لقد أسهمت الولايات المتحدة الأمريكية على مدى عقود عدة في التدخل في شؤون دول كثيرة، وبخاصة تلك التي تدعم محور المقاومة في المنطقة، مما أدى إلى خلق حالة من الفوضى هناك. أساسًا، ما الأهداف التي سعى الأمريكيون لتحقيقها من خلال هذه التدخلات؟
يجب أن أشير بإيجاز إلى مرحلة تاريخية، وهي أنه في عام 1916 تمّ التوصل إلى اتفاق في المنطقة لتقسيم وتفكيك غربي آسيا من قبل الرابحين في الحرب العالمية الأولى، بهدف تفكيك الدولة العثمانية. وما نراه اليوم على خريطة غربي آسيا هو نتيجة لذلك الاتفاق الذي يُعرف باسم «سايكس-بيكو». استطاع اتفاق «سايكس-بيكو» أن يؤمّن مصالح نظام الهيمنة لما يقارب المئة عام، ولكن بعد انتصار الثورة الإسلامية، شهدت تلك المصالح تحولات ملحوظة، وبعد صعود قوة الجمهورية الإسلامية، وتعاظم اقتدارها، نشأت في أذهان قادة نظام الهيمنة فكرة أنه: يجب علينا وضع خريطة جديدة للشرق الأوسط، لأنه مع وجود الثورة الإسلامية، والإلهام الذي تبثّه، لم يعد بالإمكان تحقيق مصالحنا في المنطقة كما كان الحال في السابق.
لذلك، توصل الأمريكيون إلى نتيجة مفادها أنه يجب أن يحدث تغيير جغرافي في هذه المنطقة. وفي عام 2000، تم الإعلان رسميًا عن هذه الخريطة تحت اسم «خريطة الشرق الأوسط الجديد». وفي عام 2006، جرت محاولة تنفيذ هذه الخريطة ابتداءً من لبنان. طبعًا، استخدم الأمريكيون والكيان الصهيوني والدول المتحالفة معهما، والتي كانت معظمها أو غالبيتها دولًا غربية، الفرصةَ التي نشأت في أذهان بعض قادة هذه المنطقة، ورمت جهودهم إلى تنفيذ هذه الخريطة بشكل غير مباشر وتحت الطاولة، والتي تهدف إلى تقسيم المنطقة. فشلَ دعم الإرهاب من قبل نظام الهيمنة والكيان الصهيوني في هذه المنطقة، ومع كل هزيمة تواجهها الولايات المتحدة، زادت قوة المقاومة. سعت الجمهورية الإسلامية في هذا السياق إلى توعية النخب والأشخاص المؤثرين والمثقفين في المنطقة، وتحذيرهم من الخطر الكبير الذي يهدد المنطقة، والذي يتمثل في أمريكا كمركز لهذا الخطر.
طبعًا، سعى الأمريكيون دائمًا إلى تأمين أمن الكيان الصهيوني في جميع برامجهم ومخططاتهم لهذه المنطقة أكثر من أي وقت مضى. لذلك، تكمن أسباب شتى أنواع الفوضى التي نشهدها في المنطقة طوال العقدين ونصف الماضيين في أنّ الأمريكيين لا يرغبون في تقوية الحكومات الوطنية في المنطقة، أو في أن تكون المقاومة متناغمة. تركّزت كل المساعي الأمريكية على أن تُحوِّل الفوضى إلى وسيلة لامتصاص طاقات دول المنطقة، وتحويلها نحو أراضيها، واستنزافها في المجالات العسكرية والاقتصادية والأمنية، لكي يتمكنوا من توفير الظروف اللازمة لإنشاء «الشرق الأوسط الجديد»، الذي نسميه نحن «الشرق الأوسط الأمريكي».
تَركّزت مساعي الولايات المتحدة دائمًا على تحقيق مصالح الكيان الصهيوني، حيث كانت هذه القضية على رأس أولويات السياسة الخارجية لحكومات أمريكية عدة، سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية، كما جرى وضع استراتيجية «الفوضى الخلّاقة» وتنفيذها منذ عهد جورج بوش؛ بهدف تعزيز مكانة الكيان الصهيوني في المنطقة. ما هو رأيكم في هذا الصدد؟
ركّزت محورية الفوضى، التي عُرفت باسم «الفوضى الخلّاقة»، على توفير أمن الكيان الصهيوني في المنطقة. جاء ذلك بسبب أن قدرة القوات العسكرية لدول المنطقة، وبخاصة وعي القادة العسكريين والقوات المسلحة وبعض المسؤولين السياسيين - رغم الروابط القائمة - قد أوجدت ظروفًا كان من الممكن أن تشكل تهديدات لأمن الكيان الصهيوني. أي إن قادة بعض الدول كانوا تابعين، ولكن نشأ داخل هذه الدول، سواء في صفوف القوات العسكرية أو بين النخب أو وسائل الإعلام أو الجامعيين، وعيٌ متزايد وتساؤلٌ: ما الذي يجعل الكيان الصهيوني يحتل جزءًا من الأراضي الإسلامية من دون أن يكون هناك أي مواجهة حقيقية معه؟ وحتى إن هذا السؤال بدأ يُطرح في بعض الأوساط داخل بعض الدول، حيث بدا أن أحد الأسباب وراء قوة الكيان الصهيوني وأمنه في المنطقة هو خيانة حكوماتنا، مثل الأردن وبعض الدول الأفريقية مثل السودان.
انتبهت بعض الدول العربية – كلّ دولة حسب درجتها - إلى أن الولايات المتحدة تسعى بتدخّلها في الشؤون السياسية إلى اتخاذ خطوات لتبرير اغتصاب الكيان الصهيوني للأراضي الفلسطينية. وحتى في مشروع «أبراهام» أو خطة السلام الأمريكية للشرق الأوسط، كان الأمريكيون يهدفون إلى تحويل احتلال الأراضي الإسلامية والسيطرة عليها، وإذلال الشعوب المسلمة والأمة الإسلامية، إلى حقٍّ قانوني ومشروع للكيان الصهيوني. لهذا السبب، نشأت معارضات حول هذا الموضوع. في الواقع، تبنّى كلٌّ من الجمهوريين والديمقراطيين استراتيجية «الفوضى الخلّاقة» كأداة لتعزيز مكانة الكيان الصهيوني، وتعزيز أمنه، وزيادة قدرته الاقتصادية والسياسية، وكذلك تعزيز قوته العسكرية في المنطقة. لذا، يمكن تحليل الكثير من تحركاتهم وممارساتهم في هذا السياق. بناءً على ذلك، أظهرت المعارضات التي حدثت في هذا السياق أن الأمريكيين لم يعودوا قادرين على اتباع سياساتهم الاستعمارية السابقة، ولا على السماح للكيان الصهيوني بالهيمنة على المنطقة كما كان الحال في الماضي.
من جملة المصاديق البارزة على إثارة الفوضى في المنطقة من قبل الولايات المتّحدة الأمريكيّة، يُمكن الإشارة إلى الاضطرابات السياسيّة التي حدثت سابقًا في لبنان والعراق. هل تتوقّعون أن تنفّذ واشنطن خلال الفترة القادمة مخططات ومؤامرات شبيهة؛ بهدف إضعاف المقاومة على المدى الطويل في هذه البلدان؟ إلى أيّ مدى سيكون متاحًا تحقيق هذا الهدف؟
يسعى الأمريكيّون لإثارة الفوضى في العديد من بلدان المنطقة، وهم لديهم أولويّاتهم طبعًا، فالبلدان التي تكون أقرب إلى المقاومة، تكون حتمًا ذات أولويّة أكبر بالنسبة للأمريكيّين في ما يرتبط بإثارة الفوضى. هم أقدموا على هذا الأمر في لبنان والعراق في وقت سابق. على سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى دعم الأمريكيّين وتخطيطهم خلال قضيّة فتنة العام 2009 في إيران، حيث لم يستطيعوا تحقيق أهدافهم وغاياتهم بفضل وعي النّاس والمسؤولين.
وفي العراق، لا شكّ في أنّ هذه القضيّة من أولويّات الأمريكيّين، والسّبب الرئيسي لذلك هو الهزائم المستمرّة التي تكبّدها الأمريكيّون في مجال فشل إرهابهم، وعدم نجاحهم في إيصال مؤيّديهم إلى سدّة الحكم. والأمريكيّون قد يلجؤون - ضمن إطار تطبيق هذا الهدف على أرض الواقع، وأعني إثارة الفوضى في العراق - إلى بعض التيارات المنسوبة إلى البعثيّين، وأن يستغلّوا الخلافات السائدة بين بعض التيارات السياسيّة أيضًا.
في ما يرتبط بلبنان، ماذا كان هدف الأمريكيّين؟ الهدف الأساسي لأمريكا، والذي سعوا لتحقيقه عبر الجرائم التي ارتكبها الكيان الصّهيوني بحقّ اللبنانيّين، كان استغلال استشهاد السيد حسن نصر الله من أجل إثارة الفتنة في لبنان. كان الأمريكيّون يشعرون أنّ ضعف المقاومة سيستمرّ بعد استشهاد السيّد حسن نصر الله، إن كان في المجالين الدفاعي والعسكري، أو في المجالين السياسي والإعلامي. ظنّ الأمريكيّون أنّ الظروف أصبحت مؤاتية لانتخاب رئيس الجمهوريّة الذي يتوافق مع مصالحهم، وأنّهم قادرون الآن على فرض خيارهم على الشعب اللبناني. رغم ذلك، لم يستغرق الأمر أسبوعين، حتى استطاع حزب الله - بفضل الصّلة العميقة التي تربطه بالمجتمع اللبناني - أن يستعيد قدرته، وينظّم صفوفه، ويمنع اشتعال فتنة داخليّة بقيادة أمريكا.
في لبنان، يعتقد الأمريكيّون أن حزب الله بات أضعف، وينبغي استغلال هذه الفرصة من أجل عزل حزب الله. قبل مدّة طلب وزير الخارجيّة الأمريكي من إسرائيل أن توظّف مكتسباتها العسكريّة في سبيل تحقيق الأهداف السياسيّة. في ظلّ مثل هذه الظروف، وبعد وقف إطلاق النار في لبنان، هل من الممكن أن يكون لواشنطن مشروعٌ أو مشاريع خاصّة ترمي إلى زعزعة الأمن وإثارة الفوضى في لبنان؟
أشرتُ في الجواب السابق إلى أنّ الأمريكيّين سعوا وراء إثارة الفوضى في لبنان. لا شكّ في أنّهم لن يتخلّوا عن سياستهم هذه في لبنان، وهم يحاولون إثارة الفوضى بشكل مدروس في ذاك البلد. خلال هذه الأسابيع الأخيرة، كما أشرتم، طلب الأمريكيّون تحويل المكتسبات العسكريّة لإسرائيل إلى مكتسبات سياسيّة. ما المقصود بالمكتسبات السياسيّة؟ تقسيم لبنان من أجل إقامة الشرق الأوسط الجديد. الأمريكيّون يعلمون جيّدًا أنّ أمن الكيان الصهيوني يُضمن في ظلّ ظروف من هذا القبيل. عندما يتمّ تقسيم لبنان، وتنشغل سوريا مرّة أخرى بالصراعات الداخليّة، تتحقّق هنا أهداف واشنطن الرامية إلى توفير الأمن المُطلق لإسرائيل.
وإنّ المسعى الآخر للأمريكيّين ضمن إطار إثارة الفوضى في لبنان، وزعزعة الأمن في هذا البلد عقب مرحلة اتفاق وقف إطلاق النار، سيتمحور حول انتخاب رئيس جمهوريّة غير وطني، وبعيد عن المقاومة. يعتقد الأمريكيّون أنّ قدرات المقاومة في لبنان ستتراجع بهذا النحو. في الواقع، إنّ تراجع قدرات المقاومة في لبنان سيُسبّب الأضرار لسوريا، وفلسطين، وبشكل عام للمقاومة كلّها في أرجاء المنطقة.
على الرّغم من كلّ ذلك، من المستبعد جدًّا أن تتمكّن الولايات المتحدة الأمريكيّة من تحقيق النجاح ضمن إطار تحقيق الأهداف المذكورة في لبنان، فحزب الله نجح خلال الفترة الأخيرة بنحوٍ جيّد في استعادة قدرته على المستوى السياسي. وفي قضيّة وقف إطلاق النّار أيضًا، لاحظنا بشكل واضح أنّ المقاومة الإسلاميّة في لبنان قد استطاعت فرض إرادتها على الصهاينة، وأنّ اليد العُليا الآن هي لحزب الله. هذا يعني بنحوٍ حتمي أنّ أمريكا والكيان الصهيوني ومَن يتحالف معهما لم يعودوا قادرين على استغلال الأجواء المحليّة في لبنان، وأن قدرتهم على التدخّل في الشؤون السياسيّة لهذا البلد قد تراجعت. من ناحية أخرى، ومع الالتفات إلى ظروف المهجّرين وأوضاعهم، ونظرًا إلى المشاكل التي تعاني منها الحكومة اللبنانيّة في الوقت الراهن بعد الحرب، ومع وجود احتمال الدخول في مرحلة سياسيّة عنوانها انتخاب رئيس للجمهوريّة، لا يمكن استبعاد وقوع فوضى في لبنان، تقف وراءها وتخطّط لها أمريكا ومعها الكيان الصهيوني. إنّ انتصار حزب الله في هذه الحرب غير المتكافئة سيمنع حتمًا وقوع هذه الفوضى، ونحن الآن نعيش أيام وقف إطلاق النار في لبنان، وحزب الله استطاع فرض إرادته على الكيان الصهيوني، والحدث المهمّ الآخر هو العودة المتصاعدة للمهجرين إلى مناطق سكنهم، والتي تحدث رغم الظروف التي يعيشها لبنان. كلّ هذه الأمور تسهم في قدرة لبنان على الوقوف والصمود بوجه الممارسات الأمريكيّة الرامية إلى إثارة الفوضى في هذا البلد. حزب الله أثبت في المجالين الأمني والعسكري، من خلال فرض وقف إطلاق النار على الصهاينة، أنّه يملك اليد العُليا، ويمكن لهذا التفوّق أن يسري إلى المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة أيضًا.