لقد كانت الخسائر الضخمة في صفوف الصهاينة والتي بلغ عددها مئات القتلى وآلاف الجرحى غير متوقّعة بالنسبة لتل أبيب. من ناحية أخرى، واجه الصهاينة في عمليّة «طوفان الأقصى» عمليّات واسعة وشاملة في الجوّ والبرّ، وفشلوا في الحدّ من استمرار هذه الهجمات. كما أكّد الإمام الخامنئي على أنّ الصهاينة تكبّدوا خسارة لا يمكن ترميمها في الجانبين الأمني والعسكري. ما هو تقييمكم لهذه الهزيمة التي لا يمكن أن ترمّم؟

منذ بدء احتلالهم، يعتبر الصهاينة أنّ إحدى نقاط تفوّقهم في أيّ معادلة، قدرتهم الاستخباراتيّة وتفوّقهم في هذا المجال، وهذا كان مردّه في الأعوام الأولى إلى كون إمكاناتهم وتجهيزاتهم أقلّ ممّا كان لدى الدول العربيّة، وفي الأعوام التالية كان بسبب منع وقوع أيّ مباغتة لهم والتقليص من الضربات المحتملة ضدّهم خلال أيّ مواجهة. لقد تكلّفوا كثيراً من أجل هذا الأمر ودفعوا الأموال الطائلة ومارسوا الضغوط السياسيّة على شركائهم من الدرجة الأولى، أي سخّروا لخدمتهم الأجهزة الاستخباريّة الرئيسيّة والقويّة حول العالم ودفعوها لتقديم المعلومات من طرف واحد، كما أنّهم يملكون شراكات استخباريّة واسعة في المنطقة.

في الواقع، ومع ما كان لديهم من نفوذ على المستويين الاستخباري والاقتصادي ونظراً إلى الأموال الطائلة التي دفعوها، كانوا يدّعون أنّ الأمر لا يقتصر على كونهم هم أنفسهم في مأمن من أيّ حدث كبير في المنطقة، بل لا يمكن أن يقع حدثٌ كبيرٌ في أنحاء المنطقة دون أن يكونوا مطّلعين عليه قبل وقوعه.

لقد دفعوا أموالاً ضخمة طوال أعوام وفرضوا من خلال هذا التفوّق الاستخباراتي معاهدات واتفاقيات كثيرة على دول المنطقة. على سبيل المثال، خلال الحروب التي دارت بين العرب والصهاينة ولحقت الهزيمة أخيراً بالدول العربيّة، كان التفوّق الاستخباراتي من نقاط القوّة التي تساهم دائماً في انتصار الكيان الصهيوني. وكانت الأجهزة الاستخباريّة تملك عادة التفوّق الاستخباراتي الذي يخوّلها دائماً منع حصول أيّ مباغتة من الأعداء.

كان انهزام هذا التزوير في الواقع هزيمة كبرى للقوّة الصهيونيّة، وكان في الواقع مؤلماً للغاية لهؤلاء الصهاينة وقاسياً عليهم، ولأنّ الإسرائيليّين جعلوا التفوّق الاستخباراتي أحد الأسس والأركان الرئيسيّة، فإنّ ضرب هذا الرّكن يمهّد لسلسلة من المباغتات القادمة والهجمات الاستخباراتيّة ضد هذا التعاون الاستخباراتي الإسرائيلي مع سائر الدول، فبمقدور الفلسطينيّين أن يكسروا هذا التعاون ويقطعوا هذه السلسلة.  على سبيل المثال، في ما يرتبط بمعادلات التطبيع بين الدول العربيّة والكيان الصهيوني، كان التفوّق الاستخباراتي لإسرائيل من العوامل التي دفعت الدول العربيّة إلى أن تكون تابعة لتل أبيب. فهناك معلومات خاصّة لدى القطاعات الأمنيّة تتنافس القوى الصهيونيّة للحصول عليها.

يمكن ذكر نماذج عديدة في هذا الصّدد كأمثلة وشواهد، لكن عندما تنكسر هذه الصورة التي كانت تشكّل ركناً أساسيّاً في العلاقات الدوليّة والتطبيع وفرض حضورهم على المنطقة، لا يمكن ترميم هذه الجوانب، ولا يمكن الإيحاء بأنّ الكيان الصهيوني لا ينهزم في الداخل وأنّنا على مرأى الصهاينة  ومكشوفون لديهم مهما فعلنا. لقد قدّمت العمليّة التي أنجزتها المقاومة صورة تفيد بأنّه يمكن القيام بعمل عظيم وإنجاز مهمّة ضخمة دون أن يطّلع عليها الصّهاينة.

أحدّثكم اليوم بعد مرور أكثر من أربعة أيام على هذه المعركة الكبرى وحيث لا يزال الإسرائيليّون عاجزين عن لملمة أنفسهم وهم يحتاجون إلى اتخاذ تدابير معيّنة لاستعادة استقرارهم. بات هذا الفهم يتكوّن لدى مجتمع حركات المقاومة ومجتمع الفلسطينيّين في المناطق المحتلّة من البلاد وفي الشتات وخاصّة في دولة كالأردن التي لها حدود مع فلسطين ويشكّل الفلسطينيّون نصف سكّان الأردن. من الصّعب على الصهاينة أن يدركوا إمكانيّة سيطرة الآخرين عليهم في الجانب الاستخباراتي أيضاً، هذا أمرٌ يصعب جدّاً على المجتمع الصهيوني.

خلافاً لادعاءات وسائل الإعلام التابعة للاستكبار العالمي، وعمليّة «طوفان الأقصى» منشؤها تدبير جبهة المقاومة الفلسطينيّة المتلاحمة. وقد صرّح الإمام الخامنئي في هذا الصّدد أيضاً بالقول: «أولئك الذين يقولون إنّ عمل الفلسطينيّين سببه غير الفلسطينيّين لم يعرفوا الشعب الفلسطيني، إنّهم يخطئون الحسابات هنا. إننا نقبّل جباه وسواعد المخططين المدبّرين والأذكياء والشباب الفلسطينيّين الشجعان.» كيف ترون اعتماد جبهة المقاومة الفلسطينيّة على نفسها في التخطيط والتنفيذ لعمليّة  «طوفان الأقصى»؟ كيف تجلّى هذا الإنجاز؟

ما أودّ قوله هنا حول اعتماد جبهة المقاومة الفلسطينيّة على نفسها هو أنّ النقاش الأساسي الذي دار كان أنّ الفلسطينيّين تقدّموا بفضل الله بدعم من محور المقاومة بأنفسهم خطوة تلو الخطوة، وفي السابق كانت هناك حاجة لأن تستفيد الحركات الفلسطينيّة حتماً من المستشارين وحضور سائر الأطراف حتى تتمكّن من استعراض قوّتها، لكنّها استطاعت اليوم – بفضل الله – أن تصل إلى هذا النّضج الذي يخوّلها أن تكون رائدة في التخطيط والتنفيذ للعمليّات، وفي الواقع، إنّ عمليّة «طوفان الأقصى» خطّة يذعن لكونها ناضجة من الناحية العمليّة كلّ الخبراء.

إنّها عمليّة تمكّنت من إخضاع العدوّ من الناحية العمليّة والأمنيّة أيضاً، ولا بدّ من الآن فصاعداً وقوع مثل هذه العمليّة أكثر من السابق. مرّ 75 عاماً على احتلال الأراضي المحتلّة ولم يكن مثل هذا الأمر متوقّعاً بالنسبة للإسرائيليّين ولم يكونوا يتوقّعون حدوثها، وهذا الحدث أنبأ عن امتلاك حركات المقاومة الفلسطينيّة هذه القدرة.

قد يتحدّث الإسرائيليّون عن حزب الله وإيران، وجغرافيا هذين اللاعبين وكونهما بعيدين عن جغرافيا الاحتلال هي السّبب لامتلاكهما قدرات واسعة وخاصّة. لكنّ جغرافيا فلسطين وحركات المقاومة هي جغرافيا محدودة بشدّة وقد مورست خلال الأعوام الماضية ضغوطاً كبيرة على هذه الحركات ومورست عليها ضغوطٌ كبيرة ومركّزة من الناحية الاستخباراتيّة ونُفّذت عمليّات متعدّدة وضغوط عسكريّة ضمن مختلف الأطر.

لم تكن هذه الحركات يوماً قادرة على العمل بحريّة، وإنّ الانتقال بحركات المقاومة الفلسطينيّة من حالة العزلة والتعرّض للضغوط ومن زاوية الحلبة إلى مرحلة تخوّلها شنّ عمليّة هجوميّة ومباغتة استخباراتيّة كُبرى أيضاً، فإنّ هذا الإنجاز بعيداً عن قدرات الحركات الداعمة وسائر العناصر في محور المقاومة، يُعدّ إنجازاً ضخماً يثبت قدرة الشعب والمقاومة في فلسطين على التحوّل إلى لاعب قدير وكبيرٍ في الميدان. ما نراه اليوم ونشهده ضمن عمليّة طوفان الأقصى هو نضجٌ مذهل ومحيّر للعقول برز في ظلّ الضغوط وكلّ أنواع الحظر والمنع. لا يتوقّف هذا المسار هنا وسوف يرتقي ويتنامى حتماً وهو أوجد حتى هذه المرحلة معادلة لا يمكن للعدوّ تصوّرها. نشكر الله أنّ هذه القدرة باتت بمتناول أيدي الشعب والمقاومة في فلسطين، وأنّهم بعد التدريبات استطاعوا بأنفسهم أن يستفيدوا منها ومن أنواع الدعم طيلة أعوام ليحصّلوا استقلالاً على أرض الواقع ونضجاً وذكاء وفهما في التخطيط والتنفيذ.

وأما بخصوص النقطة التي يمكن الإشارة إليها هنا فهي عبارة عن أنّ هذا المسار لو أثبت نفسه فإنّه حصيلة لتضحيات كثيرين من حركات المقاومة الفلسطينيّة، وهذا المسار النوراني فيه نجومٌ لامعة كثيرة من الشهداء رافقوا هذه المسيرة خطوة بخطوة ومرحلة تلو المرحلة منذ كانت حركات المقاومة الفلسطينيّة تستفيد من أدوات مثل الحجارة وتضحّي بالأرواح من أجل فلسطين والقدس الشريف حتى تصل هذه المرحلة التي بات فيها الردّ على جرائم الصهاينة تنفيذ عمليّة تحصد أرواح المئات من الصهاينة بمنتهى الاحتراف والقيام بإطلاق الصواريخ بمهارة، وتنفيذ عمليّة اختراق استخباراتيّة، على أرض الواقع بفطنة وذكاء واحتراف، وهذا هو في الواقع مسارٌ مشرّف ومدعاة فخرٍ وتباهٍ للعالم الإسلاميّ والعربيّ كلّه. هذا مدّخرٌ عظيم وهائل يملكه محور المقاومة وكنزٌ ثمين داخل الأراضي المحتلّة وضمن إطار هدف تحرير القدس وفلسطين.

وبقدر ما يمرّ الوقت سوف تبرز قدرات أكبر وهذه ليست نقطة النهاية بل يمكن أن تكون مساراً للاحتذاء به والقيام بتحرّكات أكثر تجلياً وظهوراً وإذهالاً. هذا سيكون إن شاء الله مساراً يعبّد الطريق أمام تحرير القدس وفلسطين بأيدي المقاومة الفلسطينيّة نفسها وسوف تقطع هذه المقاومة خطوات أكبر بكثير خلال الأعوام القادمة.

هناك نقطة أخرى لا بدّ من الإشارة إليها وهي أنّه رغم أنّ الصهاينة يسيطرون على الفلسطينيّين في جغرافيا الأراضي المحتلّة، إلا أنّه تتوفّر تقارير استخباراتيّة وتقييمات استخباراتيّة ينشرها الصهاينة ويصرّحون فيها بأنّهم لم يكونوا يتوقّعون بروز مثل هذه القوّة على مستوى النخب ومثل هذا الاحتراف بين العناصر الفلسطينيّين وحركات المقاومة وكانوا دائماً ما يوجّهون تهديداتهم الجديّة خلال الأعوام الأخيرة إلى إيران وحزب الله في لبنان ولم يكن ضمن دائرة حساباتهم وتقييمهم وجود مثل هذه القدرة والاحتراف بين عناصر المقاومة الفلسطينيّة وقد تحوّلت إلى مشهد صادم للجهاز الصهيوني والأجهزة الأمنيّة للكيان. نفس هذا الأمر باغتهم وزرع الشكّ فيهم بشأن ما يمكن أن تكون هذه الحركات الفلسطينيّة جمعته، غير ما لديها الآن وما كانوا مطّلعين عليه، لقد غزا الشكّ والترديد الأجهزة الاستخباراتيّة للكيان الصهيوني.

النقطة الموجودة هنا هي أنّ هذه الحسبة الخاطئة أوجدت سلسلة من الحسابات الخاطئة لدى الإسرائيليّين، وقد أدّت قاعدة معلوماتيّة ومعلومات خاطئة ضمن إطار نظام الحسابات للإسرائيليّين بشكل عام، فنتيجة هذه المعادلة التي كانوا يشعرون منذ سنوات أنّهم حلّوها وتخطّوها وباتوا يفكّرون بمعادلات الأطراف الأخرى من الصراع ويخطّطون لها، أدّت إلى أن تبطل كلّ هذه التقديرات والأجوبة المتوفّرة لديهم ولم تعد الأطراف الأخرى مقتنعة بكون حسابات الإسرائيليّين حسابات دقيقة ومتفوّقة على غيرها.

ولو أردنا تلخيص قولنا بكلمة واحدة، فإنّ هذا الانكسار للصورة الاستخباراتيّة المتفوّقة لدى الصهاينة من مختلف الزوايا إن كان من الزاوية الاستخباراتيّة أو زاوية العمليّات أو زاوية التقييم الأمني الاستخباراتي أطاح بقاعدة اتخاذ القرارات وأعاد التحدّي الذي كانت الأنظمة السياسيّة في الكيان تتحدّث عن انتهائه وتمكّنت المقاومة في فلسطين من إعادة إرساء معادلة الردع في الداخل وبات لديها مستوى من الاستقرار الممنهج، كما جعل الكيان الصهيوني بين سائر اللاعبين الدوليّين أشدّ هشاشة وأطاح بمكانة الصهاينة في المعادلات الإقليميّة والدوليّة.

هذا كلّه ثمرة جهاد المناضلين الفلسطينيّين والخطوة الاحترافيّة والقدرة العالية لديهم، وكما سبق أن قلت، لقد فُتح المجال أمام سلسلة من الفتوحات وعمليّات التحرير الكبرى والانتصارات العظيمة في الأراضي المحتلّة، إن شاء الله.

قال الإمام الخامنئي في المراسم المشتركة لتخريج طلاب جامعات الضبّاط في القوات المسلّحة حول عمليّة «طوفان الأقصى»: «ستكون هذه الملحمة – إن شاء الله – خطوة كبيرة في خلاص فلسطين». ما هو تقييمكم لهذا المقطع من كلام قائد الثورة الإسلاميّة؟

هناك نقطة أخرى لا بدّ من الإشارة إليها وأخذها بعين الاعتبار وهي أنّ هذا النضج العمليّاتي والاستخباراتي الذي نتج هو نتيجة لعمليّة منسجمة وتقسيم للأعمال وتنسيق بين حركات المقاومة الفلسطينيّة. يمكن القول تقريباً أنّنا شهدنا خلال الأعوام الخمسة الأخيرة جهوداً منسجمة بين الحركات الفلسطينيّة بدعم من سائر أركان محور المقاومة لكي يتمّ تأسيس غرفة عمليّات مشتركة ولكي تكون مختلف العمليّات لهذه الغرفة مشتركة وكي يتمّ تقسيم الأعمال ويتمّ تحديد مدى دخول كلّ واحد من لاعبي محور المقاومة إلى منطقة فلسطين وجغرافيا الأراضي المحتلّة على نحو دقيق ومحسوب ولأجل أن يُحدّد الجزء الذي سيتولّاه كلّ واحد من اللاعبين في العمليّة.

كان هذا في الواقع نتيجة لسجلّ ناجح خلال هذه الأعوام، وكانت عمليّة سيف القدس نقطة وقمّة بارزة لمثل هذه الخطوة والأداء. كما إنّ النموذج الآخر الذي يمكن أن تتمّ الإشارة إليه هو عدم تدخّل حماس في الحربين السابقتين اللتين اندلعتا في غزّة بعد عمليّة سيف القدس، وأنّ الجهاد الإسلامي حمل عبء هاتين المعركتين، مما جعل الكيان الصهيوني يقيّم الأوضاع بأنّها تعني حدوث انقسام بين هاتين الحركتين المقاومتين. لكن في الواقع كان هذا كلّه منسّقاً بشكل كامل في غرفة العمليّات المشتركة وأدّى هذا التنسيق إلى أن يتكوّن هذا الفهم الخاطئ لدى الكيان الصهيوني.

شهدنا خلال الأعوام الخمس الماضية أربعة مناورات مشتركة ضمن إطار الركن الشديد في قطاع غزّة كانت في الواقع تدريبات عسكريّة مشتركة بين حركات المقاومة. وهذا في الواقع تجسيدٌ آخر لهذا العمل اللوجستي والقيادي بين حركات المقاومة من أجل تحقيق هدف سامٍ من قبيل النجاح والانتصار الذي حُقّق ويتحقّق ضمن إطار عمليّة «طوفان الأقصى».

على أيّ حال ما نشهده ونراه اليوم نموذجٌ بارزٌ وناضج على المقاومة الفلسطينيّة ولعبها الأدوار على الساحة الفلسطينيّة وداخل الأراضي المحتلّة، وهي قادرة على إلحاق ضربة قويّة وضخمة وعميقة على المستوى الاستراتيجي للكيان الصهيوني وإنّها نتاج جهود بُذلت على مرّ أعوام خمسة على الأقل وتثبت أنّ تدبير ودراية قادة محور المقاومة على أعلى المستويات والتنسيق الكامل في ما بينهم في تنفيذ المسارات والاستراتيجيّات الضخمة لمحور المقاومة يدعو إلى التباهي والشعور بالفخر وسوف يتواصل هذا المسار بعون الله.