسة الديمقراطية بداية حقبة «ما بعد أمريكا»23. ولهذا، يحذر فرانسيس فوكوياما: «الأمريكيون في حالة انقسام إلى أجزاء أصغر مبنية على أساس على الهويات الصغيرة، ما يهدد إمكانية التفكير والسلوك الجماعي من المجتمع بوصفه كياناً واحداً»24.

 

الهوامش:

(1) https://www.foreignaffairs.com/articles/2019-02-01/stacey-abrams-response-to-francis-fukuyama-identity-politics-article#author-info

(2) https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/2019-02-05/new-americanism-nationalism-jill-lepore

(3) Conquest of Paradise.

(4) A People's History of the United States, Howard Zinn, Harper Perennial Modern Classics, 2015.

(5) Unworthy Republic: The Dispossession of Native Americans and the Road to Indian Territory, Claudio Saunt, W. W. Norton & Company, 2020.

(6) Harriet Tubman.

(7) https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/2019-02-05/new-americanism-nationalism-jill-lepore

(8) كان مصطلح القرن الأمريكي (American Century) هو العنوان الذي استخدمه هنري لوس في مجلة Time عام 1941 لوصف دور أمريكا في السياسة العالمية، وسرعان ما صار شائعاً في الأدب السياسي للولايات المتحدة.

(9) American Exceptionalism.

(10) https://edition.cnn.com/2013/08/28/politics/obama-king-speech-transcript/index.html

(11) I can’t breathe.

(12) Black Lives Matter.

(13) Occupy Wall Street.

(14) The New Class War: Saving Democracy from the Managerial Elite, Michael Lind, Portfolio / Penguin Publishing, 2020.

(15) Deaths of Despair.

(16) Deaths of Despair and Future of Capitalism, Angus Deaton & Anne Case, Princeton University Press, 2020.

(17) Decadent Society: How We Became the Victims of Our Own Success, Ross Douthat, Simon & Schuster, 2020.

(18) https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2020/06/underlying-conditions/610261/

(19) https://www.foreignaffairs.com/reviews/review-essay/2020-06-01/divided-we-fall

(20) https://apnews.com/article/1cf7908da5bfc29d272e6dad34de0305

(21) https://securityconference.org/en/publications/munich-security-report-2020/

(22) Why We’re Polarized, Ezra Klein, Simon & Schuster, 2020.

(23) https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/2021-01-11/present-destruction

( (24Identity: The Demand for Dignity and the Politics of Resentment, Francis Fukuyama, Farrar, Straus and Giroux, 2018.

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir