على مدى أكثر من تسعة أشهر مضت من القتل الجماعي لأهالي غزة على يد الكيان الصهيوني، لم تكن أي فئة من مختلف فئات هذا القطاع المحاصر في مأمن من هجمات المحتلّين؛ ومنهم الرياضيون الفلسطينيون الذين وصل عدد شهدائهم إلى أكثر من 300 شخص. يُعدّ محمد بركات الملقب بـ«الأسد»، لاعب كرة القدم الفلسطيني الشهير، أحد الأمثلة على جرائم الصهاينة ضد الرياضيين الفلسطينيين في غزة. ويعود تاريخ استشهاد هذا اللاعب الفلسطيني إلى 11 آذار/مارس 2024؛ اليوم الذي استهدفت فيه المقاتلات الصهيونية مدينة خانيونس بأعنف الهجمات.

«بركات» شارك وصيته مع العالم، وخاصة محبّيه، من خلال نشر مقطع فيديو مؤثّر على مواقع التواصل الاجتماعي، يُسمع فيه صوت الانفجارات المتتالية لحظة القصف العنيف على «خانيونس». فقد قال: «لعلها تكون آخر كلمات، وآخر مشهد تشوفونا فيه، نحن في موقف صعب، لكن لا يحدث في ملك الله إلا ما أراد الله. أرجو المسامحة والدعوات، أمي وأبوي والله إنكم حبايبي وغالين علي، أستودعكم الله»[1].

بعد ساعات قليلة على نشر هذا الفيديو، تناقلت وسائل الإعلام خبر استشهاد «بركات» مع عددٍ من أفراد عائلته، ليتم إدراجه أيضًا ضمن لائحة الرياضيين الذين ارتقوا ضحايا الإبادة الجماعية الصهيونية.

«مصطفى صيام»، الأمين العام للاتحاد الفلسطيني للإعلام الرياضي، أشار إلى تبعات العدوان الإسرائيلي على المجتمع الرياضي في قطاع غزة، قائلًا: «آخر الشهداء كان حارس مرمى نادي شباب خان يونس لكرة القدم شادي أبو العراج. يأتي في إطار الاستهداف الإسرائيلي المباشر للحركة الرياضية الفلسطينية، سواء باغتيال أو اعتقال الرياضيين الفلسطينيين أو تقييد حركتهم، أو تدمير البنية التحتية الرياضية وغيرها من الممارسات الإسرائيلية. 90% من المرافق الرياضية في المحافظات الجنوبية الفلسطينية تعرضت للتدمير والتخريب منذ بداية الحرب الإسرائيلية على القطاع»[2].

إنّ حجم الجرائم الصهيونية كبيرٌ لدرجة دفعت الاتحاد الفلسطيني إلى إصدار بيان عبر موقعه الإلكتروني، جاء فيه: «نجم تلو نجم يرتقي إلى السماء شهيدًا، الحركة الرياضية الفلسطينية تستمر في توديع أبنائها وكوادرها، بفعل عقود طويلة من الظلم والاحتلال، الذي لم تسلم من بطشه وقتله واعتداءاته أيٌّ من مكونات وقطاعات الحياة في فلسطين»[3].

 

العالم الذي يدّعي الحضارة؛ ألا ينوي معاقبة الصهاينة حتى في الرياضة؟

دفعت عمليات القتل الجماعي للرياضيين الفلسطينيين في قطاع غزة خلال الأشهر التسعة الماضية، المنظمات المدنية ذات العلاقة بالشأن الرياضي إلى مطالبة المنظمات الرياضية الدولية رسميًّا، مثل الاتحاد الدولي لكرة القدم، بالنظر في فرض عقوبات على النظام الصهيوني[4].

من ناحية أخرى، أكد مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا، من خلال انتقادات ساخرة، على ازدواجيّة «العالم المتحضر»، متسائلين: « لماذا لم تتخذ أي هيئة دولية رياضية قرارًا بمعاقبة إسرائيل، أو إيقاف أي رياضي أو نادٍ أو منتخب إسرائيلي، بسبب الجرائم التي ترتكبها بحق الرياضيين الفلسطينيين، في الوقت الذي عوقبت فيه روسيا، ومُنعت منتخباتها من المشاركة في البطولات الدولية بسبب حرب أوكرانيا»[5]. ولذلك، يبدو أن المنظمات الرياضية الدولية - وعلى عكس ادّعائها تجنّب السياسة - لم تترك هذه الساحة فحسب، بل حوّلت الرياضة إلى أداة سياسية في طريق تأمين مصالح الكيان الصهيوني.

 

لا مكان لمجرمي الحرب في أولمبياد باريس 2024

إن حرمان الكيان الصهيوني من دورة الألعاب الأولمبية الفرنسية، التي ستبدأ نهاية شهر تموز/يوليو من هذا العام - في ظل جرائم الكيان ضد الرياضيين الفلسطينيين - أصبح مطلبًا شعبيًّا. وفي هذا الصدد، أصدرت حملة «مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان» - التي تأسست عام 2002 وتضم عددًا من الناشطين اللبنانيين في مجال حقوق الإنسان  - بيانًا أكدت فيه ضرورة منع مشاركة الكيان الصهيوني في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في باريس، معلنةً: «لا مكان لمرتكبي الإبادة الجماعيّة في أولمبياد باريس 2024! اتّساقًا مع الجهودِ المبذولة عالميًّا لعزل الكيان الصّهيوني في كلِّ المجالات سياسيًّا، واقتصاديًّا، وفنيًّا، وثقافيًّا، وأكاديميًّا، ورياضيًّا، وبسبب جرائم الإبادةِ التي يرتكبُها في قطاع غزة... شاركنا في حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان مع حركات المقاطعة العالميّة... وهدفنا عبرها إلى الضغط على اللجنة الأولمبيّة الدوليّة لحظرِ الكيان الصّهيوني من الألعاب الأولمبية». وبعد متابعات حثيثة لمنع الكيان الصهيوني من المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية في باريس، وصل ردٌّ من اللجنة الأولمبيّة إلى الحملة يفيد بعدم إقحام السياسة في الرياضة. فتساءلت الحملة في بيانها: «وهنا نسألُ بصوت عالٍ: هل أصبحتِ الدعوةُ لتطبيق القانون الدوليّ، وتطبيقِ معايير اللجنة الأولمبيّة الدوليّة نفسها كما سنرى في الحالة الروسيّة والبيلاروسيّة، إقحامًا للسّياسة في الرياضة؟»[6].

 

المعايير المزدوجة التي تكرّم جلّادي غزة

النقطة الجديرة بالتأمل في المطالب العامة بمنع رياضيي الكيان الصهيوني من المشاركة في الألعاب الأولمبية، هو أن هذ المطالب أُثيرت أيضًا في فرنسا نفسها. وفي هذا الصدد، أكّد الفرنسيون على ضرورة منع "إسرائيل" من المشاركة في الأولمبياد من خلال تنظيم تظاهرات أمام مقر الألعاب الأولمبية في باريس، وترديد الشعارات[7]. وأكّدت رئيسة «النشطاء الأوروبيون الداعمون لفلسطين»، أوليفيا زيمور، التي كانت إحدى منظمي التظاهرات المذكورة، في تصريحات لها: «من المُخزي استقبال الإسرائيليين في هذا الحدث الرياضي، بينما نشاهد كل يوم تعرّض الشعب الفلسطيني للإبادة الجماعية على يد جيش الاحتلال»، وأضافت زيمور متسائلة: «كيف يمكننا تقبل هذه المعايير المزدوجة التي تكرّم جلّادي أهالي قطاع غزة الأبرياء؟»[8].

قضية «المعايير المزدوجة» في مختلف المجالات، بما فيها الرياضة، هي قضية تطرّق إليها قائد الثورة الإسلامية مرارًا وتكرارًا، وهو القائل: «إنَّ القوى الاستعمارية الاستغلالية المستكبرة، وقفت اليوم خلف المراكز الدولية كلّها تقريبًا، وتحول دون التقصِّي العادل للأمور... يقولون "الرياضة ليست سياسية"، لكن حين يحتاجون إلى تسييس الرياضة، يسيِّسونها بأسوأ طريقة. فهم بذريعةٍ ما يحرمون بلدًا المشاركةَ في المحافل الدولية الرياضية كافة. لماذا؟ لأنَّكم قاتلتم في المكان كذا! لكن هؤلاء أنفسهم يتجاهلون خمسة آلاف طفل شهيد في غزة! هنا يجب ألا تسيّس الرياضة، لكن تُسيَّس على نحوٍ جليّ هناك، ولا إشكال! يحرمون بلدًا المنافسات الدولية بذريعة الحرب، ويتجاهلون بالكامل بلدًا وحكومةً، ولا يمنعونها من الحضور في الساحات الدولية، وليس السبب الحرب فقط، بل الجرائم الحربية، وحتى الإبادة الجماعية»[9].

يحضر التساهل مع الكيان الصهيوني من قبل المسؤولين الرياضيين الدوليين الذين يدّعون «عدم إقحام السياسة في الرياضة»، بينما منعت اللجنة الأولمبية الدولية "جنوب أفريقيا" من المشاركة في الألعاب الأولمبية بين عامي 1964 و1988 بسبب نظام «الفصل العنصري» هناك[10]. لكن، وبعد أن أصبحت الإبادة الجماعية التي ارتكبها الكيان الصهيوني في غزة لا تقارن حتى بخطر «الفصل العنصري»، فقد أُثيرت في أذهان الناس أسئلة كثيرة عن انحياز متخذي القرار وصنّاعه الدوليين نحو الصهاينة، حتى في مجال الرياضة.

 

محاولة الغرب لتحسين صورة اللاعب المناهض للسلام في المنطقة

وبينما تزايدت مطالبات الرأي العام بإلغاء مشاركة الكيان الصهيوني في أولمبياد باريس، حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في محاولة منه إلى قلب الحقائق الميدانية، أن يُظهر الكيان وجهًا محبًّا للسلام. وقال في مواجهة الطلب المذكور: «لا يمكننا القول بأن "إسرائيل" هي مَن بدأ الهجوم... "إسرائيل" كانت ضحية هجوم إرهابي... سيكون الرياضيون [الإسرائيليون] هناك (في الأولمبياد)، وآمل أيضًا أن يكونوا حاملي السلام؛ لأنه سيتعين عليهم التنافس مع العديد من رياضيي المنطقة»[11]. جاءت هذه التصريحات في حين يعتقد الرأي العام، حتى في فرنسا نفسها، أنّ "إسرائيل" لاعبٌ مناهض للسلام، وترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين[12].

على أيّ حال، مع استشهاد وجرح ما يقرب من 150 ألف شخص في غزة على مدار 9 أشهر، ومعظم الضحايا هم من النساء والأطفال، فإنّ تحديد «الساعي للسلام» و«المناهض للسلام» في ما يتعلق بالكيان الصهيوني، ليست بالمهمة الصعبة لدى الرأي العام. ولهذا السبب، فإنّ الرأي العام يعتقد أنّ كلّ وسيلة ضغط، حتى الألعاب الأوليمبية أيضًا، لا بدّ أن تستخدم للضغط على المجرمين؛ لحملهم على وقف الإبادة الجماعية غير المسبوقة ضد الفلسطينيين.