خمسة أيام من العزاء على وشك الانتهاء، وقد عاشت إيران أياماً خمسة من الحزن العام. كلّ إيران، وربّما القرويّون والعُمال والمستضعفون وحُفاة الأقدام، خمسة أيام من الحداد العام أعلنها الإمام الخامنئي في بيان التعزية بمناسبة استشهاد شهداء الخدمة في إيران الإسلاميّة، أيّامٌ مريرة مع فقدان خادم الشعب، بل خادم الأمّة الإسلاميّة. وها أنا أبدأ اليوم الخامس والأخير من هذه الأيام القاسية، وأحاول تقديم رواية عن كواليس مجلس التأبين الذي أقامه قائد الثورة الإسلاميّة بمناسبة استشهاد رئيس الجمهوريّة ورفاقه.
أذكر أنّ المرّة الأخيرة التي جاءت فيها عبارة «الدعوة عامّة» في بيانات مراسم حسينيّة الإمام الخميني رضوان الله عليه، كانت في الأيام التي سبقت تفشّي فيروس كورونا. ومنذ تلك الفترة وحتى اليوم؛ كانت المراسم تنعقد بمشاركة عدد محدود من الجموع، ومع دعوة فئات ومجموعات خاصّة. لكنّ المشاركة في مجلس التأبين اليوم كانت متاحة لجميع النّاس. قال بعض الأشخاص أنّ جموعًا غفيرة من الناس اصطفّت خلف بوابات الدخول إلى الحسينيّة، وقرابة الساعة 7:40 صباحًا امتلأت نصف الحسينيّة تقريبًا.
حسبما أذكر، لم تتّشح حسينيّة الإمام الخميني (قده) بالسواد إلا حزنًا على أهل البيت (ع)، والمرّة الأخيرة كانت في أيّام العزاء بمناسبة حلول ذكرى استشهاد السيدة الزهراء سلام الله عليها. ليت تلك الأيّام تعود، كانت الليلة الأخيرة من الأيام الفاطمية عندما كنتُ أراقب الشهيد (رئيسي) وهو جالسٌ إلى جانب الإمام الخامنئي. كان حاضرًا في كل مجالس العزاء لأهل البيت التي يقيمها قائد الثورة الإسلاميّة، ومن أوائل المسؤولين الذين يحضرون ويشاركون. ماذا ترانا نفعل؟! علينا من الآن فصاعدًا أن نتحمّل غياب السيّد رئيسي عن الحسينيّة، كما نتحمّل غياب الشهيد الحاج قاسم سليماني.
نظرًا إلى حضور مسؤولين وشخصيّات أجنبيّة، كان الصحفيّون والمصوّرون منهمكين ومنشغلين بإجراء اللقاءات، علّهم يتمكّنون من تسجيل جُملٍ في وصف الشهيد رئيسي، أو حول الأجواء التي تعيشها إيران الإسلاميّة في هذا اليوم. كان السيّد هاشم الحيدري أوّل شخصيّة بين الشخصيّات المعروفة تحضر في الحسينيّة، وتلاه السيّد عمّار الحكيم، والشيخ أكرم الكعبي برفقة مجموعة من العراقيّين، ووفد من اليمن.
أعدّوا في أطراف الحسينيّة الكراسي ليجلس عليها الضيوف، وأنا بدوري حاولت أن أعثر على مكان جيّد يُمكّنني من الجلوس في زاوية مناسبة تُخوّلني رؤية الحضور كلّه، خاصّة المكان الذي سيجلس فيه القائد. قرابة الساعة 8:40، بدأ قسم الضيوف والشخصيّات يمتلأ ويكتظّ بالحضور. وحيث كنت جالسًا على أحد الكراسي، خاطبني أحد المسؤولين عن شؤون الاستقبال قائلًا: «أعلم أنّك تدوّن كواليس اللقاء، لكن المعذرة، هذه الكراسي خاصّة بالسفراء والمسؤولين الأجانب». بعد دقائق قليلة توافدت الوفود الأجنبيّة إلى الحسينيّة، وجلس الجمع الذي وصل إليها مبكّرًا على الكراسي، لكن نظرًا إلى كثرة الضيوف الأجانب، لم يعد هناك أيّ كرسي فارغ. فجأة لاحظتُ أنّ إحدى زوايا الحسينيّة مكتظّة بشدّة، وهناك عددٌ من المسؤولين الأجانب واقفين على أقدامهم ينتظرون أن يأتيهم أحد بالكراسي. وسط هذا الازدحام سمعتُ أحدهم يقول: «هؤلاء ليسوا معتادين على الجلوس على الأرض، وجرت عادتهم أن يجلسوا على الكراسي». هنا تبادر إلى ذهني المنشغل بذكريات السيّد رئيسي مشهدٌ من ثلاثة أعوام خلت، حين كنت جالسًا في إحدى زوايا حرم الإمام الرّضا (ع). كنت في تلك الزيارة برفقة والدي، وكنّا منشغلَين بالدعاء حين التفتّ فجأة إلى خروج السيّد رئيسي - الذي كان في عامه الأوّل في رئاسة الجمهوريّة - من الحرم، ووجدتُ الناس تحاوطه من كلّ حدب وصوب. كان يأتي باتجاهي تمامًا. وقفتُ بشكل اعتيادي، وخطر في بالي أن «لن أكترث كثيرًا، فهذا السيّد شأنه شأن الناس جميعًا». وما إن وصل إليّ حتى التفتَ نحوي وبادرني بالسلام بكلّ تواضع. رددتُ عليه السّلام، وعندما جُلتُ بنظري؛ لم أجد أثرًا لأيّ مرافق حوله. كانت فترة خدمته حافلة بمشاهد التواضع هذه. مَن تَواضَعَ للهِ رَفَعَهُ الله.
كانت أجواء الحسينيّة تعجّ بشتّى أنواع المشاعر، لكن وسط كلّ المشاعر، كان يبرز الحزن والهمّ، والشّكر والتوكّل على الله، والحمد له طبعًا. شكر النّاس للمسؤولين الذين يخدمون الشعب والمجتمع كما السيّد رئيسي. حظيَ قائد قوّة القدس، اللواء إسماعيل قاآني، بتكريم وترحيب خاص من وفدٍ ضمّ مجموعة من الأكراد، وراح الناس حين رأوه يطلقون شعار «قاآني، قاآني، حماك الله يا قاآني»، فهم استشعروا من سلوكه وتواضعه رائحة سلوك الشهيدين الحاج قاسم والسيّد رئيسي وتواضعهما. كان تلويحُه بيده وانحناؤه للناس كعلامة على الشكر مشهدًا رائعًا. بعده، وصل قائد القوى الأمنيّة اللواء رادان، وقائد حرس الثورة الإسلاميّة اللواء سلامي، وقائد الجيش اللواء موسوي، وهم أيضًا لقوا نفس الترحيب من الناس. كان مشهد تقديم الناس العزاء وتعبيرهم عن التعاطف مع أعضاء الحكومة مشهدًا مميّزًا أيضًا.
قضيتُ قرابة الساعة قبل بدء المراسم محدّقًا في الباب الذي يدخل منه الإمام الخامنئي عادة من أجل المشاركة في مراسم الحسينيّة، وفجأة انتبهتُ إلى ذهاب بعض الأشخاص وإيابهم على نحوٍ متكرّر. توقّعتُ عقد عائلات شهداء الخدمة جلسةً مع القائد قبل انعقاد المراسم. أيّ اهتمامٍ خاصّ وتقديمٍ للعزاء سيعرب عنه القائد في هذه الجلسة مع أطفال الشهيد مالك رحمتي وعائلته. ثمّ تذكّرت أن الابن الرابع لهذا الشهيد سيولد بعد شهرين أو ثلاثة.
منذ اللحظات الأولى لتلقّي خبر استشهاد شهداء الخدمة، كان المؤمنون يُهدّئون من روع أنفسهم، ويُعزّونها بوجوده، وسماحته في تلك الليلة الطويلة التي لم يكن فيها أيّ خبر عن مصير المروحيّة الحاملة لرئيس الجمهوريّة ورفاقه، أنار الدرب بكلماته: «لا يقلقنّ الناس، ولا يشعرنّ بالاضطراب، ستمضي شؤون البلاد كلّها على نحو منظّم وسليم، إن شاء الله». كان كلامه هذا المسكّن لقلوب المحبّين المضطربة في الساعات الأولى لهذه اللوعة القاسية. لكن، اليوم كانت الحشود الغفيرة للجموع مستعدّة لتكحيل عيونها برؤية محيّاه، فتُبلسم بمرآه جراحها. مع اقتراب دقّات الساعة من التاسعة والنصف صباحًا، كانت شعارات الناس وحماستهم تشتدّ وتتضاعف، وكان الجميع محدّقين بالبوابة التي سيدخل منها قائدهم؛ حتى تشتعل قلوبهم المترعة حزنًا بالشغف والحماسة.
دخل الحسينيّة مَن بحضوره تسكن قلوب النّاس، وترتفع معنوياتهم، ومع حضور قائد الثورة الإسلاميّة بدأت المراسم. فور دخوله، أشار القائد إلى أحدهم كي يأتوا بوالد الشهيد آية الله السيّد آل هاشم ويُجلسوه بجانبه. جرى تكريم عائلات الشهداء الحاضرين في الحسينيّة بشكل خاص. قبل قدوم الإمام الخامنئي، رأيتُ أحد الشباب يحمل صورة أحد الشهداء ويصرّ على الجلوس في الصفوف الأماميّة، لكنّ المرافقين كانوا يمنعونه. فجأة التفتَ إلى أحدهم وقال: يا فلان، أنا ابن الشهيد .......، وفور سماع المرافق هذه الجملة؛ مسح على رأسه، وأمسك بيده، وأخذه إلى الصفوف الأماميّة.
تلا عدد من القراء الأوائل والمعروفين في البلاد آيات ملهمة من القرآن الكريم، وراح الناس والمسؤولون يهدّئون أنفسهم لدقائق بآية: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} و{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}. كنت منشغلًا بالعثور على ردّ لهذا السؤال: حقًّا، ما الذي جعل السيّد رئيسي عزيزًا في العديد من دول العالم، ليس في إيران فحسب، ولا في المنطقة فقط، بل في كلّ بلدان العالم؟
كانت الآية 96 الكريمة من سورة مريم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} جوابًا عن سؤالي، وقد وردت في كلمة خطيب المنبر الشيخ رفيعي. فسّروا الودّ بأنّه الحبّ الكثير، ونحن شهدنا هذا الحبّ الكثير في التشييع الشعبي المليوني في تبريز، وقم، وطهران، وبيرجند، ومشهد. عند الخروج من الحسينيّة سمعتُ صوت أحدهم يقول لأحد الحرس على الباب: «لم تسمح لي بالدخول رغم توسّلي إليك»، نظرتُ إلى الأطراف؛ فلاحظتُ أنّ قاعة «الزينبية» كانت مليئة أيضًا، وهناك جموع غفيرة من المشتاقين جالسة في الشارع. رغم أنّ حسينيّة الإمام الخميني (قده) لم تكن تتّسع لهذا الحجم من الناس المعزّين، إلا أنّ العالم كلّه رأى كيف أنّ إيران كلّها شكّلت حسينيّة كبرى، وبكت على فراق خادم الشعب ورفاقه.
أيّ إيمانٍ وعملٍ صالح أدّاه خادم الرّضا (ع)، وجعله يحتلّ هذه المكانة؟!
لقد انتفع المستضعفون والمساكين من الناس حول العالم من خيره، وهذا ما جعلهم يتحرّقون هكذا على فراقه. أحبُّ النّاسِ أنفعهم للنّاس. طوبى لهم وحُسن مآب.