في نفس الساعات واللحظات التي استُهدف وقُتلَ فيها جون كينيدي، الرئيس الأمريكي الخامس والثلاثون، عندما كان يبلغ من العمر ثلاثة وأربعين عامًا، برصاصة أحد الجنود القدامى، خلال عبور موكبه الرئاسي في أحد شوارع مدينة دالاس، كانت تتمّ وراء الطاولات، وفي الأروقة، وداخل القاعة الرئيسيّة لمبنى الكونغرس في أمريكا، دراسة التعديل الـ25 على الدستور الأمريكي ومناقشته. يشير التعديل الـ25 إلى الوضع السياسي والإداري للولايات المتحدة الأمريكيّة في حال إصابة الرئيس الأمريكي بالمرض، أو وفاته، أو تنحّيه عن منصبه. تمّت الاستفادة من هذا التعديل 9 مرّات في تاريخ أمريكا، وعدا قضيّة تنحّي ريتشارد نيكسون، استُفيد منه في سائر الحالات قبل عهد كينيدي، إلا أنّه كان لا يزال عاجزًا عن تحديد ما ينبغي فعله خلال الظروف الصعبة التي يخلّفها غياب أعلى منصب تنفيذي في أمريكا بنحوٍ واضح يُمكن الاعتماد عليه. كما أنّ الضعف المفرط والعجز الذي يعاني منه جو بايدن بنحوٍ عام في إنجاز أبسط شؤون الرئاسة، لا يزال موضع نقاش حادّ على المستويين السياسي والحزبي في أمريكا، ويعمل الجمهوريّون باستمرار على جعل حكومة بايدن تواجه التحدّيات والمآزق قبل الانتخابات المُزمع إجراؤها في نوفمبر 2024.

على الرغم من ذلك كلّه، لابدّ من الانتباه إلى أنّ عدم وجود رئيس الدولة، أو وفاته، أو مرضه، أو تنحّيه، ليس قضيّة يتكرّر حدوثها كلّ يوم. تختلف الإحصائيات في مختلف المصادر بشأن الأحداث التي تقع في شتّى الدول والقارّات، وتؤدّي إلى تراجع أداء المستوى الأوّل من السياسيّين أو وفاتهم، كما إنّ فهرس الدول التي خاضت مثل هذه التجربة ليس طويلاً. وعلى الرغم من ذلك، لم يبرز كثيرًا ما توقّعته وسائل الإعلام في العالم، وربّما أيضًا حسابات القوى والزعماء السياسيّين المعارضين لإيران، بشأن الأوضاع التي ستلي استشهاد رئيس الجمهوريّة السيّد رئيسي في حادث غير متوقّع، إذ وصّفوا الأوضاع التي ستلي الحادثة بأنّها ستكون «مأزومة» و«غير مستقرّة».  خلافًا لما توقّعته مراكز الأبحاث الفكرية، ووسائل الإعلام والمراجع السياسيّة في مختلف الدول خلال أحداث العام 2022 في إيران، برز الاستقرار، والثبات، والقوّة السياسيّة لدى جمهوريّة إيران الإسلاميّة بفضل تمتّعها بهيكليّة وقاعدة صلبة ومُحكمة.

وكما ربطت جون كينيدي علاقات واسعة ووثيقة وقويّة مع قادة النظام البهلوي في خمسينات القرن الماضي، فإنّ جيمي كارتر أيضًا أقام في عهد محمد رضا بهلوي، وفي سبعينات القرن الماضي، علاقات بين إيران وأمريكا تخطّت مستوى العلاقات بين بلدين حليفين. تحوّلت العبارة التي قالها كارتر، في ليلة رأس السنة الجديدة عام 1979 خلال مأدبة العشاء التي أقامها الشاه الإيراني على شرفه، إلى نقطة البداية للمسار المدمّر والعاصف بالنسبة للبهلويّين: «إيران جزيرة الاستقرار». شهدت جزيرة الاستقرار هذه بعد عشرة أيام من كلام كارتر ثورةً وقفت - على مستوى السياسة الخارجيّة - في النقطة المقابلة لمصالح أمريكا. ومع ذلك، لم يكن كلام كارتر عبثيًّا. فعلى الرغم من كلّ التهديدات وأنواع الحظر التي فرضتها أمريكا وأوروبا ضدّ إيران، ومع كلّ تدخّلاتهم، لا تزال إيران دولة المهمّات الصعبة والأيام العصيبة، وشجرة الصنوبر الجريحة - ولكن الباسقة - التي تعجز كلّ الآفات والأعاصير عن كسرها وإخضاعها.

قبل أن ينتهي العام 2022، خاضت إيران معركة جديدة، وكانت نتيجة لقاءات الشخصيّات المعارضة لجمهوريّة إيران الإسلاميّة مع المسؤولين والسياسيّين الأوروبيّين والأمريكيّين في العلن ووراء الكواليس، هبوبَ عواصف شتاء بارد على إيران والشعب الإيراني. لكن مقاومة إيران تتضاعف بقدر ازدياد التهديدات لها. فمَن أَطلقوا الشغب والاضطرابات ومختلف الهجمات ضدّ سفارات إيران في الدول الأوروبيّة، وحاولوا عزل إيران عالميًّا، أُجبروا رويدًا رويدًا على الاعتراف رسميًّا بإيران مجدّدًا، وأُجبر السياسيّون الأوروبيّون الداعمون لأعمال الشغب في إيران، والذين أطلقوا في البرلمانات الأوروبيّة حملةَ دعمٍ للحركة المعارضة في إيران حول حجاب المرأة وسترها، عبر حلاقة شعورهم، على الجلوس مقابل إيران خلف طاولة التفاوض.  

خلال الأعوام الثلاثة لحكم رئيس الجمهوريّة رئيسي، استمرّت اللقاءات والاقتراحات والحُزَم المرتبطة باستمرار المفاوضات النووية من أجل إحياء الاتفاق النووي، لكنّ إيران تعلّمت أمورًا عدّة من تجربة الاتفاق النووي السابق، أكثر من أيّ زمن مضى. الانضمام إلى البريكس وشانغهاي، وتوقيع الاتفاق مع الصين، وإقامة علاقات واسعة مع الدول الجارة، وبنحوٍ خاص إغلاق ملفّات صعبة من قبيل إقامة العلاقات مع السعوديّة، كلّ هذه الأمور جعلت علاقات إيران مع دول العالم تشهد تحرّكات وابتكارات عمليّة جديدة. كانت إيران على خطى الثورة الإسلاميّة التي أطلقتها، فلا تمرّ مسارات التنمية كلّها من واشنطن، وطبعًا، ما كان يرسّخ صورة إيران القويّة، هو دعم كلّ فرد من أفراد الشعب الإيراني في المدن والقرى القريبة والنائية على امتداد جغرافيا إيران.

وإضافة إلى التحرّكات الديناميّة والاستثنائيّة التي جعلت الطائرات الأجنبيّة تهبط في مطار الإمام الخميني (قده) الدولي، كان التطلّع إلى الثبات والأمن والاستقرار الذي أرسته جمهوريّة إيران الإسلاميّة يجعل الشعب الإيراني أكثر قدرة على تحمّل شظف العيش، ومشقّة تدبير شؤون الحياة في ظلّ ظروف الحظر. وعليه، سعى الأعداء بعد أعمال الشغب التي أطلقوها إلى استهداف هذا الإنجاز، عبر القيام بأعمال إرهابيّة على الحدود في محافظتي سيستان وبلوشستان، وفي محافظتي كرمان وفارس أيضًا، أملًا منهم بأن يشكّلوا حالات من الاعتراض داخل المجتمع الإيراني تجاه المواضيع والمقولات الأمنيّة.

وبرز الاعتقاد بالأهداف الداعمة والقيم التأسيسيّة للمجتمع التي حوّلت إيران – على الرغم من تنوّع أطيافها واختلافها - إلى مجموعة واحدة مرنة، في عمليّة «طوفان الأقصى». جعلت إحدى نقاط الاشتراك الأخرى لمجتمع إيران العظيم، أي الاعتقاد بالدعم العملي، لا اللساني واللفظي فقط، لشعب فلسطين المظلوم، جمهوريّةَ إيران الإسلاميّة في الصفوف الأولى لمواجهة المجازر والجرائم الإسرائيلية في قطاع غزّة.  في المقابل، فإنّ إسرائيل فقدت كلّ ما أوهمت به العالم من ناحية قوّتها وقدرتها وتغلغلها على المستوى العالمي، بعد دخول مستنقع غزّة، وهي تتهم الآخرين، وتحاول تعويض هزيمتها العسكرية والاقتصادية والسياسيّة النكراء عبر الهجوم على لبنان وسوريا، وفتح جبهات جديدة. كما أدّت الخطوة الحمقاء التي أقدمت عليها عبر شنّها الهجوم على سفارة إيران في دمشق، إلى ردّ جمهوريّة إيران الإسلاميّة بهجوم رسمي ضمن عمليّة واسعة ومدويّة، استخدمت فيها المسيّرات والصواريخ، وأطلقت عليها اسم عمليّة «الوعد الصادق»، وأدّت هذه العمليّة إلى الارتقاء بقدرة إيران على الرّدع درجات عديدة.

 

لقد كوّنت خريطة إيران وسوابقها الفكريّة والحضاريّة، صورة أشبه بصورة الأسد. وفي الأدب والشعر والثقافة الإيرانيّة، فإنّ الأسد لا يرضخ، ولا يستسلم، مهما تعب وأُثخن بالجراح، بل يكوّن لنفسه فرصًا جديدة. إيران متخصصة في صناعة الفرص من قلب الأزمات التي تجعل الدول ذات السوابق السياسيّة والتاريخية الطويلة تجثو على ركبتيها. وبعد أربعين يومًا من فقدان رئيس الجمهوريّة الذي لم تُكمل حكومته عهدها، أُقيمت الدورة الرابعة عشرة لانتخابات رئاسة الجمهوريّة، بعد مرور سبعين يومًا على الهجوم الرسمي لإيران ضدّ إسرائيل، وبعد مرور سنة وتسعة أشهر على أعمال الشغب في العام 2022. تتجدّد التواريخ والأيّام، وتبقى إيران راسخة وثابتة.