خاطبَ الإمام الخامنئي في جزءٍ من رسالة تعزيته عقب استشهاد المجاهد البطل، القائد الشهيد يحيى السّنوار، الشعوبَ المسلمة والشباب الغيارى في المنطقة، وأكّد سماحته قائلًا:

«إنّ شخصًا مثله، قضى عمره في مواجهة العدوّ الغاصب والظالم، لا تليق به خاتمةٌ سوى الشهادة. لا ريب في أنّ فقده مؤلمٌ لجبهة المقاومة، لكن هذه الجبهة لم تتخلّف عن المضيّ قُدُمًا مع استشهاد شخصيّات بارزة مثل الشيخ أحمد ياسين، فتحي الشقاقي، الرنتيسي وإسماعيل هنيّة، ولن تشهد أدنى توقّفٍ مع استشهاد السنوار، بإذن الله. «حماس» حيّة، وستبقى حيّة».

كان تأكيد الإمام الخامنئي على أنّ حماس حيّة، ردًّا مباشرًا على بعض الادعاءات والأفكار المتعلّقة بإضعاف «حماس»، أو إزالتها أيضًا، بعد استشهاد 3 من كبار قادتها خلال العام المنصرم (الشهداء: العاروري، هنيّة والسنوار).

بعد استشهاد المجاهد والقائد الاستثنائي للمقاومة في غزّة، يحيى فلسطين، راحت الأقلام تروّج للإيهام بتوجيه ضربة كبيرة لهيكليّة «حماس»، لكن مراجعةً بسيطة للأحداث في فلسطين والظروف الحاليّة؛ تُثبت بسهولة أنّ ادعاءاتهم لا يُمكن تأكيدها بسهولة، بل إنّ العكس هو ما يجري.

 

  • الإنسان التوحيديُّ مُلهم

من الجوانب التي يتركها الأشخاص العظماء بعد رحيلهم الملحمي واستشهادهم، هو إلهامهم للآخرين، وهذا الجانب يعجز عن إدراكه الفكر أو العالم الحديث غير الإلهي.

في العالم الحديث، تُعدّ بعض الشخصيّات نماذج ورموزًا، ويُعدّ موت أو انهزام تلك الشخصيّات انتهاءً لهذه النماذج. لكن ضمن إطار الرؤية التوحيديّة والمقاومة الإسلاميّة، فإن هؤلاء الشخصيّات يرون أنفسهم تلاميذ في مدارسهم الفكريّة، ولا يخشون الموت ولا يعتبرونه فشلًا.

يقول الشهيد العظيم والمخلص، يحيى السنوار، حول هذه الرؤية أنّ القضيّة فكرٌ، وليست شخصًا.

إنّ عدم فهم قدرة المدارس على الإلهام، أمرٌ جليٌّ وواضح في لهجة وسائل إعلام الكيان الصهيوني، وفي قراراتها أيضًا، إذ إنّ نشر مشاهد القائد يحيى السنوار على الكنبة، وهو يرتدي الكوفيّة، ويحمل بيده سلاحه، ثم يرمي العصا نحو المسيّرة، على الرغم من أن إحدى يديه مقطوعة، كلّ هذا مصداقٌ لعدم وجود فهم لقدرة ذلك على الإلهام، وإلا؛ لم يكونوا لينشروا مثل هذا التوثيق للحظة استشهاد القائد السنوار.

لكن بعد نشر المشاهد، أدركوا في وقت متأخّرٍ جدًّا أنّ يحيى السنوار أصبح نموذجًا. وقد أثبتت تقارير وسائل الإعلام العبريّة وجود استياء كبير في وسائل الإعلام داخل الأراضي المحتلّة تجاه نشر مشاهد عن اغتيال السنوار وهو يرتدي «الزيّ العسكري»، ومن إعلان استهداف قائد «حماس» خلال مواجهةٍ على أرض الميدان.

ووفق تقرير إحدى وسائل الإعلام العبريّة، صُدم الجميع في الكيان الصهيوني من وجود رئيس حركة «حماس» في مثل هذه المنطقة التي شهدت مواجهة واشتباكًا مع جنود جيش الكيان الصهيوني، وأذهلهم انتقال السنوار من مكانٍ آمن (مركز قطاع غزّة) إلى منطقة المواجهة في رفح، وانصدمت المستويات السياسيّة والأمنيّة أمام جرأة هذا الرّجل!

لكن نتنياهو يعتقد أنّ حقبةً جديدة قد بدأت، وهو قال بوضوح خلال مؤتمر صحفيّ عَقَدَهُ للإعلان عن استشهاد القائد يحيى السنوار: "لن تحكم «حماس» غزّة بعد الآن، وهذه بداية اليوم التالي (الحقبة الجديدة)!".

هذه النظرة وهذا التصور ناتجان عن عدم فهم مبدأ الشهادة، وقدرة كبار الشخصيّات في هذه المدرسة على الإلهام، على مرّ التاريخ، والمثال الواضح على ذلك هو ما حدث في كربلاء، المكان الذي انتصر فيه الدّم على السيف، رغم أنّ حفيد الرّسول الأكرم (ص) فَقَدَ روحه في الظاهر، وَجَرَتْ إزاحته. بعد عدّة قرون، يكتب يحيى السنوار، مع الاستلهام من تلك المدرسة، في رسائله السريّة إلى سائر رفاقه في الجهاد: "يجب أن نحثّ الخطى في المسار الذي بدأناه... أو فلتكن كربلاء جديدة".

  • إذا غاب منّا سيّد، قامَ سيّدٌ آخر

العنصر الثاني الذي يُثبت لنا أنّ استشهاد قادة المقاومة لن یؤدي إلى انتهاء «حزب الله» و«حماس»، وأنّ «حزب الله» و«حماس» حيّان، وسيبقيان كذلك، هو استعراض التاريخ.

فقد قرأ الشهيد إسماعيل هنيّة، في لقائه الأخير مع الإمام الخامنئي، بيتَ شعرٍ يعرض هذه الرؤية بشكل مميّز، رغم أنّ بيت الشعر هذا قريب من مضمون بيت الشعر في العصر الجاهلي ومرحلة ما قبل الإسلام:

«نحن قومٌ إذا غابَ منّا سيّد، قام سيّدٌ آخر»

يشير هذا المفهوم إلى تجربة تاريخيّة للمقاومة، تجربة تحوّلت إلى إيمان حقيقي لقادة المقاومة، ومدرسة جبهة الحق، والمقاومة الإسلامية. وقد أكّد المتحدّث باسم كتائب الشهيد عزّ الدين القسام، أبو عبيدة، في الذكرى السنويّة لعمليّة «طوفان الأقصى»، أنّ الاغتيالات الواهمة والخادعة وقصيرة الأمد، ليست نهاية نهضات حركات تحرير فلسطين، ولو أنّ هذه الاغتيالات حقّقت نصرًّا في يوم من الأيام، فإنّها كانت ستنتهي منذ اغتيال عزّ الدين القسّام قبل 90 عامًا.

یثبت استعراض التاریخ أنّ كلام «أبو عبيدة» تكرّر مرارًا بتعابير أخرى على ألسنة قادة المقاومة، وأنّه ليس شعارًا، بل حقيقة تأبى الإنكار. وقد ذَكَرَ الإمام الخامنئي، في رسالة تعزيته بالشهيد القائد يحيى السنوار، أسماءَ قادة حركة «حماس»، ومنهم الشهداء: الشيخ أحمد ياسين، فتحي الشقاقي، الرنتيسي وإسماعيل هنيّة، وأكّد على أنّه مع استشهاد هؤلاء القادة لم يحدث أيّ توقّف، بل إنّ قضيّة فلسطين والمقاومة تشهد تقدّمًا مستمرًّا.

على سبيل المثال، يمكننا استعراض الأعوام القاسية، بين العام 2000 إلى 2005، والتي شهدت اغتيال مختلف القادة الفلسطينيّين.

في العام 2000، بدأت تحوّلات جديدة مع دخول شارون إلى المسجد الأقصى، استمرّت هذه التحولات خمسة أعوام، وأُطلق عليها اسم الانتفاضة الثانية. في تلك الأعوام، استُشهد خلال المواجهات في الشوارع 3300 فلسطيني، وقُتل 1100 إسرائيلي! كانت تلك الأعوام الخمسة من أكثر الفترات ضغطًا وتوتّرًا في فلسطين، وخاصّة في قطاع غزّة، حيث قدّمت المقاومة وسائر الفلسطينيّين العديدَ من الشهداء. لكن العام 2004 كان الذروة لهذه القضيّة، إذ تمّ اغتيال العديد من قادة حركة «حماس»، والمقاومة، وشخصياتها، وكان أحد أكثر الأعوام دمويّة لآلة الاغتيال الصهيونيّة. في 22 آذار/ مارس 2004، جرى اغتيال المؤسس لحركة «حماس» الشيخ أحمد ياسين بواسطة مروحيّة الأباتشي، بعد خروج فضيلته من المسجد وأداء صلاة الفجر. لقد كان القائد الذي قاد مجموعة «حماس» على مرّ أكثر من 40 عامًا (حتى قبل الإعلان عن تأسيس الحركة)، وعُدّ اغتياله حينذاك أكبر إجراء في ذلك الوقت ضمن إطار القضاء على حماس. كان استشهاد شيخ فلسطين قاسيًا جدًّا على المقاومة، وأقيم له أكبر تشييع في تاريخ قطاع غزّة.

وكان الإمام الخامنئي قد كتب في رسالة التعزية بهذا الحادث: «إنّ ما سلبوه بهذه الجريمة من الشيخ أحمد ياسين والشعب الفلسطيني، كان جسدًا نحيلًا وعليلًا. لن يستطيعوا سلب الشعب الفلسطيني فكره ونهجه الذي رسمه، ومساره الذي شرّعه. روح الشيخ حيّة، ودرسه بات أكثر تخليدًا وبروزًا مع سفك دمه الآن بهذه المظلوميّة، وسيردّده الشباب والناشئة والأجيال المقبلة لفلسطين».

بعد اغتيال الشيخ ياسين، تمّ اختيار عبدالعزيز الرنتيسي من قبل الشورى المركزية لحركة «حماس»، وهو الذي كان من رفاق الشيخ ياسين منذ الأيام الأولى لحركة «حماس»، وعلّق على انتخابه بأنّنا لا نتنافس من أجل القيادة، بل نتنافس على الشهادة.

 لكن فترة قيادة الرنتيسي لم تستمرّ شهرًا واحدًا أيضًا، واستهدفته طائرة الأباتشي بعد 3 أسابيع على اغتيال الشيخ أحمد ياسين، فاغتالته مع ابنه، وشهدت غزّة مجدّدًا تشييعًا مهيبًا.

شهد العام 2004 اغتيال قائدين تاريخيّين، مؤثّرين ومهمّين في حركة «حماس». وفي تلك المرحلة، وجّه الصهاينة، من خلال تعاونهم الأمني مع بعض التيارات في فلسطين، ضربات أمنيّة متعدّدة لحماس التي كانت مشتبكة مع منافسٍ آخر داخل المجتمع الفلسطيني.

لكن في العام 2005، تحرّر الجزء الأول من أرض فلسطين من السيطرة الأمنيّة والسياسيّة للصهاينة، أي قطاع غزّة، وجعل انسحابُ الصهاينة منه المجتمعَ الفلسطيني يزداد إصرارًا على إمكانيّة تحقّق حلم الحريّة من النهر إلى البحر.

مع تحرير قطاع غزّة، بدأت مرحلة جديدة لمقاومة فلسطين. مرحلة استمرّت من بداية الحصار وخوض 3 حروب كبيرة. شنّ الصهاينة هجومهم الأوّل على القطاع في الأيام الأخيرة للعام 2008 بذريعة تحرير «شاليط»، الجنديّ الأسير في قطاع غزّة، وانتهت تلك الحرب بانسحاب الصهاينة، رغم أنّ حركة المقاومة «حماس» كانت قد خرجت للتوّ من صراعات داخليّة مع السلطة الفلسطينيّة، ولم تكن تتمتّع بقوّة عسكريّة كبيرة. وفي نهاية المطاف، تمّ في العام 2011 إجراء عمليّة تبادل «شاليط» مع 1027 فلسطينيًّا، ومنهم الشهيد يحيى السنوار. جرّب الصهاينة الهجوم على قطاع غزّة مرّتين أخريين، خاصّة في العام 2014، لكنّهم تلقّوا الهزيمة مجدّدًا.

تقدّمت المقاومة، وتلاميذ الشيخ ياسين، في قطاع غزّة، عامًا بعد عام، وخطوةً بخطوة، إلى الأمام، إلى أن أقدموا على خطوة مباغتة، كبيرة، شهمة، شجاعة وحكيمة في 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023. الخطوة التي أطلق عليها بحق اسم الطوفان، الطوفان الذي أحبط إلى الأبد كلّ المشاريع الكبرى للصهاينة في المنطقة، والتي سعت لإيداع فلسطين وهدف تحرير القدس غياهب النسيان.

وفي اللقاء الأوّل للإمام الخامنئي بعد استشهاد الشهيد السنوار، قال سماحته: «نحن اليوم في خضمّ قضيّة مهمّة وأساسيّة على مستوى المنطقة. أيْ، هذه القضايا المرتبطة بغربي آسيا؛ قضايا لبنان، وغزّة، والضفّة الغربيّة، هذه كلّها قضايا تخطّ مسار التاريخ. كلّ واحد من هذه الأحداث من شأنه أن يشكّل منطلقًا لتيّار أو حركة تاريخيّة نحو اتجاه معيّن. لولا بروز أمثال الشهيد السنوار الذي قاتل حتى الرّمق الأخير، لكان مصير المنطقة على نحوٍ ما، لكن مع بروزهم الآن صار على نحوٍ مختلف. ولولا بروز شخصيّات عظيمة مثل الشهيد السيّد حسن نصر الله، الذي جمع الجهاد مع العقل والشجاعة والتضحية والفداء، وجسّدها في الميدان، لكانت الحركة على نحو ما، لكنّها مع بروزهم صارت في اتجاه آخر. هذه أمورٌ مهمّة للغاية.» التاريخ يعيد تكرار نفسه، وقادة «حماس» و«حزب الله» يتعرّضون للاغتيال خلال فترة قصيرة، أو يعيشون ظروفًا صعبة في مجال إدارة الأمور. لكن، خلافًا لتصوّرات الأعداء والاتجاه الخاطئ للتاريخ، فإنّ تبدّل هذه الشخصيّات لم يُحدث أي خلل، بل هو ملهمٌ للمقاومة، ولاستمرار مسارها أيضًا، وإنّ الآلاف من الشباب مستعدّون للسير على خُطى مَن قضوا، وفازوا بالشهادة، وإنّ آثار هذه الدماء هي التي ستُبدّل مصير المنطقة بعد هذه الشهادات، ففي رحيل هذه الشخصيّات عزّةُ فلسطين ورفعتها وشموخها وتقدّمها إلى الأمام.