أكّد الإمام الخامنئي في خطابه الأخير قائلاً: «لقد أحبطت [عمليّة] «طوفان الأقصى» المخطّط الشامل لأمريكا والكيان الصهيوني في المنطقة، فقد كان من المقرّر أن يتمّ تنظيم علاقات الكيان الصهيوني مع حكومات المنطقة وفق رغبة هذا الكيان نفسه، بحيث يسيطر الصهاينة على الاقتصاد والسياسة في غربي آسيا والعالم الإسلامي». ما هو تقييمكم لأبعاد هذا المخطط؟ وكيف استطاعت عمليّة «طوفان الأقصى» إحباطه؟

يقوم المذهب العسكري للأمريكيّين على التخطيط للجم الشرق وكبحه، وقد مضى تقريبًا من خمس إلى عشر سنوات على تطبيقه على أرض الواقع، ومتابعتهم تنفيذه، كما أنّ الأمريكيّين كانوا يحاولون تقليص مستوى حضورهم العسكري في المنطقة، وأن يتمكّنوا - عبر إنشاء التحالفات في المنطقة - من ترسيخ موطئ قدم لهم في المجالات العسكريّة، وأن يملأوا فراغ انسحابهم، وكذلك أن يعيدوا تنظيم علاقاتهم الإقليميّة بالتزامن مع تقليص حضورهم العسكري؛ بما يخدم مصلحة أبرز شركائهم وحلفائهم الرئيسيّين، أي الكيان الصهيوني، وأن يرسّخوا ويثبّتوا هذا النموذج في المنطقة بعد انسحابهم.

وفق هذا الأمر، مارس الأمريكيّون سلسلة من الخطوات، وعلى سبيل المثال يمكن الإشارة إلى اتفاقيات الأمن الذاتي بين الدول والقيادة المركزيّة للولايات المتحدة الأمريكيّة – التي هي في الواقع قيادة النطاق الجغرافي في منطقة غربي آسيا – وتعزيز تحرّكات هذه القيادة ضمن إطار التحوّلات في المنطقة.

من جهة أخرى، وكما ذكرت سابقًا، قرّر الأمريكيّون تقليص حضورهم العسكري، كما فعلوا في أفغانستان، وكما غيّروا انتشارهم العسكري في العراق، وسلسلة الأحداث الأخرى التي وقعت. لكن تقليص الأمريكيّين هذا لحضورهم تزامن مع استكمال مشروعين. لقد حاولوا في الجانب العسكري أن ينقلوا القيادة العسكريّة الأمريكيّة في أوروبا إلى دائرة القيادة المركزيّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة، وأن يمنحوا من خلال ذلك وزنًا ومكانة قانونيّة لشريكهم الأساسي في منطقة غربي آسيا ضمن إطار القيادة العمليّاتيّة الميدانيّة في المنطقة، وأن يبسطوا - عبر إضافة مستشارين إسرائيليّين للقيادة المركزيّة للولايات المتحدة الأمريكيّة - يدَ الصهاينة ضمن إطار مستوياتهم العسكريّة، والسيطرة الأمنيّة والعسكريّة في المنطقة.

هذا ما حدث طيلة العامين الماضيين، وإنّ الإسرائيليّين - بصفتهم جزءًا من القيادة المركزيّة للولايات المتحدة – ينشطون ضمن مستوى الخبرات والاستشارات، وباتت لديهم في المنطقة حريّة الحركة ضمن الإطار الرقابي للقيادة المركزيّة، ويحظون بغطاء من الأمريكيّين والقيادة المركزيّة للولايات المتّحدة. من ناحية أخرى أيضًا، تزامن ذلك مع المشروع السياسي الذي يتابعه الأمريكيّون، محاولين تطبيع العلاقات بين دول المنطقة عامةً، ودول العالم الإسلامي خاصةً، مع الإسرائيليّين على نحوٍ ما. كان الأمريكيّون يعملون تحت غطاء هذه الخطوة على فرض سيادة الإسرائيليّين على المنطقة، وتفوّقهم فيها، بالتزامن مع تقليصهم لحضورهم فيها. هذا هو المخطط المعقّد الذي يشير إليه قائد الثورة الإسلاميّة. ومن وجهة نظري، ووفق المعطيات التي أراها في الساحة، فإنّ هذه السيادة الصهيونية  تسير بالتزامن مع تقليص حضور الأمريكيّين في المنطقة، وكذلك التفوق الصهيوني. إنّهم يعملون على إرساء نظام ومفهوم سياسي وأمني جديد فيها، يخوّلهم أن يتمكّنوا من تقليص حضورهم العسكري ببال مطمئن، وأن يرسّخوا هذه القناعة لدى دول المنطقة بأنّ هذا الفراغ من المقرّر أن يملأه الصهاينة، وأنّ موافقة الدول على تطبيع علاقاتها مع الصهاينة يتضمّن الإقرار بهذا التفوّق. إنهم يفرضون واقعًا تكون السيادة فيه على منطقة غربي آسيا للصهاينة، وينبغي أن يتمّ إنجاز كلّ الأعمال، وأن تقع كلّ الأحداث الكبرى وأنواع التقدّم، عبر قناة الاعتراف رسميًّا بهذا التفوّق للصهاينة، وهذه السيادة لهم.

في عهد ترامب، دخلت بعض الدول العربيّة هذه العمليّة، مثل الإمارات والبحرين والسودان، وخاضوا مرحلة التطبيع، وكان ذلك بمنزلة النجاح لحكومة ترامب. لكن خلال الفترة الأخيرة، أي فترة حكم الديمقراطيّين وحكومة بايدن، أدّى حدثٌ كبير إلى هبوط مكانة الإسرائيليين والصهاينة على نحوٍ جعل هذه السيادة تتراجع تمامًا، وكذلك التفوّق، حتى بالنسبة إلى تلك الدول التي خاضت سابقًا معاهدات التطبيع هذه، وهذا الحدث كان العمليّة المشرّفة والعظيمة، عمليّة «طوفان الأقصى» التي نُفّذت في السابع من أكتوبر العام الماضي. ما حدث في هذه العمليّة كان تلقّي السيادة والتفوّق العسكري للإسرائيليّين – بوصفه الركن الأساس لقوّتهم – ضربة قاصمة ومزعزعة.

ما حدث في عمليّة السابع من أكتوبر كان الانهيار التامّ لأقسام من جيش الكيان الصهيوني، خاصّة قيادتهم في الجنوب، وفرقة غزّة، وتلك الوحدات التي كانت مسؤولة عن السيطرة على غزّة، وعاش الصهاينة حالة من الضياع المطلق خلال الساعات الـ24 الأولى، ولم يكن لديهم أيّ سيطرة على الأوضاع في الميدان.

لقد وجّهت صدمة السابع من أكتوبر ضربة للمشروع السياسيّ للأمريكيّين، القائم على ترسيخ الصهاينة كشركاء أساسيّين وكبار لهم، وتزعزع بالكامل هذا المشروع الذي كان يهدف إلى متابعة سيادة الأمريكيّين على المنطقة، والسيطرة عليها، بعد تقليصهم حضورهم فيها. كما إنّ الدول التي كان من المقرّر أن تخوض عمليّة التطبيع في المراحل اللاحقة، مثل السعودية، أوقفت اتفاقياتها وعمليّة التفاوض؛ لأنّ مستوى الأمور التي كانت مدرجة في الصفقة شهد تغييرًا جذريًّا.

بعد 8 أشهر من الحرب غير المتكافئة التي شنّها الكيان الصهيوني على غزّة، ما هي الأمور التي تُثبت أنّ الأمريكيّين لن يستطيعوا إعادة إحياء مؤامرتهم وتنشيطها ضدّ منطقة غربي آسيا؟

إنّ أبرز ما يثبت في الميدان حول فشل المشروع السابق للأمريكيّين هو أنّ مكانة الصهاينة، ونظام الحسابات الذي وضعه الأمريكيّون بشأن الصهاينة، وكانوا يفاوضون بقيّة الدول على أساسه، هذا كلّه قد تضرّر وزال بالكامل. وبطبيعة الحال، حاولوا تدارك هذا التغيير الملحوظ وتعويضه عبر بعض المسارات، وسعوا لإصلاح نظام الحسابات هذا، وحثّ الدول على العودة إلى مشروعهم. لكن خلال فترة الأشهر الثمانية هذه، وقعت أحداث أخرى أيضًا، فإضافةً إلى حادثة السابع من أكتوبر، لدينا أيضًا عمليّة «الوعد الصّادق».

تلك العمليّة نفسها، والأحداث التي وقعت خلال تلك الساعات الـ24، والتداعيات التي ترتّبت عليها في المنطقة، كانت مهولة وقاسية جدًّا بالنسبة للإسرائيليّين. ونحن لو أردنا الإشارة إلى مرحلة أخرى خلال فترة الأشهر الثمانية السابقة، أدّت إلى فتح صفحة جديدة في التحوّلات، فسوف نذكر حتمًا عمليّة «الوعد الصادق».

ما يمكن الإشارة إليه كقرائن ميدانيّة، مجموعة من الأمور المتعلقة بتداعيات عمليّة «الوعد الصادق»: كيفيّة تعامل مختلف الدول مع العمليّة في تلك الليلة، والخطوات التي اتخذتها محكمة العدل الدوليّة ضدّ الصهاينة في ملف فلسطين والإبادة المرتكبة في غزّة، وملاحقة رئيس الوزراء ووزير الدفاع الصهيونيّين من قبل المحكمة، إضافةً إلى التغيير والتحوّل الذي شهده الرأي العام العالمي، ورغبة الدول في أن تصبح فلسطين عضوًا معترفًا به رسميًّا كهويّة مستقلّة، وانضمام دول أوروبيّة مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج إلى الدول التي تعترف رسميًّا بفلسطين، وغيرها من التحوّلات الكثيرة. هذه الأمور تدفع أمريكا إلى إعادة النظر في مشروعها السابق، وهذا بطبيعة الحال سيكون أمرًا بمنتهى الصعوبة، نظرًا إلى كون العناصر كثيرة، وستستغرق إعادة الحسابات بشكل دقيق وقتًا طويلًا.

أثبتت عمليّة «طوفان الأقصى»، واصطفاف جبهة المقاومة في المنطقة مقابل واشنطن وتل أبيب، أنّ الجغرافيا السياسية في غربي آسيا تتكوّن من جديد. ما هي مكانة محور المقاومة عامةً، والمقاومة الفلسطينيّة خاصةً، في خضمّ هذا التحوّل الذي تشهده الجغرافيا السياسية؟

لقد ارتقى محور المقاومة، ودوره في العلاقات، ونموذج عمله في المنطقة بشكل ملحوظ، وعقب عمليّة «طوفان الأقصى»، ارتقى دور الطرف الفلسطيني بنحو ملحوظ وواضح، ونحن من هذه الناحية نشهد أداء الفلسطينيّين لدورهم على أفضل نحو ممكن خلال هذه الأعوام الـ75 من احتلال الصهاينة لأرض فلسطين. طوال فترة الكفاح الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني، لم يُسجّل في الأراضي المحتلّة مثل هذا الحجم من الاستقلال في القرار، ومثل هذا المستوى من الإقدام، من دون دعم الأطراف الخارجيّة ومشاركتها. لا شكّ في أن ما حدث في عمليّة السابع من أكتوبر غيّر النظرة تجاه الضلع الفلسطيني في ركن محور المقاومة، وضاعف حجم الثقة به، والاعتماد عليه، ونحن نشهد اليوم أداء مميّزًا واستثنائيًّا.

أكثر من 8 أشهر، وأكثر من 240 يومًا، والتحمّل على المستوى العسكري متواصل، والتدبير الدقيق على المستوى الميداني مستمر، وجعلُ الصهاينة يواجهون التحديات على المستوى الاستخباراتي مستمرّ.

لقد ارتقى مستوى أداء الفلسطينيّين، إن كان ضمن إطار حسابات محور المقاومة، أو ضمن إطار الواقع في الميدان ومستوى المنطقة. لقد تبدّلت الأنظار إليهم، وارتقت مكانة الفلسطينيّين وقدراتهم كثيرًا، إن كان في المنطقة، أو على مستوى النظام الدولي، نظرًا إلى قدرة أهالي مدينة غزّة الكبيرة على التحمّل والصمود. تُطرح قضيّة فلسطين اليوم بنحو تخطّى كلّ التوقّعات السابقة، حتى في محور المقاومة، كقضيّة دوليّة، وواحدة من الأولويّات الأساسيّة ضمن القضايا المطروحة في النظام الدولي، وبطبيعة الحال، كان الحفاظ على هذا الواقع أمرًا شاقًّا خلال الأشهر الثمانية الماضية. لكن حجم تضحيات الفلسطينيين، ومؤازرة أضلاع محور المقاومة، مثل اليمنيّين، العراقيّين، اللبنانيّين، الإيرانيّين والسوريّين، أدّى إلى أن يتمكّن كلّ واحد من هذه الأضلاع من أداء دوره، وإبقاء هذه القضيّة حيّة ضمن أعلى الدرجات على المستوى العالمي.

لقد تضاعفت الضغوط الدوليّة للرأي العام على أمريكا والكيان الصهيوني أكثر من أيّ زمن مضى. كما أكّد قائد الثورة الإسلاميّة قائلًا: «أمريكا مصابة بالارتباك مقابل هذا الإجماع لشعوب العالم، وسوف تُجبر عاجلًا أو آجلًا على سحب يدها من مساندة الكيان الصهيونيّ». ما هي العوامل التي أدّت إلى أن يتبادر إلى الذهن معطى قطْع واشنطن دعمها لتل أبيب؟

فيما يرتبط بكلام الإمام الخامنئي، هناك نقطة لابدّ من الإشارة إليها، وهي أنّ الصهاينة نظرًا إلى عِظَم الأزمة التي يواجهونها، والشرخ الداخلي الذي يعيشونه بعد عمليّة السابع من أكتوبر، والأضرار التي تلت هذه العمليّة، والصراعات الداخليّة التي برزت بعدها، وانعدام حسن التدبير الناجم عن هذا الانهيار، مثل التقييم الاستخباراتي الخاطئ لردّ فعل إيران على الهجوم الذي استهدف قنصليّتها في سفارتها الواقعة في دمشق؛ أدّت كلّ هذه الأمور مجتمعةً إلى أن يخوض الإسرائيليّون الحرب وميدان الصراع بنحو لا يراعي معايير الأمريكيّين.

لم يسبق للأمر أن يكون على هذا النحو في الحروب السابقة، إذ لم يسبق ألا يراعي أحد الطرفين – أي الأمريكيّين أو الصهاينة – معايير الآخر، ويعمل وفق معاييره الخاصّة فقط. لطالما كان مستوى التنسيق يتمّ بشكل وثيق جدًّا بين الطرفين، وكان يتمّ الالتزام بمعايير كلا الطرفين بأقصى حدّ ممكن، أي إنّ تحقيق أحد الطرفين أهدافه لا يؤدّي إلى الإضرار بأهداف الطرف الآخر.

خلال النزاع الأخير، ووسط المشهد الميداني الأخير، تصرّفَ الصهاينة - نظرًا إلى عمق الأزمة وحدّتها – على نحوٍ همّش الكثير من المعايير الأمريكيّة، إن كان في المشهد السياسي، أو حتى على أرض الواقع وفي الميدان العسكري. وبطبيعة الحال، كانت واحدة من المطالب الأساسيّة للأمريكيّين أن تُحدّ تداعيات الحرب وفترتها بنحو لا يجعل تداعياتها تؤثّر على مشهد السياسة الداخليّة لأمريكا، وبشكل خاصّ انتخابات رئاسة الجمهوريّة التي ستُقام خلال العام الحالي. لم يكترث الصهاينة عمومًا، وحكومة نتنياهو خصوصًا، بمطلب الأمريكيّين هذا، ولم يلتزموا معايير الأمريكيّين في المشهد الميداني.

يعتقد الأمريكيّون أنّ استمرار هذا المسار سيؤدّي إلى إضعافهم، وهذا سيؤدّي إلى ابتعادهم عن مطالب الإسرائيليّين ومعاييرهم في دفع الأهداف المشتركة إلى الأمام. هذا هو الأمر الذي جرت الإشارة إليه بصراحة في تعبير الإمام الخامنئي، وهو صحيح. لقد بات الاختلاف السياسي بين الصهاينة وأمريكا - الذي لم يطّلع عليه في السابق سوى الخبراء الأمنيّين أو السياسيّين في المستويات العليا - مفضوحًا للجميع. لقد باتت الحكومة الأمريكيّة، ورجال السياسة الأمريكيّون يتحدّثون جهارًا نهارًا عن الخلافات مع الإسرائيليّين، وسبب هذا الأمر هو عدم رغبتهم دفع المزيد من الأثمان السياسيّة من أجل مراعاة المعايير الإسرائيليّة، تلك الأثمان التي تتعارض مع المصالح الوطنيّة لأمريكا، والتي تغاير الهدف والتوجه الذي يتابعه الأمريكيّون في المنطقة والنظام السياسي العالمي.

 لكن على أيّ حال، ما طرحه الإمام الخامنئي كمعطى مفتاحي ومهم، هو معطى دقيق جدًّا. نحن نشهد وضعًا غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين أمريكا والكيان الصهيوني، والأمريكيّون يدأبون على تحديد المسافات مع الصهاينة، وهم يحوّلون هذا الأمر إلى سياسة مُعلنة، ويحاولون التقليل من أضرارهم من خلال تحديد المسافات هذا، وفصل مواقفهم عن موقف الطرف الإسرائيلي، وتحديدًا موقف حكومة نتنياهو. إنّهم يحاولون التخفيف من الضغوط على أنفسهم، وهذا مُعطى ينبغي أن يحظى باهتمام الخبراء وتدقيقهم، وعلينا أن نلتفت إلى أنّ الإجماع العالمي بشأن الصهاينة، والذي أشار إليه قائد الثورة الإسلاميّة أيضًا، هو حدثٌ غير مسبوق.