صرّح الإمام الخامنئي خلال المراسم المشتركة لتخريج طلّاب جامعات الضبّاط التابعة للقوّات المسلّحة التي أقيمت في جامعة الإمام علي (ع): «تلقّى الكيان الصهيوني هزيمة لا يمكن ترميمها من الناحية العسكريّة والاستخباريّة أيضاً. إنّ هذا الزلزال المدمّر استطاع تدمير بعض الأُسس الرئيسيّة لحكم الكيان الغاصب. من المستبعد أن يتمكن الكيان الغاصب رغم الضجيج الذي يفعله كله والدعم كافة الذي يتلقاه من الغربيين اليوم من ترميم تلك الأسس».[1]

الأمر الواضح هو أن الرأي العام لدى الناس في المجمل، أنهم لا يشككون في هزيمة الكيان الصهيوني العسكرية والاستخباراتية، لكن ما كان مهماً بالنسبة لهم في هذا القول هو مدى كون هذه الهزيمة غير قابلة للتعويض بالنسبة للكيان الصهيوني. يسعى الكاتب الحصول على إجابة موجزة ومعقولة.

أولاً، من المؤكد أنه لم يكن لأي من قادة المنطقة والعالم نفس التجربة والخبرة والتبحّر في ملف قضية فلسطين مثل الإمام الخامنئي. دخل سماحته ميدان النضال السياسي منذ شبابه باهتمام وجدية ملحوظين، ولم يترك قضية فلسطين حتى اليوم. وإذا كان سماحته في زمن ما قبل الثورة الإسلامية، ناشطاً في المطالعة والبحث في هذا المجال، أو أقصاه في الحديث مع نخب العالم العربي، لكنه بعد الثورة الإسلامية وتأسيس الجمهورية الإسلامية، دخل هذا المجال بشكل جدي وعملي. لذلك ينبغي اعتبار سماحته جامعاً المنهجية النظرية والخبرة العملية في هذه القضية، لحوالي 6 عقود من عمره.

إذا كان سماحته في ثمانينيات القرن الماضي ممثلاً للإمام الخميني (قده) وجمهورية إيران الإسلامية في قضية فلسطين والمقاومة الإسلامية في لبنان، فإنه بعد انتخابه قائداً للثورة الإسلامية من قبل مجلس خبراء القيادة عام 1989، تولى هو نفسه مسؤولية هذه القضية ولم يعيّن ممثلاً عنه في هذه القضية إلا بعد أن أثبت الحاج قاسم كفاءته وجدارته في هذا المجال فقام سماحته بتسليم هذه القضية إلى ذلك القائد الإقليمي في محور المقاومة.

إن أهمية فلسطين بالنسبة للإمام الخامنئي وخبرة آرائه ونظرته ونضج أفعاله، واضحة تماماً لدى الصديق والعدو. ولذلك فإن آراءه في هذا المجال تحمل حكمة بحيث حتى إن الصهاينة والأميركيين يظهرون حيالها الاضطراب والقلق على وجوههم. الاضطراب الناجم عز الخوف من تحقق توقعاته بشأن المستقبل المخيف للكيان الصهيوني وداعميه.

كل هذا كان مقدمة لأن صدق وصوابية كلام سماحته في قضية فلسطين والمقاومة قد ثبت للجميع مراراً وتكراراً. ولذلك، فإن القضية الأساسية في كلامه حول كون الهزيمة العسكرية والاستخباراتية غير قابلة للترميم هي فهم المعنى الباطني والحكمة من هذا القول.

للحصول على إجابة دقيقة وصحيحة، لا بد من إلقاء نظرة على البُنى الذهنية والعينية العسكرية والأمنية للكيان الصهيوني. وما هو مجموع هذه البُنى الذهنية والعينية، أو في الواقع ما تقوم عليه هذه البُنى، هو عقيدة الأمن القومي الصهيوني والعقيدة العسكرية.

إن العقيدة العسكرية الصهيونية هي نتيجة لخبرة الصهاينة الغنية والعميقة والواسعة في الأنشطة السرية والعسكرية والاستخباراتية والإرهابية طوال الأعوام من 1920 إلى 1948، بالإضافة إلى السنوات الأولى لتأسيس الكيان الصهيوني، الذي تأسس بواسطة معمار الكيان، ديفيد بن غوريون بصفته رئيسا للحكومة وأول وزير حرب له، حيث تمت صياغة عقيدة الأمن القومي والعقيدة العسكرية للكيان وإملاؤها على الجهاز الحاكم. ولم يقتصر هذا الإنشاء الأمني والعسكري على مرحلة حكمه، بل استخدمَ بمثابة منهجية عمل لقادة الكيان اللاحقين، واستمر حتى اليوم. لسنوات طويلة، يحاول رؤساء أركان القوات المسلحة الصهيونية ووزراء الحرب في هذا الكيان، عندما يقدّمون العقيدة العسكرية لعهدهم، أن يبنوا عقيدتهم على مبادئ بن غوريون العقائدية وبالتالي إضفاء الشرعية عليها.

تعرّف النظرية الأمنية في قاموس الجيش الصهيوني كما يلي: «النظرية العامة للجهوزية وإدارة الحرب التي تأمر بها القيادة العليا... والتي ترسم طرق تنظيم واستخدام كافة الوسائل الموجودة عند الشعب لهذا الغرض. رسم أمن البلاد على المستويات الحربية والقتالية والتكتيكية (المعركة). النظرية الأمنية هي نظرية تحول مبادئ الأمن القومي أو الاستراتيجية الكلية لبلد ما (في الواقع نفس المفاهيم الاستراتيجية) إلى أساليب عملية وتوفر إمكانية تحقيقها».

في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 1953، نشر رئيس الوزراء ووزير الحرب الصهيوني في ذلك الوقت، دافيد بن غوريون، عقيدته حول المفهوم الأمني ​​للكيان الصهيوني. تمت الموافقة على هذه الوثيقة من قبل الحكومة في نفس ذلك الزمن. يفترض بن غوريون أن هناك فقدان تناسق أساسي بين الكيان الصهيوني والعالمين العربي والإسلامي المحيط به. لذلك، يجب على الكيان أن يوصل أعداءه إلى نتيجة مفادها أنه لا توجد أيّ طريقة عملية للقضاء على الكيان الصهيوني، ويجب عليهم أن يتقبلوا وجوده. ولذلك صاغ مبادئ العقيدة العسكرية الصهيونية كما يلي:

1- الردع: لتحقيق ذلك يجب على الكيان الصهيوني أن يسعى إلى التفوق العسكري الدائم، مما يوفر إمكانية سد الفجوة النوعية. وينص هذا المبدأ على أن الكيان الصهيوني يجب أن يمتلك قوة عسكرية بحيث يجعل أيّة دولة لا تجرؤ على مهاجمته.

2- الإنذار: معلومات فعالة يمكن أن تنذر بنوايا العدو من أجل إعداد وتعبئة جيش الاحتياط. يروم هذا المبدأ إلى اكتساب الكيان التفوق الاستخباراتي والإشراف التام على المنطقة بأكملها.

3- الحسم: الزمن يعمل ضد الكيان الصهيوني وأنفاسه قصيرة نسبياً. لذلك، يجب على الكيان أن يحل الصراعات بسرعة قبل أن يهترىء. يشير هذا المبدأ إلى الرغبة في نقل المعركة إلى أراضي العدو في أسرع وقت ممكن.

4- الدفاع: حماية المستوطنين الصهاينة ضد كافة أنواع الصواريخ والقذائف وأي تهديدات أخرى لحياتهم. ويروم إلى إنشاء بُنى دفاعية ضد الصواريخ و...[2]

لقد حدد بن غوريون ثلاثة من المبادئ الأربعة للنظرية الأمنية الصهيونية: الردع والإنذار والحسم. وقد تم تطبيق هذه العقيدة حتى اجتياح لبنان عام 1982 وأثبتت نفسها إلى حد كبير. لكن لاحقاً، ومن أجل استكمالها، أضيف إليها أيضاً مبدأ الدفاع أمام حزب الله لبنان والمقاومة الفلسطينية.

لكن ما حدث مع طوفان الأقصى هو أن جميع مبادئ العقيدة العسكرية الصهيونية، التي كانت كلها هجومية وعدوانية،  تعطلت (أحد أهم أسباب ذلك هو فقدان العمق الاستراتيجي في الكيان وعجزه عن تحمّل حرب طويلة الأمد) وتبخرت فجأة في يوم السبت 7 أكتوبر، وتلاشت في الهواء، وعرف الجميع أنه «لقد انكشف المَلِكُ». (مثل مستوحى من لعبة الشطرنج)

انهارت مبادئ الردع والإنذار والحسم والدفاع في الساعات الأولى وانتشار صور عملية طوفان الأقصى. والأهم من هذا الانهيار لهذه المبادئ كان انهيار البنى الذهنية والنفسية للمجتمع الصهيوني الذي اعتاد على هذه المبادئ ونظرته للنفس متفوقاً عسكرياً واستخباراتياً منذ عقود. وكان الواقع الميداني أنه بقدر ما زاد نمو حزب الله اللبناني بعد حرب الـ 33 يوماً عام 2006 والمقاومة الفلسطينية بعد معركة سيف القدس عام 2021، شهدت إسرائيل أفولاً وزوالاً عسكرياً متزايداً، وكانت طوفان الأقصى نقطة الانفجار لهذا المسار.

هذه هي الحقيقة التي كتب عنها عوفر شيلح، الصحافي والسياسي الصهيوني، في مقال في «معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي» بعنوان «إلى أين نرحل من هنا؟» نشر يوم الأربعاء ويعترف بذلك حيث كتب: «من ناحية أخرى، يجب على من يخططون لهذه الحملة (العسكرية ضد غزة) أن يأخذوا في الاعتبار أن الرأي العام في "إسرائيل"، الذي يدعم أي عمل عسكري، يتأثر بالانهيار المنهجي الذي شهدناه يوم السبت. هزيمة كان تأثيرها أكبر وأشد من هزيمة «يوم كيبور» (يوم الغفران). إن الأهداف والأساليب العملياتية التي تم اختيارها يجب أن يتم فحصها بعناية من منظور واقعي بشأن القدرة على تنفيذها ضمن النظام الدولي المعقد، وليس فقط بسبب خطر نشوب حريق كبير في ساحات عدة. إن رمي الجيش الإسرائيلي نحو أهداف غير محددة ويصعب تحقيقها، كما حدث في حرب لبنان الثانية، أو استخدامه بطريقة مرهقة، مثل عملية «حارس الأسوار» (سيف القدس)، لن يؤدي إلّا إلى إضعاف إيمان الناس بهذا النظام المسؤول عن أمنها».[3]

يشير عوفر شليح، بلهجة متهكمة، إلى انهيار البنى النفسية والذهنية للكيان الصهيوني نتيجة طوفان الأقصى، كما يشير إلى أن الرأي العام الصهيوني لم يعد يحتمل هزيمة مذلة في غزة أو شمال فلسطين، وحدوث مثل هذا الاحتمال يعني سيجلب عملياً التدمير الكامل في البنى الذهنية والنفسية للكيان.

كتب تامير هايمان، الرئيس السابق لـ «أمان» (AMAN) والمخابرات العسكرية الإسرائيلية والرئيس الحالي لمعهد دراسات الأمن القومي: «نحن نتعامل مع حدث غير مسبوق، وبالتالي فإن التوقعات ليست ذات صلة. لقد انهارت الافتراضات الأساسية، وهذا الواقع يتطلب تفكيراً نقدياً حول المفاهيم التي رسخّت منذ زمن طويل ثقتنا بأنفسنا الشخصية والوطنية... لكن العنصر الأهم الآن هو التماسك والمودة والتضامن، ودعم الجيش الإسرائيلي والقوات الأمنية. على الناس أن يتحلّوا بالمسؤولية، وأن يتوقفوا عن إظهار جنون المؤامرات المهينة على شبكات التواصل الاجتماعي، وأن يتبعوا التعليمات الصادرة عن قيادة الجبهة الداخلية».[4]

وبذلك، تغدو إشارة الإمام خامنئي إلى كون «هزيمة الكيان الصهيوني العسكرية والاستخباراتية غير قابلة للترميم» جليّة تماماً وتجد دلالاتها بوضوح.