بسم الله الرحمن الرحيم،

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا، أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين، [ولا] سيما بقية الله في الأرضين، عجل الله تعالى فَرَجَه الشريف، وأرواحنا فداه.

أهلاً وسهلاً بكم، أيها الإخوة الأعزاء والأخوات العزيزات، وأهالي قم الأعزاء، تذكار تسطير الملاحم لمدينة الانتفاضة هذه، مدينة المعرفة، ومدينة الجهاد. نشكر الله المتعالي الذي منحنا الفرصة ومدّ في عمرنا، فتمكّنا مرة أخرى أن نشهد يوم «التاسع عشر من دي» ونلتقي مع أهالي قم الأعزاء، ونتحدّث ببضع كلمات عن حادثة «التاسع عشر من دي» العظيمة.

هناك نقاط كثيرة عن «التاسع عشر من دي» عام 1356 (1978)، هذه الانتفاضة العفوية الشعبية في قم، وقد تحدثنا عنها وكذلك الآخرون، ولا نريد تكرار تلك المواضيع، لكن هناك نقاط تعدُّ قضايا معاصرة لأنها موضع ابتلاء دائم لشعبنا وبلدنا، فلا يمكن أن تصير قديمة، ولذا من المفيد تكرارها.

أحد المواضيع التي سأتحدث ببضع جمل عنها اليوم هي قدرة الناس على أداء دورٍ [حاسم] خلال الحوادث الكبرى. ينبغي ألّا ننسى ذلك. لقد جرّبناه في حياتنا، فعلينا ألّا ننسى هذه التجربة، وأن نعكسها لدى الآخرين أيضاً. انظروا إلى غزة اليوم. إن الدور الذي صنعه حضور الناس وصمودهم في حادثة كبيرة، أيْ مجموعة صغيرة وشعباً محدوداً – مليوني نسمة تقريباً - في منطقة صغيرة جداً، جعلَ أمريكا بعظمتها والكيان الصهيوني المعلّق بها عاجزين. هذا معنى حضور الناس. طبعاً، حادثة قم حادثة أعلى من هذا بمراتب. لماذا؟ لأنه في «19 دي» خرج أهالي قم إلى الشوارع، وقدّموا الشهداء، وتعرّضوا للضرب، وسُجنَ عدد منهم، لكنهم غدوا منشأ حركة استطاعت في غضون سنة تقريباً أن تطيح بنظام عميل مستكبر ظالم متسلّط على هذه البلاد. كم المدة بين «19 دي 1356»[1] و «22 بهمن 1357»[2]! [إذاً هذه هي نتيجة] حضور الناس في مختلف الميادين. هذا ما أريد التحدّث عنه، ويجب ألّا ننسى ذلك. عندما تكون مثل هذه القوة في سواعد الشعب وقبضاته، فلم لا يقدّرونها أو لا يستخدمونها؟ لم لا يفعّلونها مقابل الأحداث الكبرى ولا يأتون بها إلى وسط الميدان؟ هذا لُبّ قولي.

الإمام [الخميني] علّمنا ذلك. من دون مبالغة وإغراق، ومن دون أدنى تردد، أثبتَ الإمام الجليل للناس – لدى الإمام كثير من الإنجازات الخاصة، وهذا أحدها - وعلّمهم أن حضورهم في الساحة يصنع المعجزات. لم نكن نعرف ذلك ولم يعرفه الآخرون أيضاً، لكن الإمام أثبته للشعب كلّه عامَي 1341(1962) و1342 (1963) بالعمل والقول والمنطق والاستدلال، وجعلهم يدركون أنهم إذا أرادوا المضي قُدماً، وتحقيق النتائج التي يرجونها، فلا بدّ لهم أن يكونوا في الميدان، فلا جدوى من التراجع، أو الاعتماد على هذا وذاك، واختيار العزلة، بل يجب أن يأتوا إلى وسط الميدان. كذلك حضرَ شخصياً وسط الميدان، فبدلاً من مجالسة الأحزاب والجماعات والتيارات والشخصيات السياسية الشهيرة والكثيرة الادعاء، التي كانت في ذلك الحين، جاء الإمام وجالس الناس. [هنا] أود أن أروي لكم ذكرى. كنت ذاهباً إلى مدينة - لا أريد أن أذكر اسمها - وكان فيها شيخ كبير، فقال لي الإمام: قل لذاك السيد أن يأتي إلى قم، فمكانه فيها، فليأتِ إلى هنا لكن شريطة أن يقطع علاقته بالتيار السياسي الفلاني - ذكرَ الإمام اسم تيار سياسي مشهور في ذلك الحين ، فليأتِ إلى قم، ولكن فليقطع علاقته بذلك التيار. ذهبت بدوري إلى ذلك السيد وأوصلت إليه رسالة الإمام هذه. طبعاً، لم يعجبه ذلك ولم يأتِ إلى قم أيضاً وقال: لا تربطني علاقة مع ذاك التيار وما إلى ذلك. كان هذا منطق الإمام: ينبغي لعالم الدين بوصفه عالم دين ومرجعاً ومحوراً لتحصيل العلم والمعرفة أن يحضر بين الناس.

لقد حضرَ [الإمام] شخصياً بين الناس، ففي يوم عاشوراء، جاء إلى المدرسة الفيضية بقم وجلس هناك وتحدث إلى الناس بصراحة ووضوح.[3] أيها الإخوة الأعزاء والأخوات العزيزات! إن خطاب الإمام هذا في يوم عاشوراء حدث تاريخي. لقد نزلَ إلى وسط الميدان بكيانه كله. جاء وجلس في الفيضية، وكان ميدان العتبة[4] «متروساً»[5] بالحشود، وهناك أعدّ الإمام خطابه المذهل وألقاه. لقد أدخلَ الناس عملياً إلى قلب المشهد. فبدلاً من التحدث إلى التيار السياسي أو الشخصية السياسية الفلانية، تحدّث إلى الناس وأدخلهم فعلياً إلى الميدان. دخل الناس إلى الميدان ولبّوا واستجابوا، فالمدّة الفاصلة بين إلقاء الإمام هذا الخطاب و «15 خرداد 1342» (5/6/1963) هي ثلاثة أيام، أيْ في غضون ثلاثة أيام قدّم أهالي قم وطهران وورامين الضحايا والشهداء. طبعاً عدد الشهداء غير معروف. ذُكرت إحصاءات كثيرة [لكن] لم يتمّ تقصٍّ دقيق في هذا الصدد، وحبّذا لو يجري لكي [يُعرفَ] كم عدد الشباب والشيوخ والرجال والنساء الذين استشهدوا في «15 خرداد» في طهران وقم وورامين وبعض المدن الأخرى. لقد أنزلَ الناس إلى الميدان، وهذا العمل كان من صنع الإمام، وهو مَن سلّم راية النضال للناس.

حسناً، رضي الناس ودفعوا ثمناً. طبعاً، قُمع الناس واعتقِلَ الإمام أيضاً في «15 خرداد 1342» - اقتحموا منزل الإمام ليلاً واعتقلوه وأحضروه إلى طهران وإنّكم تعلمون تلك الحوادث وسمعتم بها - لكن لم ينسَ الناسُ الدرسَ. «التاسع عشر من دي» في قم وَليدة تلك الحادثة؛ هنا أيضاً انطلق الناس عفوياً ودخلوا الميدان. في «19 دي»، من الذي قاد الناس ليقول: اخرجوا أيها الناس؟ إنها أفئدة الناس وإجماعهم والدرس الذي تعلّموه من الإمام، فأدركوا أنه يجب أنْ ينزلوا. لقد نزلوا في «15 خرداد» بسبب اعتقال الإمام، وفي «19 دي» بسبب إهانته. جاؤوا ودخلوا الميدان وبدؤوا النضال ونتجت هذه البرَكة، وبارك الله المتعالي هذا النضال، فانتفض الشعب الإيراني في قم وتبريز ويزد وشيراز وهنا وهناك وفي كل مكان، ووقعت «22 بهمن». هذا معنى حضور الناس.

طبعاً، هذا الدرس هو درس أمير المؤمنين (ع). لقد دوّنت عبارة عن أمير المؤمنين - عليه الصلاة والسلام - وينبغي أن نركّز كثيراً على جمل نهج البلاغة هذه، وأن نتعلّم كثيراً من نهج البلاغة. إنها في «عهد» الإمام (ع) لمالك الأشتر، الذي يسمّونه خطأً [بالفارسيّة] «عهدنامه» (معاهدة)، وهو ليس «عهدنامه» (معاهدة)، إنّما مرسوم حكومي: مرسوم الإمام (ع) لمالك الأشتر. ثمة كلام جَمٌّ هناك، وبحر من اللّآلئ في هذا المرسوم للإمام (ع)، ومنها أنّه قال: «وَإِنَّما عِمادُ الدّينِ وَجِماعُ المُسلِمينَ وَالعُدَّةُ لِلأعداءِ العامَّةُ مِنَ الأُمَّة»[6]. أنتم مجتمع إسلامي، وأمير المؤمنين (ع) يقول [هذا] لأمّته، وهو خطابٌ موجّهٌ إلينا كذلك. جيد جداً! أنتم مجتمع إسلامي، والأمّة عماد إسلامكم، وجِماعُ النّاس. «جِماعُ المسلمين» معناه ذلك الهيكل الأساسي للمجتمع. هذا هو الهيكل الأساسي لمجتمع المسلمين. «وَالعُدَّةُ للأعداء»؛ معنى «العُدَّة» ذخيرة اليوم الأسود، أي ذاك الشيء الذي تحتفظون به لليوم الأسود. «وَالعُدَّة للأعداء»، فمن هذه الذخيرة مقابل الأعداء؟ «العامَّةُ مِنَ الأُمَّة»، أي عامّة الناس. ذات حين، وقبل أعوام من الآن، قرأت على المسؤولين مقاطع من هذا الكتاب[7]، إذ يقارن الإمام (ع) هناك بين الخاصّة والعامّة: «الخاصّة» مَن هم قُرَّة العين، و«العامّة» عامّة الناس. يذكر كلاماً عجيباً عن الخاصّة، وكلاماً عجيباً عن العامّة: عامّة الناس. يقع تركيز الإمام على هذا: اعتمدوا على عامّة الناس. حينما يستأنس رئيسٌ للجمهورية بعامّة الناس، ويتحدث معهم ويعمل ويمضي بينهم، ينبري بعضهم للقول إنّها شَعْبويّة! إنّهم يوجّهون إهانة. لا، هذا اهتمام بالناس وتوجُّه إلى النقطة الأساسيّة. إنّ عامة الناس أسُّ الأمر وأساسه. ولا شكّ أنّ أسلوب العمل معهم فنُّ عظيم، وله مبحثه الخاص.

إذاً، ثمّة نقطة أساسية ههنا، فهذا الحضور الشعبي في الساحة ووسط الميدان، وقد عرضنا له، ثمّة نقطة أساسية إلى جانبه، فما هي؟ ينبغي أن يكون دفع الناس إلى ساحة النضال عبر توجيه دقيق ومنح القدرة المعرفية. قبل بضعة أيام أيضاً كان لي كلمة ههنا،[8] وقلت هذه النقطة نفسها: كما أنّ صواريخكم نُقَطيّة ودقيقة – هذا ما يجعل الطرف المقابل عاجزاً، فهم يختارون النقطة بدقة، ويضربون من مسافة ألف كيلومتر أو ألف وخمسمئة نقطةً بعينها – عليكم أيها الواقفون وسط الميدان وتدعون الناس أن يكون هدفكم محدّداً ودقيقاً. لقد حدّد الإمام الهدف: إزالة النظام المَلَكي الفاسد المُرتَهن، وتأسيس الحاكمية الإسلامية؛ اتّضح الهدف. فإذا كنّا ندعو الناس اليوم إلى وسط الميدان، فما الهدف؟ يجب أن يتَّضح. ليس القصد هنا الأهداف من الدرجة الثانية والأهداف الفرعية بل الهدف هو حاكمية الإسلام، والكرامة الوطنية، والصلاح الكامل للشعب الإيراني، وتعالي الشعب الإيراني، ومواجهة الاستكبار. الهدف هو هذه الأمور. بالطبع هذه تعابير عامّة لكنّها تتضمن معاني واضحة ومحدّدة. كان عمل الإمام وأصحابه خلال هذه السنوات الخمس عشرة، ما بين [حادثة] الفيضية والحادي عشر من شباط/فبراير، التبيين في هذا المضمار. كان عمل أولئك الذين يتحدثون مع الناس، ومن يعلّمون الشباب المعرفة ويوجّهونهم إلى الطريق – مَن هم على شاكلة مطهّري وأمثال هؤلاء – تحديد [الهدف] ومنح الناس المعرفة الضرورية. إنّ منح القدرة المعرفية مهمّ للغاية؛ هذا هو العمل الأساسي. ينبغي لطالب العلوم الدينية منّا، والفاضل، والمثقّف، والجامعي، والأستاذ، أن يتحركّوا في هذا المضمار، ثم يعمدون إلى منح المعرفة والقدرة المعرفية.

إنّ ذلك النظام الذي أُزيل على أيدي الشعب الإيراني في الحادي عشر من شباط/فبراير، وطُرد من هذا التراب الطاهر والبلد الإلهي، كان نظاماً مُرتَهناً وانقلابياً، وثمّة مَنْ لا يريدون اليوم تصديق هذا بعد أربعين عاماً. إنّ الأمريكيين والحاشية المقرّبة منهم والتابعين لهم أيضاً وبمنتهى السذاجة – إنّه لأمر عجيب، فهم سياسيون وديبلوماسيون لكنّهم يُعْمِلون منتهى السذاجة في هذه القضية! – يبرّرون مجدّداً، ضمن حساب خطأ، وجه نظامٍ طُرد من هذه البلاد قبل خمسة وأربعين عاماً بركلةٍ من الشعب، وأُلقي خارجاً. كان [النظام البهلوي] مُرتهناً وانقلابياً. وقع الانقلاب العسكري لرضا خان عام 1299 (1921) بتحريض من الإنكليز وبمساعدتهم. بعد ثلاث أو أربع سنوات جاء اعتلاء رضا خان العرش وتحويله إلى رضا شاه [الملك رضا] بمساعدة من الإنكليز، وكان [ذلك] بأيديهم. بعد بضع سنوات، كانت بداية انصهار ثقافة الشعب الإيراني في الحضارة الغربية، من قبيل خلع الحجاب، وإغلاق الحوزات، ومنع مراسم العزاء والمراسم الدينية وصلوات الجماعة، وما شابه، على أيدي الأيادي المعروفة للإنكليز في إيران ضمن الحاشية المحيطة برضا خان، وأنا لا أريد أن أذكر الأسماء والشخصيات السياسية والثقافية المعروفة، التي لا يزال الوجه الحقيقي لبعضها غير واضح في أوساط شعبنا، ولديها كتب ومؤلفات. كان هذا عمل المحيطين برضا خان، وهو أن يصهروا ثقافة الشعب الإيراني ويُذيبوها في الثقافة الغربية. انظروا إلى قضية خلع الحجاب بهذه العين، فقد كانت عمل الإنكليز. لاحقاً، عام 1320 (1941)، حينما أُخرج رضا خان من البلاد، كان اعتلاء محمّد رضا للعرش على أيدي الإنكليز، وقد تدخّل سفير إنكلترا بنفسه في هذا وكان إرادتهم. عام 1332 (1953)، بعدما عجز محمّد رضا عن التحمّل في مواجهة النهضة الوطنية [لتأميم] النفط، وفرّ من البلاد، كانت إعادته بالانقلاب العسكري عملاً مشتركاً للإنكليز والأمريكيين. بعد ذلك أيضاً، كان استمرار حكومة العار لمحمّد رضا حتى 11/02/1979 بمساعدة الأمريكيين. كان [النظام البهلوي] حكومة على هذه الشاكلة، فهو من بدايته ووسطه وأوله وآخره تدخلٌ لإنكلترا وأمريكا، ومساعدة من إنكلترا وأمريكا، وارتهان وبيع البلاد لهم، لا بيع الثروة ورأسمال البلاد فحسب [بل] أعطوهم نفط الشعب، وكرامة الشعب كذلك، كما باعوهم دين الشعب، وأيضاً شرف الشعب. لقد كان نظاماً على هذه الشاكلة، وقد طرد الشعب الإيراني هذا النظام من البلاد. الإمام هو من وضع هذا الهدف أمام الشعب الإيراني. إذاً، كانت هذه هي السياسة الإستراتيجية للإمام [الخميني] الجليل: إدخال الناس إلى الميدان وتسليمهم راية النضال.

توجد سياسة إستراتيجية أخرى مقابلها، أيْ في النقطة المقابلة لها، فما هي؟ إنها إخراج النّاس من الميدان، أي جرّهم خارج مشهد ميدان المنافسة والمواجهة والنزال. هذه سياسةُ مَن؟ إنها السياسة التي ينتهجها أعداء الثورة الإسلاميّة. إنّها سياسة أمريكا وجبابرة العالم والصهاينة، كما أن سياسة الشركات الصهيونيّة المستثمرة في أرجاء العالم هي هذه. إنّها مستمرّة في البلاد منذ أربعين سنة وتعمل اليوم بمنتهى الرذالة. التفتوا إلى هذا: إنهم يسعون إلى إخراج الناس من المشهد. إنّ ما تسمعونه [من أقوال مثل:] هل نشارك في الانتخابات أو لا، و[بعضهم يقول:] كلا، وما الفائدة منها؛ ليست بالأمر الهيّن، فهذه نفسها السياسة الإستراتيجية لأمريكا، وهي نفسها السياسة الإستراتيجية لأعداء الثورة الإسلاميّة. إنّ تغييب الناس عن ساحة السياسة، ومضمار الثقافة، والميادين الاقتصادية، والساحات الدينية، هو السياسة الإستراتيجية للعدو. أن تتعرض مسيرة «الأربعين» للسخرية، وأن يُثار الشك في الاحتفال المهيب [المتعلق] بأمير المؤمنين (ع) أو منتصف شعبان في شوارع طهران، بتلك العظمة: لماذا [تُقام]؟ وأن يُثار الشك في تبجيل قائد عظيم في إيران والمنطقة: الشهيد سليماني! أَوَلَم يمزّقوا صورة الشهيد سليماني في طهران هذه نفسها بالقرب من الجامعة الفلانية؟[9] يحرضون أحداً ما: هلُمَّ إلى تمزيق هذه الصورة. ثمانية ملايين إنسان يُشيّعون جنازة الشهيد سليماني، ثم يبادر شاب غافل، شاب لا قيمة له – إمّا أنّه قبض مالاً، وإما اشتغلوا على عقله –، إلى تمزيق صورة الشهيد سليماني أمام الملايين من حشود الشعب الإيراني! فما معنى هذه [الممارسات]؟ إنّها دليل على تلك السياسة الإستراتيجية للعدو.

إنّ العدو ناشط وفعّال جداً في هذا الاتّجاه؛ إنّه فعّال للغاية. لقد أدركوا أن سبب تقدّم إيران ونيلها العزّة، والسبب في ظهور إيران بوصفها قدرة مهمّة في هذه المنطقة، وتحقُّق هذا العمق الإستراتيجي للبلاد كله – قوى المقاومة هذه في أنحاء المنطقة هي العمق الإستراتيجي لنظام الجمهورية الإسلامية –، أن السبب في هذا كله هو حضور الشعب في الساحة. فإن نفذوا حرباً مفروضة، فالعدو يُمنى بالهزيمة فيها، وإن خاضوا هجوماً انقلابياً، فسيُمنى بالهزيمة، وإن شنوا هجوماً أمنياً، فكذلك؛ السبب أنّ الناس حاضرون في الساحة. وحيثما استطاعوا الحيلولة دون حضورهم، انتصر العدو. الأمر كذلك في كثير من القطاعات الاقتصادية. لقد أبلغنا سياسات المادة الرابعة والأربعين،[10] ودوماً أوصينا الحكومة [الإيرانية] الفلانية، وقالوا: نعم، نفعل، لا نفعل، نفعل، لا نفعل... فأنجزوا بضع نقاط، وتبيّن أنّ نصفها كان فاسداً! هكذا تحدث المشكلات الاقتصاديّة طبعاً. حينها يكون العدو راضياً، ويدعم ذلك. العدو نشطٌ في هذا المجال، فعّال بالكامل.

من أعمالهم لإخراج الناس من الساحة زرع اليأس إزاء المستقبل. انظروا كم أنّهم في وسائل الإعلام هذه التابعة للعدو – صراحة أو مُواربة، فبعض وسائل الإعلام هذه تابعة بصراحة للعدو، وبعضها ليست تابعة بصراحة إنما في الخفاء – يزرعون اليأس في الناس من المستقبل. يعثرون على نقطة سلبية ويعممونها ويضخّمونها من أجل أن ييأس الناس، والأساس أيضاً هم الشباب. [يريدون] أن يُقنِطوا الشباب. يُروّجون هذا [الكلام]: ما فائدة المشاركة في النشاطات السياسية، وما فائدة المشاركة في الانتخابات؟ يعملون على هذا الأمر.

[العمل الآخر] استعراض العيوب والصّعاب في القضايا الاقتصادية. نعم، نحن نعاني من مشكلة اقتصادية، ولا شك في ذلك. كان هنالك مواطن ضعف مختلفة، وقد استمرت، ومواطن الضعف الاقتصادية هذه موجودة، وما من شك. يستعرضون [مواطن الضعف] هذه، ولو أُعملت الدقّة في حالة واحدة وأُجري استقصاء، فإن أكثر مواطن الضعف الاقتصادي هذه هي أيضاً بسبب تغييب الناس، فحيثما شارك الناس، كانت مواطن الضعف أقل.

الترهيب من القوى من طرق إخراج الناس من الساحة: الترهيب من أمريكا، ومن الكيان الصهيوني، ومن هذا وذاك، مع أن الشعب الإيراني جرّب بنفسه ألا يخشى هذه القوى. إذا كان من المقرّر أن نخشى القوّة الفلانيّة، ما كان للجمهوريةٍ الإسلاميةٍ وجودٌ من الأساس، وما كانت الجمهورية. إنّ كثيراً من القوى التي تدّعي الهيمنة والربوبيّة على هذه المنطقة تخشى اليوم الشعبَ الإيراني.

من العناصر التي يستخدمونها لإخراج الناس من الساحة هي سلب الناس الإيمان وجعلهم غير آبهين بعوامل الحضور والشجاعة والقوة، وفي مقدمها الإيمان الديني، وكذلك التشرُّع. إنّهم يبذلون الجهود ويمارسون الدعاية الإعلامية ويعملون، فالعدو منكبٌّ على العمل. ينبغي لمسؤولينا أن يبذلوا جهدهم في هذه المجالات ويعملوا ما أمكنهم. انظروا إلى قضية الحجاب وقضايا الحجاب بهذه النظرة. ليس الأمر حصراً أنّه ثمّة الآن من لا يعرفون قضية الحجاب أو لا يراعونها. لا، هنالك من عندهم دافع – عدد قليل بالطبع – للمعارضة والمناوأة.

إحدى القضايا بثّ الخلافات وجعل الناس قُطبين. الخلافات تنقسم إلى نوعين: تارةً قد يختلف اثنان في الأذواق، وفي القضيّة السياسيّة الفلانيّة، وفي الحبّ والبغض الفلاني. إنّهما صديقان ورفيقان ويحتسيان الشاي ويجلسان على المائدة معاً لكنّهما مختلفان في الرأي. في أُخرى، يكون اختلاف الرأي على نحوِ يُدين هذا الطرف كل ما يصدر عن الطرف المقابل – مهما كان: فكراً، عملاً، حسناً، سيّئاً – ومهما صدر عن الطرف المقابل، فهو مدانٌ من هذا أيضاً. هذا ما يسمّى «ثنائية القطب». يُحدثون «ثنائيّة القطب» في المجتمع. فمهما فعل الطرف المقابل، يبادر هذا الطرف إلى إدانته، حتى لو كان فعلاً جيّداً. هذا من الأعمال التي ينشغل فيها اليوم المعارضون والأعداء للشعب الإيراني.

إنّ سبيل التصدّي أيضاً حضور الناس. يجب أن يخوض الناس غمار القضايا الاقتصاديّة والشؤون السياسيّة، وأن يخوضوا الانتخابات بقوّة، وحتى في القضايا الأمنيّة. العناصر الأمنيّون التابعون للعدوّ حاضرون بين الناس في الأحياء وهنا وهناك. يمكن للنّاس أن يتعرّفوا إلى هؤلاء. حضر الناس في عدد من المشكلات الأمنيّة بمساعدة الأجهزة الأمنيّة وحلّوا المشكلة. الأخبار في هذا الصّدد في متناول أيدينا وهم يقدّمونها إلينا. أرادوا تنفيذ عدد من الأعمال الشبيهة بهذه الفاجعة التي سبّبوها في كرمان،[11] فالتفت الناس وأدركوا ما يحدث، والتفتت الأجهزة وحالت دونها. ربّما يمكن القول إنّ العدوّ يودّ تنفيذ عشرات الأضعاف مما يحدث الآن لكن يجري إحباط ذلك. [طبعاً] كثير من الإحباط يجري بمساعدة الناس.

هذه القضيّة التي تطرّقت إليها، قضيّة حضور النّاس، هي من الضرورات الحتميّة لإدارة البلاد على نحو صحيح وتحقيق التقدّم للثورة الإسلاميّة وجعلها تحقّق النتائج وتبلغ الأهداف. حضور الناس في الميدان [مهم]. ينبغي الترويج لهذا. يجب أن يعمل في هذا المجال كلّ من لديه صوتٌ ولسانٌ بليغ وجمهور وفي مقدوره التأثير. {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} (العصر، 3)، هذا حقٌّ، والتواصي بالحقّ مسؤوليّة الجميع: عالم دين، أو أستاذ جامعة، أو منبر، أو مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، أو مسؤول سياسيّ، أو مدير للجهاز الفلاني، أو عالم، أو مرجع... كائناً من كان. إنّها مسؤوليّة، وينبغي أن نحثّ الناس على الحضور في الميدان والثبات فيه والتعرّف إلى مستلزماته. طبعاً يجب أن يعلم المسؤولون الحكوميّون أيضاً أنّ الناس مستعدّون و[لذلك] مسؤوليتهم ثقيلة، سواء أكانوا المسؤولين الحكوميّين أم الناشطين في الساحات السياسيّة والثقافيّة، فيجب أن يمهّدوا الأرضيّة.[12] أسأل الله أن تستمرّ هذه الجهوزيّة على هذا النّحو وتتضاعف يوماً بعد يوم.

حسناً، قلنا إنّ الناس مستعدّون، فما الدليل على ذلك؟ هذا الاحتشاد العظيم في الذكرى السنويّة الرابعة لاستشهاد [الفريق] سليماني. هذا أحد الأدلّة. [كذلك] مشاركة الناس في مسيرات الحادي عشر من شباط،[13] وفي أيام الجمعة الأخيرة من شهور رمضان، ومسيرات التاسع من دي،[14] ومختلف أيام الله، ومشاركتهم الآن في الذكرى السنويّة لاستشهاد الشهيد سليماني. ينطلق الناس من المناطق البعيدة ليزوروا مزاره فتقع هذه الحادثة المفجعة والمُحزنة أيضاً، ثمّ يتواصل احتشاد الناس غداتها بالزّخم والقوّة والدافع نفسه. إذاً، الناس مستعدّون ونحن من علينا التنظيم وتقديم المساعدة وإفساح الطريق وتمهيد الأرضيّة.

في ما يرتبط بهذه القضيّة المحزنة والمُفجعة التي وقعت في كرمان، والتي أفجعت الشعب بالمعنى الحقيقي للكلمة، نحن لا نصرّ على اتّهام هذا وذاك، بل على العثور على العناصر الحقيقيّين الذين يقفون في كواليس هذه الحادثة، وأن نوجّه إليهم ضربة قاصمة. المسؤولون الموقّرون مشغولون حقّاً بالعمل، وأنا مطّلعٌ على الأمور من كثب. لقد عملوا جيّداً ولا يزالون، ونسأل الله أن يتمكّنوا من تدفيع أولئك ثمن أفعالهم.

لنقل كلمة في قضيّة غزّة أيضاً. تكشف التوقّعات عن نفسها تدريجيّاً. فمنذ البداية كان توقّع ذوي الأبصار الثاقبة في العالم، هنا أو في أماكن أخرى، أنّ المقاومة في فلسطين هي التي ستنتصر في هذه القضية، وأنّ الهزيمة ستكون من نصيب الكيان الصهيوني الخبيث والملعون. هذا يحدث الآن، والجميع يشاهدونه. يرتكب الكيان الصهيوني الجرائم منذ ثلاثة أشهر؛ أولاً ستُخلّد هذه الجرائم في التاريخ، فحتّى بعد زوال الكيان الصهيوني وفنائه وتطهّر الأرض منه - بتوفيق من الله - لن تُنسى هذه الجرائم، حتّى في ذلك اليوم. سيكتبون في ذلك اليوم أنّ جماعة بلغت الحكم في هذه المنطقة وارتكبت الجرائم بهذه الطريقة وقتلت في غضون أسابيع قليلة آلافاً عدة من النساء والأطفال!

هذا ما سيكتبونه ويقولونه ولن يُنسى. سيُدرك الجميع كيف أنّ صبر أولئك الناس وصمود المقاومة الفلسطينيّة أجبرت هذا الكيان على التراجع. حسناً، إنّ الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني لم تحقّق أيّاً من أهدافها بعد انقضاء نحو مئة يوم. ما الذي تعنيه الهزيمة؟ هذا ما تعنيه. قال [العدو]: سنقضي على «حماس»، وعجز. قال: سنهجّر أهالي غزّة، وعجز. قال: سنمنع الخطوات التي تُقدم عليها المقاومة، وعجز. المقاومة حيّة ونشيطة وعلى جهوزية، وذاك الكيان متعب ويشعر بالخزي والندم، ومطبوع على جبينه وصمة عار المجرم. هذا هو الوضع السائد اليوم.

هذه عِبرة، وتنبغي متابعة هذا النهج: الصّمود في وجه الظلم والغطرسة والاستكبار والغصب. يجب أن يتواصل هذا النهج. لا بدّ أن تُبقي المقاومة بقوّة على مواكبتها العصر وعلى أهُبّة الاستعداد وألا تغفل عن مكر العدوّ، وأن توجّه الضربات – بعون الله – حيث تطال يدها. سوف يُنجز هذا العمل وسيأتي ذاك اليوم، إن شاء الله، وسوف يرى الشعب الإيراني والشعوب المسلمة والفئات المؤمنة في أرجاء العالم غلبة الصّمود والقوّة والصبر، والتوكّل على الله، على الأعداء والعداوات وشياطين العالم.

والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 


[1] انتفاضة أهالي قم في 9/1/1978.

[2] انتصار الثورة الإسلامية في 11/2/1979.

[3] صحيفة الإمام (النسخة الفارسية)، ج. 1 ص. 243؛ خطابه في جمع من طلاب وعلماء الحوزة وأهالي قم، 3/6/1963.

[4] «ميدان آستانه» مقابل حرم السيدة فاطمة المعصومة (ع) والمدرسة الفيضية الملاصقة للحرم.

[5] مصطلح عامي في بعض اللهجات العربية والفارسية بمعنى مكتظ.

[6] نهج البلاغة، الكتاب 53.

[7] بما في ذلك كلمة في لقاء رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الحكومة، 9/10/2005.

[8] كلمة في لقاء جمعٍ من مدّاحي أهل البيت (ع)، 3/1/2024.

[9] إثر حادث تحطم طائرة نقل الركّاب الأوكرانية في 8/1/2020، الذي وقع بسبب خطأ بشري للدفاعات الجوية، أقدم عدد من طلاب جامعة «صنعتى شريف» وجامعة «أمير كبير»، ممّن كانوا قد عقدوا حفلاً تأبينياً لضحايا تلك الطائرة، وبتحريضٍ من بعض من يطلقون شعارات هدّامة، على تمزيق صورة الشهيد سليماني.

[10] إبلاغ السياسات العامّة للمادة 44 من الدستور، 22/5/2005.

[11] في الثالث من كانون الثاني/يناير من العام الجاري، ومع حلول الذكرى السنويّة لاستشهاد الحاج قاسم سليماني، فجّر إرهابيّين عبوتين بين زوّار مزار الشهيد سليماني. أدّت هذه الحادثة إلى وقوع عدد من الشهداء والجرحى.

[12] هتاف الحضور: أيّها القائد الأبيّ، نحن على أهبة الاستعداد.

[13] ذكرى انتصار الثورة الإسلاميّة في 11/2/1979.

[14] انطلقت هذه المسيرة للمرّة الأولى ردّاً على أحداث الفتنة عام 2009 واعتراضاً على تدنيس حرمة التاسوعاء والعاشوراء في ذلك العام على يد بعض المندسّين بين أفراد الشعب.