مسيرة «يوم القدس»، حرب الأعوام الثمانية ضدّ إيران، تعزية الشباب المسلم، كانت هذه العبارات التي استخدمها شقيق الشهيد روبرت لازار، الشهيد المسيحي الإيراني، في وصف مراسم تشييع جثمان شقيقه. ما حلقة الوصل بين هذه العبارات الثلاث؟ في 7 شباط/فبراير 1997، وبعد مسيرة «يوم القدس» في طهران، انطلقت حشود الشباب المسلمين الغفيرة من أجل تشييع جثمان لازار، شهيد «الدفاع المقدّس»، نحو كنيسة ماركيوَركيز في طهران. في ذلك اليوم، وإلى جانب جثمانه، شُيّعت في طهران جثامين ألف شهيد تصدّوا لظلم جيش صدّام وهجومه الذي بدأ في 1980، لكنّ أجواء مراسم تشييع روبرت كانت مختلفة ومميّزة.

«کان تشييع الجثمان عجيباً وغريباً. لقد شاء الله ذلك! أغلقوا الشوارع. كان تشييعاً عظيماً جدّاً. حدّثت نفسي: لقد انطلقت مسيرة يوم قدس أخرى [من أجل شقيقي] هنا، وكان الإخوة المسلمون يلطمون صدورهم في كنيسة السيدة ماركيوركيز هذه، ويُنشدون أبياتاً من الشعر مضمونها أنّ عيسى المسيح هو صاحب العزاء اليوم. لم يكن هناك فرقٌ بيننا وبينهم».

في 24 كانون الأوّل/ديسمبر 2015، زار الإمام الخامنئي عائلة هذا الشهيد في ليلة عيد ميلاد السيّد المسيح. وخاطب سماحته العائلة: «اجتازت الأقليّات اختبار الحرب والثورة على نحوٍ مميّز، وخاضوا الميدان كتفاً إلى كتف مع المسلمين وبصفتهم إيرانيّين أوفياء وعاقلين وذوي بصيرة وشجاعة».

خاض الشباب المسيحيّون الإيرانيّون في ذروة أيام الثورة الإسلاميّة في إيران وكذلك خلال «الدفاع المقدس» مسار المكافحة لنظام الشاه والاستكبار العالمي. هذه المساعدات كانت تتجسّد أحياناً بالمشاركة المباشرة في ميادين الصراع، وفي أحيانٍ أخرى على هيئة مساعدات لوجستيّة لخطوط جبهات القتال الخلفيّة.

يحترف كثيرون من المسيحيّين في إيران مهنة الميكانيك وتصليح الآليّات والسيارات. وخلال حصار آبادان في أعوام الحرب المفروضة، لم يترك المسيحيّون شأنهم شأن سائر شركائهم في الوطن مدينتهم، بل حضروا إلى جانب إخوانهم ليساعدوهم في إصلاح الآليّات في ميدان الحرب.

رازميك داويديان هو أحد الشهداء المسيحيّين الآخرين الذين حضروا إلى جانب إخوتهم المسلمين الإيرانيّين منذ بدء الثورة وشارك معهم في لجان الثورة الإسلاميّة[1] واستُشهد خلال «الدفاع المقدّس». جاء في وصيّة الشهيد: «شركائي الأعزّاء في الوطن، لقد بذلتُ روحي في سبيل حريّة الوطن. الإخوة الأعزّاء، لا تنزعجوا من استشهادي، لأنّ هدفي منذ بدايات الثورة أن أبذل روحي من أجل الوطن وحريّته. لقد نلتُ هذا الشرف بزيّ الجنديّة حتى يُذكر اسمي إلى جانب أسماء الوطنيّين».

لكنّ مسيحيّي إيران لم يدافعوا عن الثورة الإسلاميّة من أجل كونهم إيرانيّين فقط، بل إنّ الثورة الإسلاميّة كانت منبثقة من روحيّة الشعب الإيراني المُطالِبة بالعدالة والحريّة. جاء في كتاب متى وموعظة عيسى المسيح (ع) من أعلى الجبل: «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ»(متی؛5:6). وجاء في الكتاب نفسه: «لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ»(متی؛ 6:33) أدّت ذات الثورة الإسلاميّة التوحيديّة والمُطالِبة بالعدالة إلى أن يهبّ المسيحيّون الإيرانيّون للدفاع عن النهضة الإسلاميّة المعادية للظلم إلى جانب شركائهم في الوطن من المسلمين.

 

مناهضة الظلم في مهد عيسى المسيح (ع)

الصمود في وجه المحتلّين الصهاينة، تعزية الشباب المسلمين الفلسطينيّين، بيت المقدس، هذه أولى العبارات التي تتبادر إلى الأذهان أثناء تشييع جثمان شيرين أبو عاقلة، المراسلة المسيحيّة الفلسطينيّة التي قتلها الجنود الإسرائيليّون. استُشهدت شيرين في 11 أيّار/مايو 2022 وهي تغطّي نضال الشباب الفلسطينيّين في جنين ضدّ القوات الصهيونيّة المحتلّة، برصاصة مباشرة أطلقها الجنود الصهاينة. كان الشباب في الضفّة من مسلمين ومسيحيّين يشيّعونها حاملين الرايات الفلسطينيّة وتابوتها على الأكتاف عندما واجهوا هجوم القوى الأمنيّة الصهيونيّة، فأُجبروا على الاشتباك معهم وسطّروا صفحة خالدة في تاريخ نضال الشعب الفلسطينيّ.

فلسطين مهد المسيحيّة، فقد وُلد النبي عيسى (ع) في بيت لحم قرب بيت المقدس، ووقعت أبرز الأحداث في حياة ذاك النبيّ الإلهيّ في هذه الأرض. بعد ولادة السيّد المسيح بألف وتسعمئة وثمانٍ وأربعين سنة، تأسست حكومة مزيّفة على هذه الأرض بمساعدة المستعمرين البريطانيّين، ودخل المهاجرون الصهاينة هذه الأرض. دفعت موجة الاستكبار العالمي التي هاجمت في العقد الثامن من القرن الماضي النهضة الإسلاميّة في إيران المسيحيّين للانضمام إلى صفوف النّضال، تماماً كما فعل قبل ذلك الحين بأربعة عقود، أي في بدايات العقد الرابع من القرن الماضي. منذ البداية، أدرك المسيحيّون الفلسطينيّون الماهيّة الاستعماريّة لهذا الكيان، وراحوا يتصدّون له إلى جانب المسلمين من الفلسطينيّين.

إنّ السكان المسيحيّين في مدن الضفّة يرفضون الآن التخلّي عن أراضيهم، والكنائس شرّعت أبوابها في غزّة من أجل إيواء المهجّرين والمشرّدين إثر الحرب.

 

العدوّ المشترك للإسلام والمسيحيّة

الحكومة الصهيونيّة المزيّفة حكومة جشعة وغاصبة في ذاتها. يُمكن لمس هذا الأمر من الشعار المعروف: «من النيل إلى الفرات»، ومن نهب أراضي الفلسطينيّين وأموالهم منذ الأيام الأولى لتأسيس هذا الكيان. لم يُفرّق الكيان طوال أعوام احتلاله أرض فلسطين بين المسلمين والمسيحيّين. كما أنّ غصب الأراضي السكنيّة والزراعيّة، وفرض القيود الدينيّة، وهتك حرمات الأماكن المقدّسة، ومنع بناء البيوت والمنازل وإصلاحها أيضاً، وإلحاق الأذى والاعتقالات غير المبررة، وأخيراً سفك الدماء دون وازعٍ أو رادع، كلّها لم يُفرّق الكيان الصهيوني في ارتكابها بين فلسطينيّ مسيحي ومسلم.

منع الكيان الصهيوني في الضفّة وقطاع غزّة المسلمين والمسيحيّين من التردّد إلى سائر المدن أو الأحياء والوصول إليها، وحرمهم أراضيهم الزراعيّة ليبنيَ مكانها مستعمرات صهيونيّة.

طاولت إهانات الصهاينة بين فينة وأخرى المسلمين والمسيحيّين على حدّ سواء، فنفس ذاك المسؤول الذي يدافع عن البصق على المسيحيّين. يسعى إلى إغضاب المسلمين وإذلالهم عبر هتك حرمة المسجد الأقصى. وفي حرب غزّة الأخيرة، استهدفت قنابل الإسرائيليّين ورصاصاتهم مستشفى المعمداني وسائر مستشفيات غزّة دون أيّ تمييز.

إلى جانب تخريب المساجد القديمة في غزّة، تلوح أيضاً أحجار أبنية الكنائس المهدّمة ودماء الذين كانوا قد لجؤوا إليها.

لم يكن المجاهدون المسلمون والناس العائدون إلى شمالي غزّة الوحيدين الذين استهدفهم الجنود الصهاينة، بل إنّ المسيحيّين داخل الكنائس كانوا أيضاً أهدافاً مشروعة لقنّاصي جيش هذا الكيان.

 

«طُوبَى لِلْمُضْطَهَدِينَ مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ، فَإِنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ» (متى،5:10)

نزلت جموع كبيرة من المسيحيّين في أرجاء العالم إلى الشوارع دعماً لقضيّة فلسطين وأهالي غزّة، وحاولوا التعبير عن دعمهم المظلومين في القطاع. وقد حُرم بعضهم مواصلة الدراسة في جامعاتهم أو نشاطهم المهني بسبب دعم فلسطين. من المتوقّع أيضاً أن يهبّ أتباع السيّد المسيح (ع) للدفاع عن المظلومين والوقوف في وجه الظالم وألّا يخشوا دفع أيّ ثمن في هذا السبيل. رغم هذا الأمر وخلافاً لمساعي القادة المسيحيّين داخل فلسطين، لا يعلو أيّ صوت من القادة المسيحيّين حول العالم. حاول أهالي غزّة في السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر أن يلفتوا أنظار العالم إلى الظّلم الذي يتعرّضون له منذ أعوام. فمجرّد المطالبة بوقف النّار في غزّة دون الإشارة إلى الصعوبات التي تحمّلها شعب فلسطين خلال هذه العقود السبعة وحقوقه التي ضاعت يتعارض مع العدالة.

قال الإمام الخامنئي في 27 كانون الأوّل/ديسمبر 2000: «قضى [النبي عيسى (ع)] حضوره بين الناس في الجهاد حتى يتمكّن من الوقوف في وجه الظلم والاعتداء والفساد ومن غلّوا الشعوب وقيّدوهم مع الاعتماد على المال والجبروت، وكانوا يسوقونهم إلى جهنّم في الدنيا والآخرة. إنّ الآلام التي تجرّعها هذا النبي العظيم منذ مرحلة الطفولة كانت كلّها في هذا السّبيل. من المتوقّع أن يتأسّى أتباع السيّد المسيح كلهم وكلّ الذين يعدّون ذاك الإنسان الجليل صاحب عظمة وروحانيّة سامية بما يتناسب مع مكانته الرفيعة».

يواجه أهالي غزّة الآن أيضاً على أعتاب ذكرى ولادة النبيّ عيسى (ع) مجزرة تاريخيّة إلى جانب إخوتهم المسيحيّين. ولا شكّ في أنّ السيّد المسيح (ع) لو كان حاضراً بيننا اليوم، لكان سيسعى للعثور على مسار وسبيل لتقديم المساعدات إلى أهالي غزّة المظلومين، ومن أجل مكافحة العدوّ الإسرائيلي الظالم والدموي والسفّاح.

 


[1] بعد مدة قصيرة من انتصار الثورة الإسلاميّة، ووفق الظروف التي سادت في ذلك الزمان، وبسبب ضعف القوى الأمنيّة داخل البلاد، جرى تشكيل لجانٍ بأمر الإمام الخميني (قده) حتى يتمكّن الشباب في أيّ حيّ ومدينة من توفير الأمن الداخلي للأحياء والمدن.