في 19/12/2023، وفي اليوم ال 74 من بدء الكيان الصهيوني «القصف السجادي» على غزّة انتقاماً من عمليّة «طوفان الأقصى»، تشير الإحصاءات التي قدّمتها وزارة الصحّة الفلسطينيّة إلى 19.543 شهيد. لقد أُغلق كتاب حياة أكثر من 10000 طفل بسبب قصف الكيان الصهيوني في الليل والنهار. إنّ الناس في أرجاء العالم ينظرون بحيرة وذهول إلى هذه الإحصاءات وغيرها، كما تنطلق يومياً المسيرات المعادية للصهيونيّة والمعارضة للحرب في شوارع كُبرى في المدن الأوروبيّة والأمريكيّة. في المقابل، جرى التنسيق لتجمّع في مدينة واشنطن أمام مبنى الكونغرس وارتفعت الرايات ونُصبت الشاشات الكُبرى تمهيداً للمسيرة الكبرى، مسيرة دعم الكيان الصهيوني!

لقد أعرب أحد المتحدّثين في المراسم عن بالغ أسفه لارتكاب «حماس» عمليّات خطف وإشعالها الحرب، كما حاول التحدّث بكلام داعم لوقف النار وقصف الأطفال في غزّة. لكن في ردّ فعل عليه، علت تدريجياً أصوات من بين الجموع تحوّلت إلى شعار مشترك: «لا لوقف النّار! لا لوقف النّار!» واصل المتحدّث كلمته بارتباك، لكن لم يكن يبدو أنّ أحداً بين المتظاهرين يشعر بشعور سيّئ تجاه هذا الشّعار.

كيف يمكن أن يبقى بعض الأشخاص معارضين لوقف القصف بعد المجازر المتتالية ورغم مقتل أكثر من 10000 طفل في غزّة المحاصرة؟

 

القسوة الممنهجة

مع أنّ مثل هذا الشّعار قد يبدو عجيباً في أنظار غالبيّة شعوب العالم، فإنّه ليس مستغرباً أبداً عند الذين انتفضوا واستشاطوا غضباً لسماع عبارة «جزّ العُشب» التي استخدمها مسؤولو الكيان الصهيوني عند حديثهم عن شهداء الحرب المفروضة على غزّة. كما أنّ الصهاينة وداعميهم في أمريكا والأراضي المحتلّة ينتهجون منهجاً شبيهاً حيال الفلسطينيّين، وهو المنهج الذي تجسّد في شعار «لا لوقف النّار» في واشنطن، وكذلك في قوانين الكيان الصهيوني ومقرّراته، أي منهج القسوة الممنهجة.

مع إقرار قانون المواطنة والدخول إلى الأراضي المحتلّة في أوائل العقد الأوّل من القرن الجاري، فَقَد الفلسطينيّون الذين يسكنون قطاع غزّة والضفّة الغربيّة عمليّاً إمكانيّة الالتقاء والتزاور مع أزواجهم الذين لم يكونوا يملكون جنسيّة الكيان. كان الهدف الواضح من هذا القانون منع دخول المواطنين العرب الجدد إلى الأراضي المحتلّة.

في 2011، أقرّ الكنيست قانوناً يسمح فعليّاً للمستعمرين في صحراء النقب والجليل أن يطردوا الفلسطينيّين من المدن الصغيرة ذات الغالبيّة اليهوديّة بذريعة «غياب الانسجام مع النسيج الاجتماعي-الثقافي».

آخر هذه القوانين، والذي جرى إقراره في 2022، حمل عنوان «االحكومة الوطنيّة للقوميّة اليهوديّة»، وفي نصّه جاء أنّ الحكومة مكلّفة توفير الرفاهية لأعضاء قوميّة اليهود ومواطنيها، ويجري تصنيف المنحدرين من العرق العربي مواطنين من الدرجة الثانية.

 

أين تكمن جذور هذه القسوة؟

عكست هذه القوانين وتعكس الإرادة الذاتيّة لدى مجتمع المستعمرين الصهاينة، وجذور هذه القسوة الواضحة في كلام الصهاينة وتشريعاتهم تكمن في العنصريّة العميقة لهذا الكيان، التي تتجذّر في هيكليّته.

أثبت استطلاع الرأي الذي أُجريَ في 2022 أنّ غالبيّة الصهاينة يؤيّدون الانفصال عن العرب.

في ذاك العام نفسه، سُجل أكثر من 400 حادثة عنصريّة في محاكم الكيان الغاصب واستهدفت 32% منها ذوي العرق العربي، وهذا كلّه حدث رغم تشكيل العرب 21% فقط من سكّان الكيان الصهيوني.

نُشر استطلاع رأي آخر في القناة 12 الإسرائيليّة يحكي أن 83% من «الفلسطينيّين الذين يملكون جنسيّة الكيان» يعتقدون أنّ الحكومة تمارس «عنصريّة مؤسّساتيّة» ضدّ المجتمع العربي، ويقول ثلثاهم إنّهم واجهوا التمييز في المؤسسات الإسرائيليّة.

إنّ 68 ألفاً من الفلسطينيّين الذين يحكمهم الكيان الصّهيوني في 35 قرية حُرموا بسبب امتناع الكيان عن منحهم الجنسيّة خدمات من قبيل مدّ أنابيب المياه والكهرباء والخدمات العلاجيّة والتعليميّة. بلغ هذا التمييز الحدّ الذي جعلهم بعد أزمة كورونا يمنحون الفلسطينيّين ما نسبته 1.7% فقط من الموارد المخصّصة لمواجهة أضرار الفيروس.

 

العنصريّة في خدمة النّهب

دوماً كانت عنصريّة الصهاينة خلال هذه العقود تخدم مصالح الكيان الصهيوني بفعالية. وخلال 1948 وفي يوم «النّكبة» طرد الصهاينة أكثر من 750 ألف عربيّ فلسطيني من أحيائهم وبيوتهم وسيطروا على الأراضي والبيوت. ويُمكن النظر إلى هذا الأمر في الاتجاه نفسه مع الشعار المعروف: «حكم اليهود من النيل إلى الفرات».
منذ ذلك اليوم حتى الآن، وكذلك بعد معاهدة أوسلو، استمرّ هذا الطّرد لدرجة أنّ أكثر من 93% من أراضي فلسطين باتت بحوزة الصهاينة والعرب حصراً، وهم يسكنون أقلّ من 5% من الأراضي رغم أنّهم يشكّلون 21% من السكّان الذين يحكمهم الكيان الصهيوني.

منذ 1948 حتى اليوم، بنى الصهاينة 900 مستعمرة أو حيّاً جديداً ليسكنه اليهود، لكن لم يتمّ تأسيس مكانٍ واحد جديد ليسكنه الفلسطينيّون.

رُفض أكثر من 95% من الطلبات التي قدّمها الفلسطينيّون لبناء المساكن في الضفّة الغربيّة لأسباب سياسيّة، فيما بلغ معدّل منح الأذون لبناء البيوت والمستعمرات الصهيونيّة ما نسبته 70%.

لعبت هذه العنصريّة الناشطة والواضحة دورها خلال حروب إسرائيل على نحوٍ واسع وكبير، ومع ظهورها بصورة «سلب الإنسانيّة» من أعداء الصهاينة، أفسحت الطريق أمام ارتكاب أيّ جريمة حرب.

صرّح وزير الأمن في الكيان الصّهيوني، يوآف غالانت، بعد يومين من «طوفان الأقصى»: «نحن نقاتل حيوانات على هيئة بشر وإنّ أسلوب حربنا سيكون بناء على هذا الأمر».

كذلك رأى رئيس الكيان الصّهيوني، إسحاق هرتسوغ، جميع أهالي مدينة غزّة مقصّرين في ما يرتبط بالخسائر التي لحقت بجيش الكيان الصهيوني في 7 أكتوبر. وقال: «كلّ الشعب مسؤول عن هذه الحادثة». 

نتيجة هذين التصريحين أنّ جميع أهالي غزّة وفلسطين «حيوانات على هيئة بشر»، والأسلوب العسكري للصهاينة يُبرمج على أساس هذه الرؤية. وضمن رؤية الصهاينة وداعميهم الغربيّين، لا يمكن للحرب مع غزّة أن تكون شيئاً أبعد من حرب الجيش الأسترالي ضدّ الجموع المتزايدة للنّعام المضرّين!

 

غزّة تحذّرنا

ربّما سيسجّل سلب الصهاينة ضحايا غزّة إنسانيّتهم أرقاماً قياسيّة جديدة في تاريخ البشر، بل إن سفك الصهاينة للدماء في غزّة قد يتخطّى الكوارث التي ارتكبها الاستعمار الحديث بحق أهالي أفريقيا وآسيا.

اليوم أيضاً الفكر عينه الذي أنشأه الاستعمار الأوروبي يستعرض نفسه على هيئة قنابل خارقة للتحصينات تُلقى فوق المدارس والمستشفيات والأحياء المكتظة بالسكان في غزّة، وهو يسعى بمنتهى البرودة إلى كسر الرقم القياسي للمحتلّين الفرنسيّين الذين ارتكبوا المجزرة المليونيّة بحقّ السكان المحليّين للجزائر أو الرقم القياسي للمجزرة التي ارتكبها المهاجمون الأوروبيّون بحقّ الهنود الحُمر الأمريكيّين!

صرّح الإمام الخامنئي في 19/11/2023: «الكيان الصهيوني هو مظهر التمييز العنصري، فالصهاينة يرون أنفسهم عرقاً متفوقاً ويعدُّون آحاد البشرية – الأجناس البشرية شتى ممن ليسوا صهاينة أو يهوداً -  من عرق منحط. لهذا، وحينما مثلاً يقتلون آلافاً من الأطفال في غضون بضعة أيام لا يشعرون بتأنيب الضمير، كأنَّهم أجهزوا مثلاً على بضعة آلاف من الحيوانات! هذه هي حقيقة الصهاينة».

أدّت هذه الصفة والسلوك لدى الكيان الصهيوني إلى أن يحصل على لقب «نظام الفصل العنصري» في أوساط الشعوب والوسائل الإعلاميّة. لقد تصاعدت الأمور لدرجة أنّ الصحافي الساكن الأراضي المحتلّة بنيامين بكرند أقرّ الآن، وبعد أعوام من معارضة وصف الكيان الصهيوني بنظام الفصل العنصري، أنّه يرى هذا الكيان في المسار نفسه الذي قطعه نظام الفصل العنصري في أفريقيا الجنوبيّة.

إنّ أمثاله في الأراضي المحتلّة يعرفون جيّداً كيف ستكون نهاية أيّ حكومة نظام فصل عنصري، وقد اتّضحت اليوم بعد «طوفان الأقصى» علامات الزوال، وهم لم يعودوا قادرين على إخفاء هذه العلامات.