مع بداية شهر أكتوبر وهجوم الكيان الصهيوني على لبنان، بدأ هذا الكيان أيضًا عمليات في شمالي غزة، وخاصةً في مخيم جباليا. ومنذ أن عدّ الكيان الصهيوني غزةَ «الجبهة الثانية» للصراع لأول مرة منذ بداية الحرب، يتضح أن قدرة الجيش الصهيوني ليست كافية لتمكينه من السيطرة على القتال البري في غزة دون اللجوء إلى أساليب غير إنسانية وكارثية. يظهر أن نقص الموارد وإرهاق الجيش قد دفعا بعض الجنرالات المخضرمين، وعلى رأسهم جيورا أيلاند، إلى وضع خطة عسكرية مروعة، ولكن مُجدية، للهجوم على شمالي غزة.

هذه الخطة، المعروفة بخطة الجنرالات، تتضمن إصدار أوامر بإخلاءٍ كاملٍ لشمالي غزة من السكان المدنيين، وإغلاق جميع طرق دخول المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الغذاء والدواء والماء، وأخيرًا الانتظار؛ لاستنزاف أو مقتل كل عناصر المقاومة في هذه المنطقة.

لكن هذه الخطة، التي يدّعي مصمموها أنها تتوافق مع القوانين الدولية، ويوجد لها سابقة في حروب أخرى، تُواجه تعقيدات في غزة.

أولًا، بعد عدّة أيام مِن نشر أمر إخلاء هذه المناطق، أفادت المواقع الإخبارية بعدم اهتمام سكان شمالي غزة بهذا الأمر، ورفضهم المغادرة. قد يبدو للمتلقي الذي لم يتابع أخبار الحرب منذ بدايتها أن بقاء المدنيين في شمالي غزة هو خطأ من جانب هؤلاء السكان، مما يرفع المسؤولية عن الكيان الصهيوني في الحرب. لكن بالنسبة لأولئك الذين تابعوا أخبار الحرب حتى لو بنحوٍ متقطّع، فإن ردّ فعل سكان شمالي غزة يُعدّ مفهومًا تمامًا لهم. فقد أصدر الكيان الصهيوني على مدى العام الماضي أوامر بإخلاء مناطق من غزة مرات عدة، ثم قصفَ الطرقَ التي يسلكها الناس نحو المناطق الآمنة المعلنة مسبقًا. وفي النهاية، وبعد أن استقر الناجون من هذه الهجمات في المدارس وباحات المستشفيات وفي مخيمات اللاجئين، قصفَ تلك الأماكن أيضًا.

في الواقع، لم يتّخذ سكان شمالي غزة قرارًا عجيبًا أو متهوّرًا. بل اختاروا ببساطة بين الموت في منازلهم وأحيائهم أو الموت في مخيمات اللاجئين، وقد فضّلوا الخيار الأول. وبهذا الخيار، أظهروا إصرارهم على الدفاع عن كرامتهم حتى آخر نفس. طبعًا، المقاومة في غزة متجذّرة جدًّا في شمالي القطاع؛ فمناطق الشجاعية وجباليا وبيت لاهيا معروفة بتربية مجاهدي المقاومة، حتى قبل «طوفان الأقصى». بعد هذه العملية، حارب الكيان الصهيوني بكل قوّته العسكرية لمدة تقارب شهرًا كاملًا للسيطرة على بيت لاهيا، وقد تكبّد خسائر كبيرة خلال هذه المعارك. ثم جاء دور الشجاعية، حيث تكبّدت قوات لواء «غولاني» خسائر كبيرة، مما أدّى إلى تحييدهم عن أرض المعركة. كما أن المقاومة في جباليا كانت ذات تأثير كبير، إذ جعلت الكيان الصهيوني يشعر بالمرارة، مما دفعه منذ الأيام الأولى للحرب إلى تنفيذ أقسى عمليات القصف في هذا الحي، ونتجَ عن ذلك مشاهد مروعة. رغم كل ذلك، لم تتمكن القوات الصهيونية حتى الآن من القضاء على المقاومة في شمالي غزة، أو تثبيت وجودها هناك. خلال الأسبوعين الماضيين، حققت «كتائب عز الدين القسام» نجاحات من خلال تنفيذ الكمائن بشجاعة، مما ألحق خسائر فادحة بالجيش الصهيوني، في حين لا يزال الكيان مصرًّا على إخفاء أعداد خسائره العسكرية المؤكّدة في غزة. يكاد لا يمر يوم دون أن تنشر قوات المقاومة مقاطع فيديو توثّق إصابات مباشرة من صواريخ أو قذائف أو انفجارات للعبوات الناسفة بالقرب من تجمعات الجنود الصهاينة، في حين يقتصر الإعلان الصهيوني يوميًّا على ذكر حالة أو حالتين من الإصابات في غزة.

مع ذلك، يسعى الصهاينة إلى تنفيذ هذه الخطة بهدف محدد. فقد قال جيورا إيلاند، خلال اجتماع مع لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في «الكنيست»: «أُفضّل أن يصل الوضع في شمالي غزة خلال عام إلى نقطةٍ تجعلنا قادرين على تسميتها أرضًا محتلة».

تشير الأخبار الواردة من جباليا إلى أن هذه الخطة تُنفّذ منذ أكثر من أسبوعين، إذْ جرى إغلاق طرق دخول المساعدات الإنسانية والأدوية، وتوقّفت مضخّات المياه و... ويواصل الكيان الصهيوني قصف المدنيين بنحوٍ متواصل. هذا يعني أن خطة الجنرالات قيد التنفيذ، وعلى عكس التصريحات السابقة للمسؤولين الصهاينة، فإنهم يسعون الآن إلى تطهير عرقي لشمالي غزة، وتحويله إلى أرض غير قابلة للسكن، واحتلاله بنحوٍ دائم.

تحدّث الإمام الخامنئي، في خطبة صلاة الجمعة بطهران بعد استشهاد السيد حسن نصر الله، عن خطة الغرب الطويلة الأمد لتحويل الكيان الصهيوني إلى مركز للتصدير والاستيراد في المنطقة. ومن المؤكد أن هذه الخطة لم تكن لتتحقق دون سيطرة الكيان على منطقة ساحلية مهمة مثل قطاع غزة.

من هذا المنطلق، تتجلى تصريحات «أبو عبيدة»، الناطق العسكري باسم «كتائب عز الدين القسام»، في الذكرى السنوية لـ«طوفان الأقصى» إلى الفهم أكثر من ذي قبل: «خلال تلك العملية [طوفان الأقصى]، وجّهنا ضربة استباقية كبيرة للعدو، بعد أن وصلت خططه للقيام بهجوم كبير على المقاومة في غزة، بجميع فصائلها، إلى مراحلها النهائية، وبعد أن بلغت اعتداءاته الظالمة على المسجد الأقصى مرحلة خطيرة وغير مسبوقة، وبعد أن تعمّق العدو في موضوع الاستيطان والتهويد والاعتداءات الظالمة على الأسرى، وتجاهل جميع المقدسات، وفرض الحصار الكامل على قطاع غزة. بعد ذلك كله، اتّخذت المقاومة قرارًا بشنّ هجوم استراتيجي وتاريخي ضد جيش الاحتلال ومراكزه العسكرية ومستوطناته...».

مقاومة الشعب الفلسطيني في شمالي غزة اليوم، جعلتْ بعض الأصوات تتعالى في الكيان الصهيوني؛ لتشير إلى حتمية فشل خطة الجنرالات في نهاية المطاف. استمرار هذه المقاومة سيحقق النصر الحتمي لشعب فلسطين في سياق هذه الحرب  ،وبمشيئة الله ستتحول جباليا إلى مستنقع ضحل لأولئك الجنرالات.

 


[1]
https://hamefakdim-bemiluim.org/%D7%AA%D7%95%D7%9B%D7%A0%D7%99%D7%AA-%D7%94%D7%90%D7%9C%D7%95%D7%A4%D7%99%D7%9D/