الكاتب: الدكتور احمد الشامي

«من مكتسبات الدفاع المقدّس في إيران هي أنّه وسّع حدودنا، ولا أعني الحدود الجغرافيّة، فنحن لم نكن نسعى وراء توسيع حدودنا الجغرافية لا في ذلك اليوم ولا اليوم، وإنّما وسّع حدودنا الأخرى، لقد وسّع حدود المقاومة»(1) هي كلمات جليّة بتعبيراتها قالها الإمام الخامنئي (حفظه الله) خلال لقاء مع جمع من الرعيل الأول وناشطي «الدفاع المقدس» والمقاومة، وبها، كتب سماحته على صفحات قلوب الأجيال الحاضرة والقادمة واحدة من أهم أطروحات الجبهة خلال الحرب المفروضة على إيران (1980-1988)، وما أحدثته من تحولات كبرى على مستوى الوعي والواقع، منذ اللحظة التي أطلق فيها الإمام الخميني (قده) نداء الدفاع المقدّس لإنقاذ القرى والمدن التي احتلها طاغية العراق صدّام، وإلى الآن، حيث تمتد جبهات محور المقاومة من إيران إلى فلسطين.     

فيما تكشف هذه الأطروحة للإمام الخامنئي(حفظه الله) عن الأبعاد الأساسية لجبهة الدفاع المقدس في إيران، فهي تكشف في آن عن حقيقة انتقال ثلّة من خيرة المقاتلين الثوريين الإيرانيين من الخطوط الأمامية لجبه الغازي الصدامي على الحدود الإيرانية العراقية، بالرغم من حاجتها الملحة إليهم، وشروعهم بالتأسيس لجبهة الغازي الإسرائيلي للبنان عام 1982. فمع تتبع مضامين ما طرحه القائد يتبيّن بأن قدوم هؤلاء الثلّة المجاهدة الإيرانية إلى لبنان إنّما في حقيقته هو انتقالهم من جبهة إلى أخرى على محور المقاومة.

يبدو ذلك، في قراءة تحليلية لإجابات سماحته على التساؤلات الأربعة التي طرحها حول جبهة الدفاع المقدس: عمّ كان الدفاع؟ ومن كان المهاجم؟ ومن كان المدافع؟ وما كانت آثار هذا الدفاع ونتائجه؟

أولاً- عمّ كان الدفاع؟: ينطلق تحليل خطاب الإمام الخامنئي (حفظه الله) من حدثان مهمان متلازمان حصلا في العالم قبل بدء الحرب بين إيران ونظام البعث وعمليات الدفاع المقدّس، تمثّل الأول في اندلاع المرحلة الحاسمة للثورة الإسلامية الإيرانية ضد نظام الشاه في كانون الثاني عام 1978، وخلالها، أي بعد اندلاع الثورة بثمانية أشهر وقبل انتصارها حصل الحدث الثاني وهو توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الإسرائيلي في أيلول عام 1978. وفيما شكّل الحدث المصري صدمة على مستوى الوعي العربي والإسلامي لما كانت تمثله مصر في حينها من قيادة لجبهة المقاومة وثقافتها، جاء الحدث الإيراني بانتصاره في شباط عام 1979، ليعيد إحياء الأمل بالمقاومة وثقافتها وانبعاثها بشكل أقوى وأفعل.

لذلك، يمكن القول بأنّه ليس من باب الصدفة أن يبدأ صدّام حربه على إيران في العام التالي لانتصار ثورتها، والتي حدد سماحة القائد دافعها الأساس في قوله(2): إنّ هذه الحرب عملت على استهداف ثمرات تضحيات الشعب الإيراني وهي الثورة الإسلاميّة. وهذا ما يعني بأنّ الدفاع المقدس ما كان فقط ليحمي سيادة إيران الجمهورية، على أهمية هذا الهدف، وإنّما ليحمي الثورة كقيمة إنسانية وإنجازاتها، بل يحمي الهوية الدينية لهذه الثورة بإعلاء الحق، وما تضمنته من نصرة لقضايا المستضعفين المقهورين، وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة المجاورة للعدو الإسرائيلي.

وقد أوضح الإمام الخامنئي (حفظه الله) الهوية الدينية للثورة بأنها لم تكن كالانقلابات وثورات الأحزاب وما إلى ذلك، بل في كونها استطاعت إزاحة نظام عميل وفاسد حكم البلاد، وأن ترسي نظاماً جديداً ومقولة جديدة في هذه البلاد [أي] الجمهوريّة الإسلاميّة. فالجمهورية تعني السيادة الشعبيّة، والإسلاميّة تعني الدين، إن السيادة الشعبيّة الدينيّة كانت مقولة جديدة في العالم.

من معالم خاصية الثورة في إيران ومقولتها الجديدة، أي السيادة الشعبية الدينية، حقيقة يجدر أن لا يغيب عنها التحليل، ففيما كانت يهتف المحتشدون في شوارع المدن الإيرانية بصيحات التكبير والبراءة من الطواغيت، الشاه ونظامه وحماته المستكبرين، كانت الشعارات نفسها تتردد وبقوة في العديد من شوراع مدن لبنان. وكم كان المشهد معبراً عن حجم الفرحة العارمة في لبنان بسقوط الشاه وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، وقد صارت صور الإمام الخميني(قده) وأقواله الثورية والعقائدية تزين جدران شوارع مدن وقرى لبنانية واسعة الانتشار. لقد تعمّق هذا التأييد الشعبي اللبناني مع كل فرحة أو ألم عاشه الشعب الإيراني، ولاسيّما خلال الحرب المفروضة على إيران، بالمقابل، صارت الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ انتصارها؛ قيادةً وشعباً، خير سند للشعب اللبناني المقاوم أمام ما يواجهه من تحديات على اختلافها.

وبذلك، يصير أيضاً من الموضوعية القول بنفي الصدفة عن اجتياح العدو الإسرائيلي للبنان بعد عامين على بدء الحرب المفروضة على إيران، وما هدفه الاجتياح من العمل للقضاء على حركات المقاومة في هذا البلد ودفعه كرهاً لتوقيع اتفاقية سلام مع عدوه المحتل. وفيما أطلق الإمام الخميني (قده) نداءاته للدفاع المقدس قبالة غزو صدّام لإيران، راح يطلق نداءاته للمقاومة المقدسة قبالة الغزو الإسرائيلي للبنان.

ثانياً- من كان المهاجم؟: صحيح بأنّ النظام البعثي العراقي هو من أعلن الحرب، وأنّ جيشه هو من قام بالعدوان واجتاح القرى والمدن الإيرانية، وقاتل طيلة السنوات الثمانية للحرب، ولكن بات من مسلمات التاريخ التي عبّر عنها الإمام الخامنئي(حفظه الله) في إجابته على السؤال المطروح، بأنّ «العالم كله» هو الذي شن الحرب على إيران، وهذا ليس فيه مبالغة، ثم يوضح إجابته، بأننا نعني بذلك البلدان والقوى البارزة المؤثر في أوضاع العالم التي احتشدت في ذلك اليوم كافة وفي جبهة واحدة، وساهمت في هذه الهجمة ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة والثورة الإسلاميّة.(3)

لقد كان ملفتاً التقاء التناقضات الإيديولوجية في جبهة واحدة ضد الجمهورية الإسلامية في إيران خلال الحرب المفروضة عليها، وبالتحديد، الرأسمالية والاشتراكية، وأغلب من يسير في ركبهما، حيث توزعوا الأدوار في دعم نظام صدّام وجيشه في عدوانه الغاشم على إيران. وهذا ما ساهم في إسقاط الادعاءات السطحية المعلنة لهذه الحرب والكشف عن مستوى التهديد الذي استشعرته هذه الإيديولوجيات وأنظمتها من انبعاث طرح إسلامي ثوري جديد يملك مزايا جاذبة يحاكي تطلعات الشعوب وثقافتها المقاومة وتمكنه من نصرتهم من دون الحاجة لخوض الحروب.

يبرز لبنان مجدداً في تحليل خطاب الإمام الخامنئي (حفظه الله) حول هوية المهاجم في الحرب المفروضة على إيران بجبهتها المقاومة العابرة لحدود الجغرافيا، فبينما عملت الدول المساندة لطاغية العراق على إخفاء ما تستطيع من دلائل لما تقدمه من موارد هائلة تدعم بها حربه الغاشمة، يلاحظ كم كانت سافرة – تحديداً دول الحلف الأطلسي- في دعمها وحضورها المباشر إلى جانب العدو الإسرائيلي خلال اجتياحه لبنان عام 1982.  

ويكفي العودة إلى سجلات الصحف العالمية ووكالات الأنباء لوقف العاقل مدهوشاً وهو يرى جحافل الأطلسي بما تملكه من تفوق عسكري وسياسي وإعلامي قد جاءت لتساند العدو الإسرائيلي وهو بعزّ قواه المادية والمعنوية، قبالة حركات مقاومة في بلد صغير بحجم لبنان وما يعانيه من ظروف صعبة ومعقدة بكل مجالاتها.

ويخلص التحليل في هذا المجال، إلى استنتاج بأن من جملة ما قصدته هذه العراضة الأطلسية في لبنان توجيه رسالة واضحة لإيران، والتي كانت قد استطاعت بعد عامين من بدء العدوان باحتواء الهجوم العالمي عليها، وتجاوزها التهديد الوجودي بوصفها إيران الدولة، بأنّها ستواجه التحدي الأكبر مع جيوش الأطلسي إذا استمرت بوصفها إيران الثورة، التي باتت التهديد الوجودي الجدي للكيان الإسرائيلي. وصار جلياً بأن إيران قد قبلت هذا التحدي، لما شاهده العالم من خروج مذلّ لجيوش الأطلسي والاحتلال الإسرائيلي من لبنان خائبين مهزومين.

 

ثالثاً- مَن كان المدافع؟: إنّ بلوغ الدفاع حد القداسة لا يرتبط فقط بعمّا كان الدفاع وقبالة من، بل بتعيين من كان المدافع، ففيه يكتمل عقد القداسة، ويرتقي التحليل إلى استنتاج بأن هذه الحرب ليست كسائر الحروب، لأن من قام بالدفاع بحسب توصيف الإمام الخامنئي (حفظه الله) هم ظاهرهم مشابه لجيوش العالم لكن باطنهم كان شيئاً آخر.

ولأن القائد يقدم أطروحة للبشرية على اختلاف ثقافاتها وأزمنتها، فقد ذهب إلى تبيين هوية المدافعين في هذه الحرب، حتى لا يكون لغبار السنين أثره في إضعاف وضوح المشهد لهذه الملحمة الإنسانية التي امتدت من الحدود بين إيران والعراق إلى كل مدينة وقرية وأسرة إيرانية عاشت تلك المرحلة المفصلية من تاريخ هذا البلد. فإذا به يبين أيضاً هوية المقاومين على الجبهة اللبنانية لما جمعهم بالمقاومين الإيرانيين من خصائص مشتركة.

مصداق وحدة هوية المدافعين المقاومين في محور المقاومة المقدس بجبهتيه؛ الإيرانية واللبنانية، بدا في اشتراكهم بخصائص على نحو لافت بدلالاته، في مقدمتها وحدة القيادة، فإمامهم جليل، إلهي، منقطع النظير، استطاع ببصيرته أن يشخّص حقيقة المهاجم وأهدافه في كلا المحورين، إيران ولبنان، ما أصبغ على الدفاع صفة الواجب الديني، وسهّل الرؤية والقرار، وألهم الصبر والعزيمة.

ثاني الخصائص المشتركة بين المدافعين في هذا المحور أنهم مؤمنون متدينون يأنسون بقتال هو عبادة وخاتمته نصر أو شهادة،  يظهر ذلك جليا في سيَرهم، وصاياهم، ولولا اختلاف اللغة لحال التمييز بينهم. وهكذا حال أُسرهم، الآباء والأمهات والأزواج، فالرضا والتسليم بجهاد عزيزهم وشهادته سبيلهم لمشاركة مؤكدة في الجبهة، ولنيل رضى الله.

وأمّا الخاصيّة الثالثة المشتركة للمدافعين في هذا المحور هو اتساعه وتنوع عناصره، بدءً من المقاتل على خطوط المواجهة وصولاً إلى كل منزل تقام فيه الصلاة والدعاء طلباً للنصرة. بدا ذلك في طرح الإمام القائد (حفظه الله) بأنّ جبهات الحرب لم تقتصر على منطقة المواجهات، بل الخطوط الخلفيّة أيضاً هي جبهة حرب. وما أكثر الأمثلة على ذلك، منها، بأن الثكنات عادةً ما تكون أماكن لاستقطاب القوّات وتوزعها، لكن في هذا المحور كانت المعسكرات، والمساجد، والهيئات، والجامعات، والحوزات، والمدارس والثانويّات. حيث يلتحق المعلّم بالجبهة، فينطلق خلفه التلاميذ، فكم فيها من تلاميذ شهداء، ومن طلاب جامعيّين شهداء، وطلاب حوزات شهداء، إن مساجدها ومنابرها وخطباؤها كلّهم في خدمة هذه الحركة العظيمة، هؤلاء كانوا المدافعين في هذه الجبهات من محور المقاومة.

 

رابعاً- ما كانت الآثار والنتائج؟

إنّ القول بوصف هذه الجبهات في محور المقاومة مقدسة وممتدة على طول الحدود الفاصلة بين قيم النهوض والمقاومة من جهة، وبين قيم الاستغلال والهيمنة من جهة أخرى، إنّما يحوجه الكثير من دلالات لتؤكده، أشدها إقناعاً هي النتائج والمكتسبات. وسوف تستعين هذه المقالة بما اختاره سماحة الإمام الخامنئي (حفظه الله) من نتائج تجيب عن السؤال المطروح.

ينطلق التحليل لإجابة سماحة القائد من أولى النتائج التي استفزت العقل المادي الغربي وغروره تحديداً، وهي قدرة الجمهورية الإسلامية في إيران على الخروج من حربها مع صدّام وقد أفشلت المخطط الأساسي لها، إسقاطها والقضاء عليها، دون أن تخسر شبراً واحداً من أراضيها. وقد ازداد هذا الغرور الغربي استفزازاً، من قول سماحته، لقد اكتشفنا بأننا قادرون، وبطلان ما لُقنّا به بأنّنا لسنا شيئاً نُذكر، ولا كفاءة لدينا، وأنّ القوى العالميّة قادرة على إزالتنا من على وجه الأرض بإشارة واحدة.

وفي الواقع، إنّ ما ذهب إليه سماحة القائد من بطلان للضعف وتأكيداً لاقتدار جبهة الدفاع المقدس يكفي الاستدلال عليه من خلال إسهامات جليلة لأبطال قدموا من جبهة إيران واستطاعوا مع أقرانهم اللبنانيين أن يغيروا وجه لبنان، الذي أراد مؤسسوه أن يكون قوياً بضعفه، فإذ به يصير نموذجاً وحافزاً لحركات المقاومة في المنطقة والعالم. لقد استطاع ميدان المواجهة أن يحوّل هؤلاء المقاومين خلال مدة قصيرة إلى صنّاع للإستراتيجيّات.

من كان يصدّق بأن هذا البلد الذي كان ضباط العدو الصهيوني يجاهرون بأن احتلاله لا يحتاج أكثر من فرقة موسيقية في جيشهم، فإذ به يصير الدولة العربية الوحيدة التي تُخرج محتليها قهراً وإرغاماً من دون أن يظفروا ولو بتنازل بسيط أو محدود، بل إن جنود هذا الجيش الذي لا يقهر بزعمهم، باتوا يقيمون الأفراح ويتبادلون التهاني فيما بينهم لكونهم خرجوا من لبنان أحياء.

ومن مكتسبات «الدفاع المقدّس» التي أشار إليها سماحة الإمام الخامنئي (حفظه الله) هو القدرة على تحصين البلاد. وليس صدفة أنّ هذا المكسب الذي حققته جبهة المقاومة في إيران قد امتد ليتحقق أيضاً في لبنان، فالعدو الصهيوني الذي كان يستبيح سيادة لبنان وكرامة أهله بات مردوعاً. وفيما كان لبنان يعجز أن يستثمر مياهه دون إذن إسرائيلي، فما عاد الغاصب الإسرائيلي قادراً على أن يستثمر في موارد فلسطين التي يحتلها إذا لم يستثمر لبنان موارده.

نعم، إنّ الخير فيما وقع.
 

الهوامش:

1- كلمة الإمام الخامنئي خلال لقاء مع جمع من الرعيل الأول وناشطي «الدفاع المقدس» والمقاومة 20/9/2023.

2- كلمة الإمام الخامنئي خلال لقاء مع جمع من الرعيل الأول وناشطي «الدفاع المقدس» والمقاومة 20/9/2023.

3- كلمة الإمام الخامنئي خلال لقاء مع جمع من الرعيل الأول وناشطي «الدفاع المقدس» والمقاومة 20/9/2023.

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir