بنى أبو البشريّة، آدم (ع)، الكعبةَ كي تكون جسرًا يربط الأرض بالسماء، ولكي تكون علامة صغيرة على تجلّي الله في عالم المادّة، وبيتًا لأهل التوحيد. عمّر إبراهيم الخليل هذا البيت، وبناه من جديد، ووضع له بأمر الله مناسكًا. كما سمّى الكعبة، ومدينة «الحرم الآمن»، وعلّم البشريّة مناسك «الحجّ». إنّ بعض التدقيق في مناسك الحجّ يُثبت أنّ «البراءة» ركنٌ من أركان الحجّ الإبراهيمي، فـ«رمي الجمرات» ذكرى نضال النبي إبراهيم (ع) ضدّ الشيطان، ورمز عمليّ للبراءة في أعمال الحجّ. وعليه، يمكن إرجاع جذور مراسم «البراءة من المشركين» إلى تأسيس الحج. كما إنّ الدلالات الإسلاميّة لهذه المراسم واضحة، خاصّة أنّ ما رواه التاريخ عن حجّ رسول الله (ص) في العام التاسع للهجرة.[1] حين تلا الإمام علي (ع) آيات البراءة للمرّة الأولى في مكّة بأمر من رسول الله (ص)، حتى يعلم الحجّاج أن التبرّؤ من الشرك والكُفر جانبٌ مهمٌّ من الحج، وعدم التبرؤ في الحج كعدم اكتمال المعنى حين يُقال «إلا الله» دون «لا إله».

لكنّ سنّة البراءة من المشركين مُهملة منذ أعوام، بل قرون، وقلّما يكرّر أحدٌ من حجّاج بيت الله تلاوة آيات البراءة، ويفكّر في مراسم الحج مع رفع صرخة النفور من أعداء التوحيد. كانت البراءة من المشركين، جزءًا من روح الحج، لكن قلّما كان أحدهم يريد الحجّ حيًّا في عصر العُسرة والغربة ذاك. لكنّ الزمان شهد في العام 1979 م انتصار ثورة وضعت خطّة لإزاحة الغبار عن السّنن الإسلاميّة الحيّة. وها هي «جمهوريّة إيران الإسلاميّة» تحمل راية مكافحة الظلم، وأيّ فرصة أفضل من مؤتمر الحجّ العالمي تتيح إطلاق الصرخات واستنكار هذا الظلم بشكل مهيب؟

إبداع الإمام الخميني

منذ العام الأول بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، أدخلَ الحجاج الإيرانيّون «البراءة من المشركين» - بفضل إبداع الإمام الخميني - إلى مناسك حجّهم. أراد الحجاج القادمون من البلد الثوري أن يوصلوا صوتهم لأسماع جميع المسلمين حول العالم، ويحدّثوهم عن «البراءة»، سنّة الحج الإبراهيمي المنسيّة، والتعيّن العملي لرمي الجمرات. كان الشيطان الأكبر يخطّط في تلك الناحية من العالم من أجل الهجوم على الإسلام الأصيل، وكان الحجّاج المسلمون يرمونه بصرخاتهم، ويدكّون شيطان الصهيونيّة وشيطان الإمبرياليّة. تعطّر حجّ العام 1980 م برائحة «البراءة من المشركين»، ولم تكن الصفوف المنظّمة للحجاج من أنحاء العالم تُحدث خللًا في أعمال الحج، بل كانوا يختارون يومًا وساعة محدّدة، وينطلقون في شوارع مكّة حتى يُثبتوا  -عبر إطلاق صرخة «الموت لأمريكا» و«الموت لإسرائيل»  - أنّ رميهم الجمرات ليس محدودًا برمي صنم الشيطان الصخري، بل إنّهم يرمون أيضًا الشيطان الحيّ بالحجارة. اكتسب الحج في الثمانينات صبغة جديدة مع هذا الإبداع للحجاج الإيرانيّين، ومؤازرة الحجاج من أنحاء العالم لهم. تحوّلت مراسم «البراءة من المشركين» إلى وسيلة إعلاميّة، تُقدّم الهدف الرفيع والسامي والحيّ للثورة الإسلاميّة في إيران إلى العالم الإسلامي أجمع.

أثر الشهادة الأحمر على ثياب الإحرام البيضاء

استمرّت الحال على هذا المنوال حتى العام 1987 م، وكان الحجاج الإيرانيّون - وعلى خطاهم الحجاج من أنحاء العالم الإسلامي - قد أحيوا مراسم «البراءة من المشركين». لكنّ حدثًا أليمًا نغّص هذا العام على الحجاج. كان الحجاج – كما جرت العادة في كلّ عام – يجهّزون لمسيرة «البراءة من المشركين» حين خلّف هجومٌ مريع على المشاركين في المسيرة مأساةً كبيرة. بدأ الهجوم بقذف الحجارة والأخشاب من فوق الأسطح، ثمّ بعد قليل، بدأ إمطارهم بالرصاص، واتشحت شوارع مكّة بدماء الحجاج الحمراء القانية. خلّفت المجزرة أكثر من 300 شهيد من الحجاج الإيرانيّين والحجّاج من جميع أنحاء العالم الإسلاميّ، وتركت حرقة ولوعة في قلوب أحرار العالم. كانت هذه الفاجعة المروّعة أفضل شاهد على الأثر العظيم لعودة مراسم «البراءة من المشركين» إلى فريضة الحج. لقد رسّخ شهداء ذاك العام بدمائهم «البراءة من المشركين» في تاريخ الحج الإبراهيمي.

البراءة، مقدّمة النهضة

منذ بدايات التسعينات، تحوّلت «البراءة من المشركين» إلى واحدة من أركان الحج بالنسبة للإيرانيّين، وهم يدعون في كلّ عام عددًا كبيرًا من الحجّاج في سائر الدول أيضًا إلى إحياء هذه المراسم، عبر قراءة نداء الإمام الخامنئي، والشعارات التي يُطلقها الحجّاج ضدّ أمريكا وإسرائيل في خيمة الإيرانيّين الواقعة في أرض منى. طوال هذه الأعوام، تشرح المضامين والمفاهيم الواردة في نداء الإمام الخامنئي إلى مؤتمر الحج العظيم أساسَ مراسم «البراءة من المشركين» ومعناها.

«ينطوي الحج في جوهره وذاته على عنصرين أساسيّين: التقرّب من الله في الفكر والعمل، واجتناب الطاغوت والشيطان بالجسد والروح. كلّ أعمال الحجّ من أجل هذين الأمرين، وفي اتجاههما، ولتوفير أدواتهما ومقدماتهما، وهذه في الحقيقة خلاصة الإسلام، وكافّة الدعوات الإلهيّة أيضًا، إذ قال الله في محكم كتابه الكريم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (سورة النحل، الآية 36)».

كان هذا مقطعًا من نداء الإمام الخامنئي إلى حجاج بيت الله الحرام في العام 1995 م، النداء الذي يشرح الأساس والمعنى الإلهي لفكرة «البراءة من المشركين». كما تطرّق قائد الثورة الإسلاميّة في ندائه إلى الحجاج في العام 2018 م إلى هذا الموضوع من منظار آخر، وكتب سماحته ما يلي: «يدعو الحج في هذا المكان، وضمن هذا الإطار الزمني، دائمًا وفي الأعوام كلّها، المسلمين إلى الاتحاد، بلسان بليغ ومنطق واضح. وهذا في النقطة المقابلة لإرادة أعداء الإسلام في العصور كافّة، وفي هذا العصر خاصةً، فلطالما دعوا ولا زالوا يشجعون المسلمين على الاصطفاف في وجه بعضهم. انظروا اليوم إلى سلوك أمريكا المستكبرة والمجرمة. إنّ سياستها الأساسيّة في مقابل الإسلام والمسلمين هي إشعال الحروب».

ربّما يمكن استخلاص نظرة سماحته تجاه «البراءة من المشركين» في الحج من هذه العبارات الواردة في نداء الحج عام 2009 م: «إنّ أهمّ مسؤوليّة للأمّة الإسلاميّة اليوم هي توطيد الألفة، والأخوّة، والعلاقات، ومقاومة وحش الاستعمار متعدد الأوجه، والبراءة من المشركين في القول والعمل». كما إنّ الحاجة المستمرّة للعالم الإسلاميّ إلى استلهام الدروس من الحج من أجل أوضاعه الراهنة، أمرٌ أشار إليه الإمام الخامنئي في آخر عباراته التي أوردها في نداء الحج عام 2002 م: «إنّ الأمّة الإسلاميّة بحاجة - في ظلّ مثل هذه الأوضاع الحساسة والخطيرة - إلى استلهام الدروس من نموذج الحج أكثر من أيّ زمنٍ مضى: حركةٌ ونهضة هادفة، وواعية، ومتنوعة، وشاملة، في اتجاه تحقيق الأهداف القرآنيّة، وعلى صراط الإسلام المستقيم». ضمن إطار هذه الخصائص، يصبح بمقدور مراسم «البراءة من المشركين» أن تقود حركة لنهضة الإسلام باتجاه مثل هذه النهضة «الهادفة، الواعية، المتنوّعة والشاملة».

والآن: حجّ البراءة

لكن ما يُقبل عليه الحجّاج في حجّ العام 2024 م له شأنٌ مختلف. فإنّ جرائم الكيان الصهيوني الحقير الوحشيّة في أرض فلسطين؛ أثارت حيرة وذهول جميع الأحرار حول العالم، وشكّل ذلك نهضةً عالميّة لمكافحة هذه الغدّة السرطانيّة. في هذه الأيام، أصبح العالم كلّه، من جامعات أوروبا وأمريكا حتى المدن الكُبرى في العالم الإسلامي، مشهدًا يصدح بصرخات الإنسانيّة ضدّ الوحشيّة الصهيونيّة. لقد كوّنت هذه النهضة العظيمة والموقظة أسئلةً حقيقيّة في العالم، وضاعفت شكوك المسلمين حول العالم حيال كفاية الحكام المهادنين والمرتبكين أمام الكيان الصهيوني بشكل مضاعف. في ظلّ مثل هذه الخصائص؛ سمّى قائد الثورة الإسلاميّة حجّ هذا العام «حجّ البراءة»، وهكذا جعل سماحته سنّة «البراءة من المشركين» المحبّبة تكتسب معنى جديدًا في الحج الإبراهيمي. إنّ ما أضافه الإمام الخميني (قده) منذ العام 1980 م إلى ثقافة الحج، يُثمر اليوم، ومع التسمية الذكيّة لقائد الثورة الإسلاميّة، تحوّلت مراسم الحج إلى ميدانٍ لاتحاد المسلمين ضدّ الصهاينة، أعداء البشريّة. وفي العام الذي نشهد فيه سفك دماء آلاف المظلومين في غزة، يقوم الحجّ بأكمله على أساس «البراءة»، ولن تكون زيارة بيت الله شيئًا سوى إطلاق صرخة البراءة من هؤلاء المشركين المتّصفين بصفات الحيوانات.

أحياء بـ«البراءة»

إنّ مراسم الحج العظيمة هي - من جهةٍ أولى - رمزٌ ودلالة على الأواصر العميقة ونقاط الاشتراك العديدة بين جميع المسلمين، سنّة وشيعة. ومن جهة أخرى، هي ساحة للإعلان الصريح عن رفض المصاديق المجسّدة للشرك والكفر في العالم اليوم. بمقدور مراسم «الحج» - حسب تعبير الإمام الخامنئي - أن تكون ساحة لاتخاذ المسلمين قرارًا جماعيًّا[2]، وساحة كبرى لتضافر جهود شعوب العالم الإسلاميّ، وهي تفسح المجال للحوارات الاستراتيجيّة والعميقة بين الشعوب التي تجتمع في ميعادها التاريخي، وأرض قبلتهم، كي تطّلع على أحوال بعضها، وتتحاور بشأن قضايا العالم الإسلامي. وإنّ أهمّ قضيّة اليوم في العالم كلّه، هي آلام شعب فلسطين، ولا شكّ في أنّ مراسم الحج قادرة على أن تكون فرصة من أجل توصّل المسلمين إلى حلول جوهريّة لمكافحة الغدّة السرطانيّة «إسرائيل».

إنّ ما تمّ إحياؤه بهمّة الإمام الخميني (قده) وإبداعه على أيدي الإيرانيّين في مؤتمر الحج، كان عنصرًا ينطوي على معنى أتاح استمرار نهج النبي إبراهيم (ع) في عصرنا، وأعاد الحجّ من مراسم استعراضيّة إلى مكانته الأساسيّة، أي المناسك المُقوّمة للمجتمع الإسلاميّ. والآن، مرّت أكثر من أربعة عقود على سماع الإيرانيّين صرخة المظلومين في أيام الحج، وتحقيقهم «البراءة من المشركين» في الأرض المقدسة بشكل عملي، مع إحياء ذكرى شهداء الحجّ الدامي في العام 1987م.

 

 


[2] كلمة الإمام الخامنئي خلال لقاء مع القائمين على شؤون الحج، 6/5/2024