انطلق موسم الحج هذا العام في ظلّ ظروف خاصّة ميّزته تمامًا عن الأعوام السابقة، فمنذ قرابة التسعة أشهر، وأهل غزّة يتضمّخون بدمائهم نتيجة الجرائم الوحشيّة التي يرتبكها الكيان الصهيوني، وهنا، لا تكتفي حكومات المنطقة والعالم بعدم تقطيب حواجبها، وعدم شجب هذه الجرائم، بل تُبادر أغلبها إلى دعم مجرمي الحرب أيضًا. في ظلّ هذه الظروف، حلّ موسم الحجّ، وكان الأمل معقودًا على أن تتحوّل إقامة هذه الفريضة العظيمة إلى ميدانٍ عظيم لدعم أهالي غزّة المظلومين، وأن تُقدّم صورة مهيبة للبراءة من الصهاينة، علّ هذه الصورة تُبلسم ولو بنحوٍ يسير الجراحَ التي أنهكت أجساد النساء والأطفال في غزّة.

ضمن هذا الإطار، أكّد قائد الثورة الإسلاميّة في نداء الحج الذي أطلقه هذا العالم أنّ: «قضيّة البراءة، هذا العام، هي أبرز من أيّ زمنٍ مضى، ففجائع غزّة المنقطعة النظير في تاريخنا المعاصر، وعنجهيّة الكيان الصهيوني عديم الرحمة، وهو تجسيد القسوة والعُتوّ، والآيل إلى الزّوال بالتأكيد، لم تدعْ مجالًا للتهاون والممالأة لدى أيّ فرد أو حزب أو حكومة أو فرقة مسلمة. يجب أن تتواصل البراءة هذا العام بنحوٍ يتخطّى موسمَ الحجّ وميقاتَه، إلى الدول والمدن التي يقطنها المسلمون في أرجاء العالم كلّه، وتتعدّى الحُجّاجَ إلى كلّ فردٍ من الناس. إنّ هذه البراءة من الكيان الصهيوني وداعميه، ولا سيّما الإدارة في الولايات المتحدة الأمريكيّة، ينبغي أن تتجلّى قولًا وعملًا لدى الحكومات والشعوب، فتضيّق الخِناق على الجلّادين.»[1]

 

ذكر اسم «غزّة» ممنوع!

من الخطوات التي تستحقّ التأمّل في موسم الحج هذا العام، اتخاذ تدابير أمنيّة شديدة في الحرمين الشريفين من أجل منع إطلاق شعارات ضدّ الصهاينة ودعم أهالي مدينة غزّة. في هذا الصدد، نشرت جريدة «الأخبار» اللبنانية تقريرًا حمل عنوان «السعودية تشدّد قبضتها على الحج: ممنوع ذِكر غزة»، وخلاصة ما جاء في هذا التقرير: «قبل بدء موسم الحج هذا العام، شدّدت السعودية تدابيرها الأمنيّة خلال إقامة فريضة الحج؛ منعًا لتعبير الحجاج عن مشاعرهم في ظلّ مجازر الكيان الصهيوني بحق الفلسطينيّين والمقاومة الأسطوريّة للمجاهدين الفلسطينيّين في غزّة». وجاء في مقال هذه الجريدة أيضًا ما مضمونه: «في الواقع، بادرت السعوديّة - متذرعةً بمنع تسييس فريضة الحج، وصون ماهيّته الدينيّة وحراستها - إلى تشديد التدابير الأمنيّة في الحرمين الشريفين. بينما سيّس السعوديّون أنفسهم فريضةَ الحج ولا يزالون. فلطالما حقّق المسؤولون في الرياض مكاسب سياسيّة من الحج، وسوابق اعتقال الحجاج بذرائع سياسيّة تؤكّد هذا الأسلوب والمنهج في التعاطي»[2].

 إضافة إلى ما ذُكر، يبدو أنّ الخطوات التي أقدم عليها السعوديّون لمنع بروز مظاهر دعم حجاج بيت الله الحرام لأهالي غزّة المظلومين خلال موسم الحج، ليست بعيدة عن مساعي الرياض لتطبيع العلاقات مع الصهاينة. من البدهي أنّ السعوديّة تستعدّ في الوقت الحالي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولا ترغب - في ظلّ هذه الظروف - أن تجعل مسار تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب ينحرف، نتيجة توفير الأرضيّة لإطلاق الحجاج شعارات ضدّ الصهاينة.[3]

 

معاقبة الحجاج على تعبيرهم عن دعم غزّة

لم تكتفِ السعوديّة بالتدابير الأمنيّة ضمن إطار مساعيها لمنع دعم غزة من قبل الحجّاج خلال موسم الحج، بل لجأت أيضًا إلى تهديد الحجّاج. فقد أُعلن في وسائل الإعلام أنّ السعوديّة سوف تُبادر إلى توقيف أو طرد الحجاج الذين يرفعون أعلام فلسطين، ويُطلقون شعارات داعمة لغزّة. وادّعى وزير الحج «توفيق الربيعة» ضمن إطار تبرير هذه الخطوة المُتخذة من المسؤولين الأمنيّين في الرياض أنّ «موسم الحج ليس مكانًا لإطلاق الشعارات السياسيّة.»

وعلّق بعض الناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي على منشور «الربيعة» في منصّة «إكس»، وتصريحاته في هذا الصدد، فكتب أحدهم: «منذ متى بات اسم المسجد الأقصى يؤدي إلى تسييس الحج؟ فلتسمحوا للحجاج على الأقل أن يدعوا بشكل جماعي للمسجد الأقصى في مقابل من سفكوا فيه الدماء على مرّ أعوام طويلة». وكتب ناشط آخر: «هل تحوّلت غزّة إلى شعار سياسي؟ لا حول ولا قوة إلا بالله». وقال ناشط آخر: «السادة السلاطين... ارتكاب المجازر بحق الفلسطينيّين ليس موضوعًا سياسيًّا، بل هو موضوع إسلامي وإنساني»[4].

 

رسم الأطر للحجاج على نحوٍ رسمي وعلني

ما ينطوي على الأهميّة هنا، وما يستحقّ التأمّل، هو رسم المسؤولين السعوديّين الأطر والحدود بنحوٍ رسمي وعلني لحجاج بيت الله الحرام بغية منعهم عن إطلاق الشعارات المعادية للصهيونيّة، والداعمة لغزّة. ضمن هذا الإطار، صرّح الناطق الأمني باسم وزارة الداخليّة السعوديّة «طلال بن عبد المحسن بن شلهوب» بكلام لوّح فيه إلى تأييد سياسة الرياض بشأن الشعارات الداعمة لقضيّة فلسطين خلال إقامة فريضة الحج، وتابع قائلًا أنّ «السعوديّة ستتصدى بحزم للمساعي الرامية إلى تحويل الساحة المقدسة للحج إلى ميدان لإطلاق الشعارات المثيرة للشغب التي لا تنسجم أبدًا من حيث الماهيّة مع القداسة والروحانيّة لفريضة الحج»[5]. من ناحية أخرى، ردّ مدير الأمن العام السعودي ورئيس لجنة إرساء الأمن في الحج «محمد بن عبدالله البسامي» على سؤال مفاده «كيف ستتعامل القوى الأمنيّة السعوديّة مع الشعارات السياسيّة خلال موسم الحج؟» فأجاب قائلًا بأنّ «القوى الأمنيّة السعوديّة تتمتّع بالجهوزيّة التامّة للتصدّي للذين يحاولون الإخلال بعمليّة إقامة فريضة الحج»[6].

لقيت هذه التصريحات العلنيّة ردّ فعل صارم من عضو المكتب السياسي في حركة «أنصار الله» في اليمن «محمد البخيتي» الذي نشر منشورًا على منصّة «إكس»، جاء فيه: «ما الذي سيخسره آل سعود من السماح للحجاج بإعلان البراءة من أمريكا واسرائيل؟» ووصف أيضًا سلوك السعوديّين هذا بالمنافق[7].

کراپ 1

 

وقال هذا المسؤول اليمني الرفيع في منشور آخر: «البراءة من امريكا واسرائيل في الحج ليست رفث ولا فسوق ولا جدال ولا سياسة بل دين ندين الله به. ليس غريبًا ان تنجح امريكا في ظل حكم قرن الشيطان بان تجعل من خطبة عرفة منبرا لإعلاء كلمة أعداء الله بدلا من البرائه منهم، بدليل تأييد خطيب عرفة عام ٢٠١٥ للعدوان الامريكي على اليمن.»[8]

کراپ 2

 

كذلك، واجهت هذه المنهجيّة السياسيّة للسعوديّة تجاه موسم الحج انتقادات لاذعة أيضًا من قائد حركة «أنصار الله» في اليمن «السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي». وقال السيد الحوثي في هذا الصدد: «إنّ التوجه السياسي للنظام السعودي يهبط بكل شعائر الحج تحت سقف توجّهه السياسي الذي لا يعزز الأخوّة الإسلامية، ولا يرسّخ الموقف الإسلامي من أعداء الأمة»[9].

 

من الفائز في ميدان «معارضة البراءة من الصهيونية»؟

ترك اتخاذ التدابير الأمنيّة الشديدة خلال إقامة مناسك الحج تداعيات، نشير من بينها إلى تعبير الصهاينة عن رضاهم عن عدم تشكّل تيّار واسع ضدّ الصهيونيّة خلال موسم الحج. اتّضح هذا الأمر عندما قال المتحدث باسم جيش الكيان الصهيوني «أفيخاي أدرعي» في مقطع مصوّر خاطب به حجاج بيت الله الحرام قائلًا: «أبارك لكم يا حجاج بيت الله الحرام حلول موسم الحج، وآمل أن يتقبل الله طاعاتكم. آمل أن تعودوا إلى أكناف عائلاتكم بكمال الصحة والعافية.» وتخطّى المتحدّث باسم جيش الكيان الصهيوني كلّ الحدود، وراح يشتم حركات المقاومة في فلسطين ولبنان، ويقول أنّهم تهديد للمسلمين والحجاج[10]. أثبتت هذه التصريحات أنّ الكيان الصهيوني هو الرابح الأكبر في مشهد «منع السعوديّين انطلاق موجة البراءة من الصهيونيّة خلال موسم الحج».

وأثبتت تهنئة المتحدّث باسم جيش الكيان الصهيوني الحجاج، أنّ إسرائيل بصفتها «رمز معاداة الإسلام ومخاصمة الأمّة الإسلاميّة» مسرورة جدًّا لمنع إطلاق الشعارات المعادية للصهيونيّة خلال موسم الحج، والحؤول دون «إعلان البراءة من الصهيونيّة». وعلّق المسؤول الرفيع في المكتب السياسي لحركة «أنصار الله»  في اليمن «محمد البخيتي» على موقف «أدرعي» مؤكّدًا: «بعد استماعكم لتهنئة الجيش الإسرائيلي للحجاج على أداء مناسك الحج، هل عرفتم الآن أنّ الحج بدون البراءة من أعداء الله ليس له قيمة؟»[11]

کراپ 3

 

تُثبت مواقف سائر الشخصيّات الصهيونيّة أيضًا أنّهم يقفون بقوّة في الاتجاه المعاكس لـ«حج البراءة»، وأنّهم يطالبون بالقيام بكلّ ما يلزم للحدّ منه. ويمكن هنا الإشارة إلى المواقف الأخيرة للصحفي والمحلّل الصهيوني «إيدي كوهن» الذي لم يُطق الشعارات المعادية لأمريكا والصهاينة، التي أطلقها الحجاج الإيرانيّون خلال موسم الحج، وطالب الجهاز الأمني السعودي بمعاقبة مطلقي الشعارات[12].

إنّ المعارضة الواضحة والجليّة التي عبّر عنها الصهاينة تجاه «حجّ البراءة»، ودعمهم التدابير الأمنيّة لمنع توسّعه وانتشاره، يجعل هذا السؤال يتبادر إلى الأذهان: ما الذي يجعل الحكومات الإسلاميّة تستعيض عن دعم مصالح الإسلام والأمّة الإسلاميّة واستغلال إمكانات الحج لمساعدة شعب فلسطين وغزّة المظلوم، بالمشي ضمن مسار يحقق أقصى مستويات الرضا والعربدة لتل أبيب؟

 

التلاعب السياسي بدل التدبير

طالت تبعات المسلك السياسي لمسؤولي الرياض - تجاه إقامة مناسك الحج - حجّاجَ بيت الله الحرام. فبدل أن يركّز المسؤولون عن إدارة شؤون الحج في أرض الحجاز كلّ اهتمامهم على الإدارة الشاملة لإقامة هذه الفريضة، غرقوا في القضايا السياسيّة، بحيث أدّى عدم تدبيرهم إلى وقوع أحداث مريرة لحجّاج بيت الله الحرام. ومن بين هذه الأحداث، لا بدّ من الإشارة إلى فقدان أكثر من 1300 حاج أرواحهم، وحسب ما أعلنته وزارة الصحة السعوديّة، فقد 83% منهم أرواحهم نتيجة الحرّ الشديد[13]. وقال قائد حركة «أنصار الله» السيد عبدالملك الحوثي في هذا الصدد: «النظام السعودي يبتزّ حجاج بيت الله بالأموال الطائلة تحت عنوان تقديم الخدمات، ثم يصل به الإهمال المتعمَّد إلى التسبُّب بالضحايا بالمئات»[14].

من البدهي أنّ المسؤولين عن إدارة شؤون الحج؛ لو صبّوا اهتمامهم على متابعة قضايا الحجاج بدل التركيز على منع تجلّي «البراءة» في موسم الحج، ما كانت ستقع هذه الأحداث المريرة، ولا كانت ستتوفر الأرضيّة الممهّدة للصهاينة بأن يسمحوا لأنفسهم بإرسال رسائل التهنئة للحجاج.