"وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحن والطير وكنا فاعلين"

يحتاج القائد في مسيرة جهاده إلى مقومات وإمكانات بشرية ومادية فيسعى إلى حشد تلك القوى في أقوى صورة وأعلى مستوى. والله سبحانه ينعم على القادة المخلصين بنعم جمّة ويسخر لهم الطبيعة كي يأنسوا في درب ذات الشوكة وكي ينهضوا بمشروعهم الحضاري الكبير في إصلاح الأرض ونشر العدل ونصرة المظلومين ومواجهة الظلم والطواغيت، غير أن بعض هذه المقدّرات من نوعٍ آخر، هي قوى إعجازية لا تُقهر، قوة نابضة بالثورة.

لقد سخر الله تعالى المقدرات لداوود وذي القرنين وغيرهما من الأنبياء والقادة. ونبينا الأكرم(ص) كذلك أكرمه الله تعالى بجندٍ من الأرض تجلى في سيف ذي الفقار وجند من السماء مردفين مسوّمين. وقد دأب رسولنا الحبيب على إعداد نخب سامية أمثال سلمان وأبي ذر وغيرهما.

وهكذا حال القادة الربانيين يعلمون أن مواجهة قوى الظلم تتطلب إمكانات عالية تبدأ بإعداد الأرواح ثم الزنود والسلاح، وأن تحويل مسار ومصير حياة شعب بأكمله من مستنقع التبعية والخضوع والوهن إلى خوض بحار العزة والاستقلال والاقتدار يحتاج شعبًا بأكمله. فكان إبداع الإمام الخميني أن أحيى الشعبَ وحوّله كله إلى روح واحدة وقلب واحد وجسد واحد كالبنيان المرصوص، ليصبح نبضًا ثوريًا جاهزًا لمواجهة القوى المادية الاستكبارية.. جيش ليس كالجيوش.. وشعب له فرادة لا مثيل لها في العالم.. قوة إلهية مرتبطة بالسماء يخرج من أكمامها فيض الغيب.. اسمها "الباسيج".. التعبئة.

هذه الفرادة لم تكن وليدة الصدفة. فمشيئة الله اقتضت أن يكون مصير الإنسان والمجتمعات رهن إرادتها وجهدها وجهادها، وهذه الإرادة هي التي صنعت المعجزات من إسقاط الشاه المحصّن دوليًا وإقليميًا وعسكريًا وماليًا، إلى الدفاع المقدس، وصولاً إلى إحياء قضية القدس، إلى الحضور في كل ساحات البلاد.

بعد رحيل الإمام حمل التعبوي الأول السيد علي الخامنئي، شعلةَ التعبئة، ذلك القبس الذي جاء به الخميني من طور الإباء بإلهام السماء، حمله في فكره وسلوكه، ليحافظ على جذوته التي يريدها نموذجًا للشعوب الحرّة المستنيرة التي تسير في طريق مواجهة الظلم وبناء القوة والاقتدار. فكان قائد الثورة حريصًا على بيان الوصايا للتعبويين وتذكيرهم في كل محطّة بالصفات الأساسية التي يتميز بها "جيش الله المخلص" وأهمها :

*التقوى والطهارة : لأن القائد يتوجه إلى الأرواح. فإذا توهّجت الروح بالهداية والصلاح بلغ الإنسان مقام العليين وجرت إرادة الله على يديه.

*البصيرة : المتمثلة بمعرفة الزمان والمكان، ومعرفة مكاننا ودورنا في العالم.

*تشخيص العدو : والوقوف على مخططاته ومؤامراته وإحباطها وهذا هو الجهاد الكبير. فالتعبوي هو الذي يمتلك بنظر القائد التقوى الساسية إضافة إلى التقوى الدينية.

*الاستعداد : وهو شرط أساس لأننا في قلب المعركة والصراع.

إنّ النظر في تلك الصفات والوصايا يكشف أنّ قائد الثورة إنما هو مربٍّ ديني وسياسي، وأنه يعوّل على هذه الظاهرة الاستثنائية التي لا يوجد لها مثيل في كل قوى المقاومة الشعبية في العالم.

اليوم ومع طوفان الأقصى يكتشف العالم مجددًا إبداع الإمام من خلال البصيرة النافذة بجيش الله المخلص كما وصفَه، وبشعب إيران الذي وقف مع قضية فلسطين منذ اللحظة الأولى عندما اقتحم التعبوييون وكر التجسس في سفارة الولايات المتحدة الأميركية في طهران. وأثبت معادلة قدرة الشعوب التي لا تُقهر.

ولا مبالغة أبدًا في القول إن أكثر ما يخشاه العدو المستكبر الذي دأب على خداع الشعوب وتنويمها وإضلالها، خوفه من قوة عظمى روحية وفكرية وبشرية وعسكرية لا تحضر فقط في ميدان الحرب، بل في كل الميادين السياسية والجماهيرية والفكرية والعلمية والاقتصادية... العدو يخاف من كلمة "ثورة" كما يعبّر القائد؛ لأنّ ديدنه الاستعلاء واستعباد الشعوب. العدو يحسب ألف حساب للتعبئة؛ لأنها صنعت المعجزات في الماضي وتصنعها اليوم. التعبئة تعني شعباً موحِّداً قويّاً ولائيّاً تنسجم إرادته مع إرادة القائد وبالتالي مع إرادة الله.

لقد سخّر الله تعالى الجبال والطير لداوود عليه السلام وهيّأه لكي يأتي اليوم الذي سيُسقط فيه جالوت بضربة قاضية يشهدها العالم والتاريخ. وفي زماننا سخّر قلوب وعقول الملايين مع القائد تسبّح في مسيرة العشق صلاةً وجهادًا وفنًا وأدبًا وتكنولوجيا وعلمًا واقتصادًا...

نعم هناك مقاومة شعبية قامت في أكثر من دولة.. ولكن هناك شعوب تغفل عن المخاطر فيتغلغل العدو..

وهناك شعوب تنام ردحًا من الزمن على حرير وعود الأعداء بالرخاء والرفاه إذا كانت تابعة له، فلا تستفيق إلا والعدو في أرضها يسرق ثرواتها ويدوس رقاب أبنائها.

وهناك شعوب سكِرت بملذّات الدنيا وغرقت في بحور النفط والغاز الغرور.

وهناك شعوب مقاومتها مؤقّتة تفرضها الظروف ثم تتحول الى أحزابٍ سياسية تسعى للوصول إلى السلطة أو إلى نخب سياسية أو أفراد لاهثين خلف المناصب والشهرة.

التعبئة أمرٌ مختلف تمامًا..

التعبئة تعني أنّ هناك شعبًا بأكمله يقول في الليل والنهار أنا جاهز وعلى أهبة الاستعداد.

فإذا كان المجتمع الغربي المنافق يحاول يائسًا أن يمنع إيران من امتلاك التكنولوجيا النووية، فكيف سيمنع بقاء ظاهرة إيمانية جهادية خُصّبت أرواحها في مفاعل العشق المحمدي الأصيل وفي مدرسة روح الله، حملت رؤية سلمان الفارسي المحمدي وبصيرته وشجاعته وإبداعه في الحروب. هذه إمكانات تفوق اليورانيوم طاقة وفرادة، وتتجاوز الجبال رسوخًا وإرادة.

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir