بسم الله الرّحمن الرّحيم[1]

والحمد لله ربّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على سيّدنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الطيّبين الطّاهرينَ المعصومين.

بدايةً، أتوجّه بالشكر الجزيل [لكم]، وأعبّر عن سروري لتحقّق هذه الفكرة في أوساط الجمع الحاضر، ولمتابعتكم العمل بجدّ. رحِم الله الشهيد سليماني، إذ أشاروا إلى أنّه مبدع هذه الفكرة، وأنّ هذا كان إنجازه.

إنّ موضوع «الدفاع عن المقدّسات» وظاهرة المدافعين عن المقدّسات هذه، ظاهرة مُذهلة ومهمّة، تستبطن جوانب عديدة. برأيي، وعلى الرغم من شرح بعض جوانبها، وذكْرها هنا وهناك في كلمة أو تصريح أو أمثال ذلك، لكن من الضروري عرض هذه الجوانب بنحوٍ شامل وكامل. لقد دوّنتُ عدّة نقاط أودّ التحدّث بها معكم، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، حول جوانب هذه الظاهرة المهمّة والمدهشة والمذهلة.

لقد لحظتُ هنا أربعة جوانب: أحدها هو «الجانب الرمزي» لهذا العمل. فهذا الأمر، فهذه الحركة من مختلف الأماكن باتجاه العتبات المقدّسة، والدفاع عنها، وأمثال هذه الأمور، يحمل معنى رمزيًّا، له جانب رمزيّ سأتطرق إليه بعد قليل. جانب آخر هو جانب «الرؤية العالميّة للثورة الإسلاميّة»، إذ إنّ الثورة تهتم بقضايا المنطقة وشؤون العالم والمعادلات العالميّة، وهناك إمكانيّة لإجراء قراءة من هذا الجانب أيضًا، كما سأشرح ذلك. الجانب الثالث هو أنّ هذه الحركة دفعت خطرًا عظيمًا عن هذه المنطقة، وعن بلادنا خاصةً، وهذه أيضًا قضيّة مهمّة لم يجرِ التطرّق إليها كما ينبغي، وإن ذُكرت بعض الأمور أحيانًا. القضيّة الرابعة أيضًا هي أنّ هذه الحادثة أثبتت امتلاك الثورة الإسلاميّة، بعد مرور أربعة عقود، «إعادة تفعيل قدراتها الذاتية» التي اكتسبتها من الأحداث التي مرّت بها، وبرزت في بداية الثورة الإسلاميّة. سوف أعرض شرحًا مختصرًا لكلّ واحدة من هذه النقاط الأربعة.

فيما يرتبط بذاك المعنى الرمزي، فصحيحٌ أنّ الحركة باتجاه المراقد المقدّسة لأهل البيت (عليهم السلام)، والدفاع عنها، هو حقيقةً دفاعٌ عن المزار، واحترامٌ له، لكنّها في الواقع [أيضًا] احترامٌ للمحتوى ولمدرسة ذاك الجثمان الطاهر الراقد هناك. هذا هو المهمّ، أي إن من لا [يقدّر] ويحترم ذاك الفكر والهدف، فلن يمتلك أيّ سبب يدفعه للانطلاق من أجل الدفاع عن هذه القبّة، ولكي يقوم بحمايتها. بعض الذين ذهبوا وشاركوا في الدفاع عن الحرم، لم يكونوا شيعة أيضًا! نحن نعرف أشخاصًا من بلادنا، وسائر الأماكن الأخرى، لم يكونوا شيعة أيضًا، أي ربّما لم يكونوا ممن يطبّقون فقه أهل البيت (عليهم السلام)، إلا أنّ هدف أهل البيت (عليهم السلام) كان يهمّهم. المهمّ هو هذا.

لدى أهل البيت (عليهم السلام) أهداف سامية لن يأتي عليها الزمن أبدًا، وهي حاضرة في صدارة ما تتطلّع إليه كلّ الضمائر الطاهرة والأحرار من الناس، كالعدالة، والحريّة، ومكافحة القوى الظالمة والجائرة، ووجوب الإيثار والتضحية في سبيل الله. تلك هي المفاهيم السامية الحاضرة في حياة الأئمّة. فقد كانت هذه الحركةُ حركةَ الدفاع عن هذه الأهداف، والمحبّة لها، والرغبة فيها، وهذا أمرٌ في غاية الأهميّة. ونحن لو استطعنا إيصال هذا الجانب، [أي] جانب الدفاع عن الأهداف، إلى أسماع الناس حول العالم، عبر هذه الأساليب الإعلاميّة التي أشار إليها جنابه، نكون قد دعمنا حركة الدفاع عن المقدّسات، وكذلك تلك الأهداف؛ لأنّه توجد في العالم، بطبيعة الحال، ضمائر غير ملوّثة. انظروا إلى أمريكا الآن، وهي مركز المشكلات على المستويين الروحاني والأخلاقي، وعلى الرغم من ذلك، هناك مجموعة من الشباب يدافعون عن نساء غزّة ورجالها – مع أن كثيرًا منهم لا يعرفون أين تقع في العالم – بهذا النحو من التضحية. من الواضح أنّ الضمائر الطاهرة وغير الملوّثة موجودة في جميع أرجاء العالم. يجب أن تتمّ مخاطبة هؤلاء، ولابدّ من مخاطبة هذه الضمائر، وينبغي ألّا نغفل عنهم. هذه الأهداف من الأمور التي ينبغي مخاطبة هؤلاء بها، ونقلها إليهم. فهناك قدرة في هذه الأهداف على الجذب؛ بحيث تجعل الشاب ينسلخ عن بيته وحياته وعشقه ومحبّته الأبويّة لابنه ومحبّته لزوجته وغيرها من الأمور، وتسوقه نحو الدفاع. هذه النقطة الأولى في هذه الحركة.

وإنّ عداء أولئك الذين تسبّبوا بظهور هذه الحركة – أي أولئك الذين هدّدوا المراقد المقدّسة وأمثالها – هو في الواقع عداءٌ لهذه الأهداف نفسها. أشخاصٌ رحلوا عن الدنيا منذ أعوام وقرون، مثل المتوكّل العبّاسي؛ ما الذي جعل المتوكّل العبّاسي يفعل ما فعله بقبر الإمام الحسين (عليه السلام)؟ كان الإمام الحسين (عليه السلام)

 

 

 

قد تحرّر من عالم المادّة قبل أكثر من 150 عامًا، ولم يكن له وجود. ما دفع المتوكّل للتوجّه نحو القيام بمثل هذه الأعمال، وأن يقطع الأيدي والأرجل، ويقتل النّاس، ويسدّ المياه، ويفعل أمورًا من هذا القبيل، هو تلك الحقيقة وراء هذا القبر وهذه القبّة، وهذا المزار وهذا الضريح. كان قلقًا من تلك «الحقيقة»، وطبعًا، كان لديه الحقّ في أن يقلق؛ لأنّ مثل تلك الحقيقة تدكّ أمثال المتوكّل. هكذا هو الحال على مرّ التاريخ، والحال كذلك اليوم. هذه النقطة الأولى.

النقطة الثانية التي ذكرناها هي «الرؤية العالميّة للثورة». من الاحتياجات الحتميّة للنهضات ألّا تكتفي بنطاق وجودها وحضورها، [بل] أن تنظر إلى خارج نطاقها أيضًا، ولاسيّما في ظلّ الظروف المشابهة للظروف الراهنة في العالم، حيث توجد دول قويّة بمقدورها الاعتداء. لا يُمكن إحصاء أعداد القواعد الأمريكيّة في دول العالم، فهؤلاء لديهم قواعد في كلّ مكان من العالم. في ظلّ ظروف كهذه، لو اكتفت أيّ نهضة، أو حركة، أو ثورة بالاهتمام ببيئتها الداخليّة، وغفلت عن الأفعال والانفعالات الخارجيّة، فسوف تتلقّى ضربة حتمًا. لذلك، من الاحتياجات الحتميّة لأيّ نهضة وأيّ حركة - حركة اجتماعيّة أو سياسيّة - امتلاكُ رؤية تجاه المحيط الدوليّ، والمحيط الإقليميّ، والعلاقات والصداقات والتحالفات، وأمثال هذه الأمور.

في لقد لُدغنا في هذا المجال مرّتين على الأقلّ في ماضينا التاريخي غير البعيد كثيرًا: إحداهما في قضيّة الثورة الدستوريّة، والأخرى في قضيّة نهضة تأميم النفط. في قضيّة الثورة الدستوريّة، ولو وضعنا تدخّل البريطانيّين في البداية جانبًا، وبعد أن قامت الثورة الدستوريّة وانطلقت، انصبّت انشغالات الراغبين في الثورة الدستوريّة - وكذلك المسؤولين عنها، والحريصين عليها، والمتابعين لها - على القضايا الداخليّة للبلاد، [أي] النزاعات والصراعات لهذا مع ذاك وذاك مع هذا، وغفلوا عن الخارج. [غفلوا] عن أنّه قد تقتضي سياسة بريطانيا حينها أن يأتوا بشخص (كرضا خان) ليكنس كلّ ما هو ثورة دستوريّة وغير دستوريّة، ويرميها بعيدًا، وقد نزلت بهم هذه المصيبة. أدّت الغفلة عن احتمال تدخّل بريطانيا إلى أن استيقظوا في أحد الصباحات – حسب التعبير الرائج – ليجدوا أنّ شخصًا متجبّرًا وشرسًا مثل (رضا خان) استلم زمام الأمور، فأصبح بدايةً قائدَ الجيش، وبعد ذلك [صار] الشاه. وقد قرأتُ في مذكّرات أحد أقاربه نقله قول (رضا شاه): «لو كنّا نعلم أنّ استلام منصب الشاه بهذه السهولة؛ لاستلمناه من قبل»! أي أنّ الغفلة أصابتهم. غفلوا فجاء هؤلاء واستلموا زمام الأمور؛ تدخّل البريطانيّون وسلّموه زمام الأمور. لاحظوا، جاء (رضا خان) بعد خمسة عشر عامًا من الثورة الدستوريّة، ولم يكن قد مرّ وقت كثير. ما هي الابتلاءات التي شهدتها البلاد في الداخل طيلة الأعوام الخمسة عشر، وأدّت إلى غفلة هؤلاء؟ هذا أحد الأمور.

وأمرٌ آخر هو قضيّة النهضة الوطنيّة. بطبيعة الحال، كلّ ذاك الحماس والاندفاع ورغبة الناس وأمثال هذه الأمور – وأنا العبد أذكر إلى حدّ ما ذاك الحماس والاندفاع الشعبي، وتلك المسيرات، وتلك اللقاءات التي كانت تنعقد، وقد شهدنا جانبًا منها في مشهد –، كل هذه الأمور [انطفـأت] في واقع الأمر بانقلاب تافه حقًّا! أي لم يكن هناك ما يشير إلى معنى حقيقي لانقلاب عسكري ضخم أيضًا، إذ تمّ توجيه حفنة من الأوباش والآشرار وأمثال هؤلاء، بحقيبة أموال أمريكيّة، من داخل السفارة البريطانيّة في طهران، وأسقطوا حكومة وطنيّة انتُخبت من قِبل الناس بكلّ ذاك الحماس والاندفاع، فانتهت وزالت، ولم يبقَ لها أيّ أثر نتيجة الغفلة. [لقد] أنزل الانشغالُ بالقضايا الداخليّة، والغفلة عن احتمال تدخّل الأجانب، هذا البلاءَ فوق رأس البلاد.

الثورة الإسلاميّة في إيران، والنهضة الإسلاميّة في إيران، التفتت إلى هذه النقطة منذ اليوم الأوّل. وقد ذكر الإمام [الخميني] في خطاباته الأولى التي ألقاها، اسمَ أمريكا، واسم الصهيونيّة، واسم "إسرائيل"، إلى جانب ذكره فجائع نظام الشاه وأمثال هذه الأمور. لقد التفت سماحته إلى هذه القضايا منذ البداية. وربّما كان قد مرّ عام وشهران أو ثلاثة على بدء النضال[2] حين ألقى الإمام تلك الكلمة ضدّ الحصانة القضائيّة[3]، أي إنّ الإمام كان ملتفتًا إلى [قضيّة] الحصانة القضائيّة، وكان ملتفتًا إلى قرارات المجلس، والتفت إلى تدخّل الآخرين في الشؤون المحليّة للبلاد. منذ اليوم الأوّل لانتصار الثورة الإسلاميّة أيضًا، كانت عين الإمام متجهة إلى الخارج. طبعًا، كلمات الإمام حافلة بالقضايا الداخليّة والتطرّق إلى الشؤون المحليّة، لكن عندما تنظرون إلى أغلب كلمات الإمام، تلاحظون وجود إشارة إلى الأخطار الخارجيّة والإمكانات التي تهدّد البلاد. الرؤية العالميّة، والرؤية الإقليميّة، والرؤية الشاملة، وعدم الوقوع في الغفلة، وعدم الانشغال بالقضايا المحليّة حصرًا، كل هذه الأمور كانت حاضرة في الثورة الإسلاميّة.

من المظاهر الكبرى والمهمة لذلك أيضًا، قضيةُ حضور مجاهدينا في الدول التي أعدّ لها العدو الخطط والمشاريع، ووضعت لها مشاريع ضخمة للغاية. لقد أعدّ العدو خطة وكانت خطة مُحكمة؛ بالدرجة الأولى في العراق، وفي سوريا، وإلى حد ما في لبنان. لقد أسسوا جماعةً باسم الإسلام، وبالاستناد إلى دوافع دينية – والدافع الديني مهم جدًا، وله فعالية بالغة الأهمية – [أسسوها] لتكون في قبضة أمريكا وتحت مخالبها. كان مقاتلو «داعش» يهتفون «الله أكبر» في ساحة المعركة، وكان جرحاهم يُعالجون في المستشفيات الإسرائيلية وكان قادة الكيان الصهيوني يذهبون لعيادتهم! وقد تم بث ذلك، وشاهده الجميع. كانت هذه خطة خطيرة جدًا. وكان الهدف من هذه الخطة هو السيطرة على المنطقة من أجل السيطرة على إيران؛ أي أنه كان لا بد من جعل إيران الإسلامية - على صعيد المنطقة - تحت سيطرة أمريكا وجهاز الاستكبار والاستعمار؛ تم وضع هذه الخطة لهذا الغرض. ولقد أنفقوا [المال] أيضًا؛ أنفقوا سبعة آلاف مليار دولار. هذه هي الإحصائية، والرقم الذي أعلنه الشخص الرسمي الأول[4] في أمريكا مرات عدة. لقد أنفقوا سبعة تريليونات دولار في هذه المنطقة؛ وذهبت أدراج الرياح، وأخفقَ كل ما أنفقوه. كان هؤلاء يريدون تأسيس حكومات باسم الإسلام من خلال «داعش»، وإعلاء الإسلام التكفيري في طرَفَي إيران الإسلامية – في بلدٍ يحدّنا من الشرق، وبلدٍ يحدّنا من الغرب -، وفي الواقع، [أرادوا] أن يجعلوا الجمهورية الإسلامية تنصهر وتضمحل وتتلاشى عبر مختلف الضغوط المذهبية والفكرية والعقائدية، إضافةً إلى الاقتصادية وما شابه ذلك. لقد أحبطت حركة المدافعين عن المقدسات ذلك. أي لقد تمكنت مجموعة من الشباب والكبار، من مختلف البلدان، وبمحورية [دور] الجمهورية الإسلامية، من الإحباط التامّ لمخططٍ مهمٍ ومكلفٍ جدًا ومدروسٍ لجهاز الاستكبار والاستعمار. إنّ هذه الرؤية العالمية لدى الثورة هي أمر مهم للغاية.

يتّسم «الشرق الأوسط الجديد» الذي كانوا يتحدثون عنه بهذه الخصائص: خضوعه للهيمنة الأمريكيّة المطلقة، حكمه باسم الدين في كل من العراق وسوريا، باسم الدين، إنما وفق ما يطيب لـ"إسرائيل" وأمريكا وأمثالهما، والضغط على الجمهورية الإسلامية من كِلا الطرفين. ومن خلال هذه الرؤية؛ أنقذت حركة المدافعين عن المقدسات المنطقة. أي لقد كانت [هذه الحركة] أمرًا مهمًا أنقذَ المنطقة من خطر كبير، ومن شر مخطط خطير. كانت هذه هي النقطة الثانية.

ما هي النقطة الثالثة التي ذكرناها؟ كانت بشأن إبطال خطر داخلي كبير؛ وهو زعزعة الأمن. لو أنّ «داعش» وسائر الجماعات التابعة له أو المتحالفة معه أو المنافسة له في سوريا والعراق، كانوا موجودين [حتى الآن] بنفس تلك التشكيلات والتنظيم وما إلى ذلك، لسلبوا أمن المنطقة بأسرها، بما في ذلك إيران، ومن دون أدنى شك، كنا سنشهد في بلادنا كل بضعة أيام أحداثًا مثل حادثة شاهتشراغ في شيراز[5]، وحادثة كرمان[6]. وعلى النحو نفسه في العراق، وفي سوريا، حتى يصبح الحكم في أيديهم. لقد قضى المجاهدون المناضلون المدافعون عن المقدسات على هذا الخطر.

نعم، إنهم موجودون الآن في أماكن متشتتة، وإنهم تحت حماية أمريكا أيضًا، ولم يجرِ القضاء على الدواعش بنحو تامّ بعد، لكنّ ذلك الشكل من التنظيم قد اختفى. إنّ تصوّرَ ماذا كان سيحدث لو لم يتم تفكيك هذه المجموعة، هو أمرٌ مقلق حقًا. لقد كان هؤلاء الأشخاص العديمي الرحمة، وهذه المجموعة الوحشيّة، يرتكبون أفعالًا غير مسبوقة؛ كأنْ يحرقوا الناس وهم أحياء أمام الكاميرا، وأن يغرقوهم وهم أحياء، و[في الوقت نفسه] يتنعّمون بدعم مالي من أمريكا، وبأشكال الدعم التقنيّ والدعائيّ الغربيّ! إنّ الأفعال التي كان يرتكبها هؤلاء، وتلك المقاطع المصورة بالفيديو والصور الفوتوغرافيّة، وتلك الجزئيّات والتفاصيل الدقيقة التي كانت ضمن عملهم، لم تكن من عمل مجموعة من الأشخاص بذلك المستوى من الجهل، بل كانت تجري مساعدتهم، وكانوا مدعومين. كان من المقرر أن يأتوا ويبقوا في المنطقة، [وفي هذه الحالة] لن يبقى أمنٌ لأحد. كانت هذه نقطة أخرى أيضًا.

النقطة الأخيرة هي ما قلناه: إن حضور المدافعين عن المقدسات أظهر أن الثورة الإسلامية لديها القدرة على إعادة تجديد ومواصلة ذلك الشغف والحماس الذي كان في بداية الثورة؛ أي أنه أثبت تلك القدرة للثورة. عادةً، في بداية الحركات، هناك حماسة وثورية، ثم بسبب عوامل مختلفة، يضعف ذلك الحماس وذلك الشوق وذلك الدافع في المرحلة الأولى، ثم يختفي ذلك كله بنحوٍ كامل، وهذا نفسه يتسبب في زوال بنية تلك الحركة بنحوٍ كامل. لقد شاهدنا ذلك في تاريخنا المعاصر القريب، مثل الثورة الفرنسيّة والثورة السوفييتيّة وما شابههما. كانت تحدث حركةٌ شعبيةٌ عظيمةٌ في بلدٍ مثل فرنسا، تشمل كلّ مكانٍ في فرنسا، وتتولّى ثورٌة زمامَ السلطة، ثمّ في فترة اثني عشر أو ثلاثة عشر عامًا تقريبًا، تحدث أفعالٌ وردودُ أفعال وتقلباتٌ - حسنًا، كلّ ذلك يدلّ على ضعفهم المعنويّ والأخلاقيّ – وتغدو نتيجتها أن تزول تلك الحركة بنحوٍ كامل، ويتولّى إمبراطورٌ مستبدٌ مثل نابّليون زمامَ السلطة. عادةً يكون الأمر على هذا النحو. في الجمهوريّة الإسلاميّة أيضًا، كان بعض الناس يتوقّعون أن يحدث الأمر على هذا النحو، [لكنّ] حضور المدافعين عن المقدّسات أظهر أنّه - وبعد أربعة عقود - لا يزال ذلك الدافع موجودًا. [حكاية] هؤلاء الشباب الذين تركوا منازلهم وحياتهم، وذهبوا [للدفاع عن المقدّسات] - لقد ألقيت نظرةً على بعض هذه الكتب – صادمةٌ حقًّا؛ إنّها صادمة حقًّا! شابٌّ يمتلك إمكانات الشباب، وإمكانات عيش مرحلة الشباب، يتخلّى عن الراحة، عن ملذّاته، وعن المتع الماديّة، وعن التقدّم الأكاديميّ وأمثال ذلك، ويذهب للدفاع عن فكرةٍ، وعن حركةٍ، وعن ثورةٍ، وعن نهضةٍ! هذا شيءٌ مهمٌ جدًّا. هؤلاء لم يروا الإمام [الخمينيّ]، ولم يروا فترة الحرب والدفاع المقدّس أيضًا، ولكن يرى المرء أنّهم يمضون على النحو نفسه، وبالدافع نفسه، وأحيانًا على نحوٍ أفضل، وأحيانًا أكثر استبصارًا، ويحاربون بهذه الطريقة، يحملون أرواحهم على راحاتهم، فمنهم من ينال الشهادة، وبعضهم من لا ينالها. وهذا يدلّ على أنّ الثورة تمتلك هذه القدرة العجيبة، هذا مهمٌ جدًّا. طبعًا، كنّا قد رأينا ذلك في أشكاله الأخرى المختلفة، مثل مسيرات «الثاني والعشرين من بهمن»[7]، وهذه التشييعات العجيبة والغريبة التي لم يُشاهد مثلها في أي مكانٍ في العالم – هذا التشييع الأخير نفسه[8]، وتشييع جنازة الشهيد سليماني، وأمثال ذلك، لم يُشاهد مثلها حقًّا في أيّ مكانٍ في العالم – لكن الأفضل من هذه [التشييعات] هو حضور المدافعين عن المقدّسات في ساحات المعركة.

حتّى بعض هؤلاء الأشخاص الذين تسيطر عليهم التفسيرات الماديّة ولا تتركهم، مهما [فعلوا]، وأيّاً كانت الحجّة التي تقدّمها، فإنهم ليسوا مستعدين لإدخال هذه الحجّة في أذهانهم وإقناع عقولهم بها؛ قيل:

«هر درونی کو خیال‌اندیش شد *** چون دلیل آری خیالش بیش شد»[9]

[كلّ لبٍّ بات غارقاً في الأوهامِ *** ما فاده برهانك بل قهرته الأوهامُ]

أعينهم على الغرب، وعلى التطلّعات [الغربيّة]، وعلى تلك الأسس الفكريّة الغربيّة الخاطئة. كانوا يتوقّعون أنّ الثورة، التي هي ثورةٌ ضدّ هذا الفكر الماديّ، سوف تضعف تدريجيًّا. كان بعضهم أيضًا ثوريًّا في البداية، ثمّ تحوّلوا إلى معارضين أو مواجهين أو على الأقلّ إلى مخالفين للفكر الثوريّ، هم كانوا يقولون إنّ هؤلاء الذين كانوا في الدفاع المقدّس؛ لو بقوا إلى الآن لكانوا مثلنا، كانوا يقارنونهم بأنفسهم. أظهر هؤلاء الشباب أنّه لا، هذا خطأ، ليس الأمر كذلك. إنّ الطهارة والشجاعة والتضحية والإخلاص والإيمان العميق بالمبادئ الإسلاميّة والثوريّة لدى هؤلاء الشباب الذين ذهبوا أمرٌ مذهلٌ حقًّا، إنّها ظاهرةٌ فريدةٌ من نوعها حقًّا؛ تجعل المرء في عجبٍ. لا يمكن أن يكون ذلك إلّا لطف من الله، ومن الهداية الإلهيّة، ومن هداية الأئمّة المعصومين (عليهم السلام). بطبيعة الحال، إنّ شأن كبار قادتهم، من قبيل الشهيد سليماني والشهيد همداني والعظماء الآخرين الذين استشهدوا في هذه الطريق، محفوظٌ أيضًا.

لذلك، أخلص إلى أنّ المدافعين عن المقدّسات وعائلاتهم هم مصدر فخرٍ وإباءٍ لإيران الإسلاميّة، إنّهم مصدر النجاة والفلاح للثورة الإسلاميّة، والجمهوريّة الإسلاميّة هي بالتأكيد تَدين لهؤلاء الأعزاء، هؤلاء الشهداء، وهذه العائلات، وهؤلاء المدافعين. رفع الله، درجاتهم، إن شاء الله، وحشر أرواحهم مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وجعلهم راضين عنّا، وألحقنا بهم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

 


[1] استُهلّ هذا اللقاء بعرض العميد إسماعيل قاآني (قائد قوّة القدس في حرس الثورة الإسلاميّة)، وحجّة الإسلام والمسلمين الشيخ علي شيرازي (المسؤول عن إقامة المؤتمر) تقريرهما.

[2] النضال ضدّ نظام الشاه في بداية الستينات.

[3] بعد إقرار مشروع قانون استفادة المستشارين الأمريكيّين من الحصانات والفعاليّات المتّفق عليها في فيينا – الحصانة القضائية – بتاريخ 13/10/1964 من قبل النواب في مجلسي الشيوخ والكونغرس الأمريكيّين، أصدر الإمام الخميني في 26 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1964 بيانًا وألقى خطابًا مدوّيًا وحماسيًّا، صرّح فيه بأنّ الحصانة الدستوريّة تعني الإقرار بأنّ إيران مُستعمَرة، وقال إنّ رأي مجلس الشيوخ والكونغرس الأمريكيّين معارضٌ للإسلام والقرآن، وفاقدٌ للشرعيّة الدستوريّة. وكردّ فعل على هذه التصريحات، نفى النظامُ البهلوي المنقاد للغرب الإمامَ الخميني إلى تركيا في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1964. راجع: صحيفة النّور (النسخة الفارسية)، ج. 1، ص. 415؛ خطاب الإمام الخامنئي في جموع الناس، 26/10/1964.

[4] دونالد ترامب.

[5] عند غروب يوم الأربعاء (26/10/2022)، أطلق شخص مسلح النار على الزوار بعد دخوله حرم مقام أحمد بن موسى (عليه السلام)، فاستشهد في هذه الحادثة 13 شخصًا وأصيب آخرون. ثم أعلن تنظيم «داعش» الإرهابي مسؤوليته عن هذا الهجوم.

[6] في يوم 3/1/2024، الذي يصادف الذكرى الرابعة لاستشهاد الحاج قاسم سليماني (قائد قوة القدس في حرس الثورة الإسلامية)، أدى انفجار قنبلتين بين الحشود إلى استشهاد ما يقارب مئة شخص، وإصابة عدد من زوار روضة الشهداء في كرمان.

[7] الحادي عشر من شباط/فبراير؛ الذكرى السنوية لانتصار الثورة الإسلامية.

[8] تشييع الشهيد رئيسي ورفاقه.

[9] ديوان «الأرجوزة المعنوية»، جلال الدين الرومي، ج. 2.