يعد النفوذ الأمريكي في المنطقة تركيبياً، إذ إنه يستهدف مختلف المستويات التي تجعل مصالح ومصير دول المنطقة بيد الإدارة الأمريكية. هذا النفوذ يتنافى مع مشروع المقاومة الرافض لأجندات الهيمنة والتي يشكل الكيان المؤقت أحد مرتكزاتها وموقعاً متقدماً لها في منطقتنا.
وخلال سنين توالت الإخفاقات التي مني بها الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة نتيجة ثبات وعزم حركات المقاومة والتحرر على رفض الإملاءات الخارجية، لكن الإدارة الأمريكية كونها رأس هذه الهيمنة لم تتوقف، بل كانت تنتقل إلى مشاريع جديدة أو كانت تقوم بتعديل سياساتها للتماهي مع المعوقات والمضي في تحقيق أهدافها.
تمثل هذا في كلام سماحة السيد علي الخامنئي في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة يوم التعبئة، إذ قال: "أخفق مشروع أمريكا لتأسيس «شرق أوسط جديد» إخفاقاً تامّاً. كان القضاء على حزب الله جزءاً من الخطة، وصار حزب الله أقوى بعشر مرات. أرادوا ابتلاع العراق وسوريا، ولم يستطيعوا. كذلك لم يستطيعوا إنهاء القضية الفلسطينية لمصلحة الكيان الغاصب بمشروع «حل الدولتين» الخائن".
واستمرت الولايات المتحدة في تصدير مصالحها والعمل على تأمين أمنها واستقرارها في منطقة غرب آسيا وتجسد هذا في تحقيق الأمن الكيان المؤقت بالدرجة الأولى. فالكيان يعد إحدى الركائز الأساسية للحفاظ على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، لذا ترى الإدارة الأمريكية أهمية تأمين استدامته بالشكل الذي يدعم مصالحها المباشرة ضرورياً ولا يمكن التهاون به.
إلا أن الصراع بين فصائل المقاومة والكيان المؤقت، جعل المصالح الأمريكية مهددة، لذلك اقتضى البرنامج العام للولايات المتحدة الأمريكية تنفيذ خطوات دائمة لاحتواء أعمال المقاومة، ومن هذه الخطوات إقامة علاقات التطبيع بين الكيان ودول المنطقة، بالإضافة إلى عملية تسليح الكيان بشكل متقدم ومتطور، والافتعال الدائم للأزمات في الدول الحاضنة للمقاومة بهدف إشغالها عن الصراع مع الكيان، وأخيراً محاصرة دول المحور اقتصادياً بما يساهم بنسبة كبيرة في عملية الإشغال.
هذا المقال يستند بشكل رئيسي على ما قاله قائد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي الخامنئي، في خطابه خلال لقاء مع التعبويين في يوم التعبئة: "صحيح أن حادثة طوفان الأقصى التاريخية ضد الكيان الصهيوني لكنها «اجتثاث لأمريكا»، فقد استطاعت «طوفان الأقصى» أن تبعثر مشروع أمريكا في المنطقة، وإن شاء الله، وإذا استمر هذا الطوفان، فسيمحوه أيضاً". فكيف أثر "طوفان الأقصى" على المشروع الأمريكي في المنطقة وما هي معوقاته؟ وهل يمكن للولايات المتحدة السيطرة على التطورات الجديدة وكبح المسار التحرري الناجم عن "طوفان الأقصى"؟
تحولات طوفان الأقصى
أحدثت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر تغيراً كبيراً في المسارات الأمريكية القائمة في المنطقة، إذ إن العملية الكبيرة وضعت الكيان المؤقت أمام وضع جديد عالي الخطورة، وكان لهذه العملية أبعاداً خصوصاً على مستقبل الكيان، إذ أنها أظهرت حجم الوهن الكبير لدى الجيش والاستخبارات ومدى عمق الأزمة السياسية في الداخل. أما على صعيد الإقليم، فإن ما يجري اليوم من تلاحم جبهات محور المقاومة المختلفة، وتنوع عمليات الإسناد الحاصلة دعماً للمقاومة في غزة نقلت المعركة لتصبح على مستوى الإقليم وبالتالي أصبح التهديد يطال مباشرةً المصالح الأمريكية في المنطقة، وبالتالي فإن تفعيل ساحات العمليات هذه لم يقتصر على استهداف الكيان أو ما يرتبط به فقط، بل أيضاً استهداف الوجود الأمريكي في المنطقة بما يشمل القواعد العسكرية والمصالح الحيوية.
مؤشرات المسار التحرري الجديد
بدأت علامات التحرر من النفوذ الأمريكي ترتسم اليوم في المنطقة، الهدف الذي سعت لتحقيقه كافة حركات التحرر والمقاومة منذ نشأتها، ولكن التجذر العميق للنفوذ الأمريكي في دول غرب آسيا يحتاج إلى تفكيك والعمل على مختلف المستويات لاجتثاثه، وهذا المسار التحرري أخذ منحاه في مختلف المناطق. لكن عملية طوفان الأقصى نقلت مستوى هذا العمل إلى مستوى متقدم بفعل التأثير الكبير الذي أحدثه الطوفان على مرتكزات النفوذ الأمريكي ومنها:
اختلال الردع الأميركي
تدخلت الإدارة الأمريكية بسرعة لإعادة ترتيب الأوضاع في الكيان المؤقت، وتوافد المسؤولون الأمريكيون إلى الكيان وحضروا جلسات كابينت الحرب. وبشكل ملحوظ، أصبح القرار بشأن الحرب في يد الأمريكيين، واستمرت تصريحاتهم في تأكيد هدفية حفظ الكيان والتعويض عن ما حدث عبر القضاء على حماس. هذا التفاعل السريع والتدخل الأمريكي المتواصل في تمويل وتسليح الكيان أصبح سمة مميزة، حيث تحولت الولايات المتحدة إلى شريك رئيسي في الحرب. وهو ما دفع محور المقاومة إلى تأكيد هذا الاعتبار وبموجب ذلك أصبحت المصالح الأمريكية في المنطقة هدفاً أيضاً للمقاومة في عمليات إسنادها وهو ما مسّ بشكل مباشر الردع الذي ظن الأمريكي أنه قائم.
اعتقد الأمريكي أن الردع الذي حاول تثبيته من خلال هذه المشاريع، والذي يقضي فرض وإقناع مختلف فصائل المقاومة بوقف العمليات بناءً على تهديداته، وأن هذه الفصائل بعيدة نسبياً عن القيام بأي خطوة تستهدف هذه المصالح، إلا أن ما يجري حتى اليوم من أعمال استهدفت الوجود الأمريكي في المنطقة أظهر أن هذا الردع أصيب بنكسة تحتاج إلى ترميم.
تعثر مشروع التطبيع
التطبيع، كمشروع استراتيجي، يُعتبر خطوة ثابتة للحفاظ على أمن الكيان المؤقت وعزله عن أي تهديدات محتملة في منطقة غرب آسيا. هذا المسار، الذي لا يزال في مرحلة تطويره المستمرة، تجاهل العواقب المحتملة وسعى لتوسيع شبكته من خلال توسيع الدائرة لاحتواء دول مثل الإمارات والمغرب والبحرين. وعملت الإدارة الأمريكية والكيان المؤقت بفعالية على ترويج وتشجيع هذا المشروع، لجعله جاذباً لكل دولة تطمح في التطور والتقدم على مختلف الصعد. وعليه، فإن العمل على إقامة تطبيع بين الكيان والسعودية يمثل لدى الأمريكي بالدرجة الأولى تحولاً كبيراً، فهذا التغيير يضع المنطقة في سياق جديد يتضمن علاقة مباشرة بين دولة إسلامية كبرى وكيان لا مقبولية له لدى شعوب العالم الإسلامي. ورغم الجهود الكبيرة التي بذلتها الإدارة الأمريكية لترسيخ هذا التطبيع في ذهنيات الشعوب، فإن "طوفان الأقصى" وما تلاه أعاد الصراع مع الكيان المؤقت إلى ساحة المنافسة مرة أخرى. وزادت هذه الأحداث من تأييد الشعوب العربية والإسلامية للمقاومة الفلسطينية والرفض الشديد لجرائم الاحتلال، وهو ما أوقف مسار التطبيع الذي كانت تعبده الإدارة الأمريكية بين السعودية والكيان المؤقت ووضع الأولى في موقف صعب غير قادرةً على استكمال ما كان يُرسم.
انهيار مقبولية الأمريكي
من خلال مجموعة من الاستراتيجيات والجهود، حاول الأمريكي بشكل مستمر بناء نوع من المقبولية لمشاريعه وسياسته في المنطقة. حيث استخدم مختلف الوسائل، من الأحزاب الوكيلة والجمعيات غير الحكومية، بالإضافة إلى المشاريع الثقافية لضمان ذلك. واعتبر الأمريكي أن هذا مشروع المقبولية أمسى في مراحل متقدمة وبأن شعوب المنطقة باتت تتقبل مشاريعه وخططه، لكن تغيرت الصورة جذرياً مع حدوث عملية "طوفان الأقصى". فمن الشعارات الرئيسية التي رفعت خلال مختلف الاحتجاجات والمظاهرات في مختلف دول العالم وبشكل خاص دول العالم الإسلامي، هي شعارات رفض التدخل الأمريكي بالحرب، ليتضح أن هذه المقبولية كانت هشة وضعيفة، ومن خلال هذه التحولات، يتبين أنها تتأثر بشكل كبير بالأحداث الكبيرة والمفصلية في المنطقة.
التلاحم السني الشيعي
أظهر توحد الموقف الشعبي في مختلف الدول العربية، تعاضداً كبيراً بين كل أطياف المجتمعات والفئات الشعبية، والتي تجاوزت المسائل المعززة للفتن، وأبرزها الفتنة بين السنة والشيعة، وهو مشروع أمريكي يهدف إلى إبقاء هذه الشعوب في حالة تفرقة وما له ذلك من تداعيات على القضايا الرئيسية في المنطقة، إذ إن التفرقة بين السنة والشيعة يهدف بالدرجة الأولى إلى منع توحيدهم وتشاركهم بالسير والعمل على القضايا العربية والإسلامية، ولكن مع طوفان الأقصى تحطمت كل تلك الحواجز التي حاولت الأجندة الأمريكية بناؤها. هذا التوحد والتلاحم أثبت فشل المشروع الأمريكي الطويل والممنهج في بث التفرقة بين الشعوب وخاصة الفتن الطائفية.
تقدم صورة الإسلام في الغرب
أراد الأمريكي بعد الحروب المذهبية التي جرت في المنطقة بث الكراهية ضد الإسلام والمسلمين خاصةً في أوروبا والغرب تحت شعارات الإسلاموفوبيا وغيرها من الاستراتيجيات الإعلامية لترسيخ فكرة مناهضة الإسلام في وعي الشعوب الغربية، إلا أن ما ارتكبته اسرائيل من مجازر في معركة "طوفان الأقصى" أظهر مدى النفاق الغربي، وساعد في إظهار هذا النفاق التغطية الكبيرة لمجازر الاحتلال المدعومة أمريكياً على مواقع التواصل الاجتماعي. إزاء ذلك أمست معظم دول الغرب وأوروبا تشهد احتجاجات ومظاهرات مليونية يشترك فيها المسلم والغربي في رفص وإدانة الأعمال الإسرائيلية والأمريكية.
تراجع اللوبي الإسرائيلي
شهد الغرب تنديداً جماهيرياً كبيراً حيال الجرائم الصهيونية وخاصةً في الولايات المتحدة الأمريكية، ما شكّل ضغوطاً على الإدارة الأمريكية في ظل دعمها الكبير للحرب على غزة، وباتت الإدارة تفقد تباعاً قدرتها على التماهي والقبول بما يطالب به الكيان من دعم لا محدود، لذا فإن اللوبيات الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية تواجه صعوبة في الضغط على الإدارة الأمريكية لتلبية حاجاتها على الصعيدين العسكري والسياسي.
خاتمة
يشبه النفوذ الأمريكي في هيكله الحروب التركيبية ولاجتثاثه يحتاج إلى تفكيك، وهذا التفكيك يواجه جهود كبح من قبل الأمريكي على صعيد كل دولة من الدول الرافضة لهيمنته، فخلال طوفان الأقصى مثلاً، زاد الأمريكي من حجم قواته وقدراته العسكرية المنتشرة في المنطقة وهذا يعد محاولةً لكبح مسار اجتثاث نفوذه لكن بالرغم من ذلك فإن المواجهة بين النفوذ الأمريكي وحركات المقاومة أمست في مستوى التحدي المباشر صعب الكسر، وعليه فإن ساحات المواجهة المتعددة ستكون في حالة من التقدم والتراجع في مختلف الصعد، وهو مؤشر على أن مسار المواجهة أصبح تصاعدياً، وإذا ما أردنا المقارنة بين ما كان عليه النفوذ الأمريكي وما بات عليه اليوم وما كانت عليه حركات المقاومة والتحرر وأمست عليه، فإن النفوذ الأمريكي في تراجع تدريجي والمقاومة في صعود، وبالتالي وعلى المدى البعيد فإن اجتثاث أمريكا من المنطقة أمر حتمي لكن يحتاج إلى الوقت الكافي لإتمام ذلك.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir