دائمًا ما كانت إثارة وسائل الإعلام الأمريكيّة البروباغندا الإعلاميّة الكاذبة ضدّ من يعارضونهم في العالم، سياسة أساسيّة تنتهجها وسائل الإعلام هذه. ما هي السوابق التاريخيّة لهذا الأسلوب من الخطوات الإعلاميّة الأمريكيّة، وما هي المصاديق التي يمكن الإشارة إليها في هذا الصّدد؟

يمكننا تقسيم الحياة الإعلاميّة للولايات المتحدة الأمريكيّة إلى عدد من المُدد، وكلّ مدة كانت تتمتّع ببعض الخصائص، وكانت فيها وسيلة إعلاميّة محوريّة وسائدة. أساسًا، في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر للميلاد، كان التركيز الأساسي على الصحف، ويمكن القول إنّ النوع السائد في الصحافة الأمريكيّة تأثر بشدّة وانفعاليًا بأجواء صحافة «التابلويد»[1]، المدّة التي كانت قد نشأت فيها «الصحافة الصفراء»[2] وسط غولين إعلاميّين في مدينة نيويورك، أي ويليام راندولف هرست (صاحب صحيفة نيويورك جورنال) وجوزيف بوليترز (صاحب صحيفة نيويورك وورلد)، وكانت هذه القضيّة تؤدي إلى أن تبرز الأمور الهامشيّة وحتى الوقائع المصطنعة والمزيفة على النحو الذي يشغل الرأي العام. أُسس هذا النمط من الصحافة على أساس المشاعر والاندفاعات والمبالغة وصناعة المشاهد المزيّفة والمصطنعة والعناوين المثيرة للجدل، ورمى إلى تجييش مشاعر الناس أكثر من الإيصال الدقيق للخبر. في الواقع، بدل أن يواجه الرأي العام الوقائع والحقائق، كان يواجه سرديات مصطنعة وموجّهة بصورة كاملة. من الملفت جدًّا أنّكم حين تمعنون النظر في تاريخ تأثير الأخبار المزيفة، تلاحظون في هذه المدة الأولى، أي عصر الصحف، وقوع أحداث عجيبة وغريبة في وسائل الإعلام الأمريكيّة. بادر «هرست» و«بوليتزر»، إلى خلق قصص ومشاهد كان بعضها كاذبًا، وألهب نيران الحرب ضدّ إسبانيا، من خلال التذرّع بكوبا. كان هذا واحدًا من الأحداث العجيبة التي حدثت. الموضوع الآخر كان قضيّة التفجير في إحدى البوارج الأمريكيّة وكذلك التفتيش الجسدي لأحد الأمريكيّين في هافانا، وكلا الحدثين كانا من اختراع الصحافة الصفراء وتسويقها، وقد جعلا الرأي العام يتوتّر بشدّة وألهبا نيران الحرب. لذلك، خلافًا لما نظنّه من أنّ القرنين العشرين والحادي والعشرين هما زمن انتشار الأخبار المزيفة، فإنّ هؤلاء كانوا يلجؤون إلى هذه الأساليب منذ عهد الصحف والصحافة في القرن التاسع عشر ويوظّفونها في سياستهم الخارجيّة، أعني أساليب إثارة الرأي العام وإطلاق أمواج المشاعر، مشاعر الكره والغضب العام. هذه الأمور كانت حاضرة على لائحة أعمال الإعلاميّين وأصحاب الوسائل الإعلاميّة الأمريكيّة.

عندما نتقدّم أكثر، يكون علينا أن نبحث عن العصر التالي في الإذاعة. وُظّفت الإذاعة بوصفها أداة للتغلغل الناعم وشنّ الحروب النفسيّة العابرة للحدود، وفي هذه المدّة، دخلت الولايات المتحدة الميدان عبر إطلاق إذاعات من قبيل «صوت أمريكا» (VOA)، وخاضت عمليًّا ساحة «وسائل الإعلام الحكوميّة بهدف التأثير العابر للحدود». إذاعة «صوت أمريكا» بمختلف أقسامها ولغاتها - ونحن نلاحظ اليوم أنّ الأقسام الخبريّة في «صوت أمريكا» تجعلها من وسائل الإعلام العالميّة الأولى من حيث تعدّد اللغات وتنوّعها – لعبت دورًا بصفتها مؤسسة مسيطرة في مجال بثّ الأخبار والتصريحات. بعد ذلك، نجد وسائل الإعلام الصينيّة، وفي المناسبة، بلدنا موجود في عداد الدول الخمس الأوائل على المستوى العالمي من حيث تنوّع اللغات في مجال وسائل الإعلام الدوليّة. كان لإذاعة «صوت أمريكا» أثرها الخاص أيضًا، وأنتم تلاحظون أنّهم أولوا اهتمامًا كبيرًا بإطلاق إذاعة «أوروبا الحرّة» وإذاعة «ليبرتي» من أجل مواجهة الأيديولوجيّة الشيوعيّة، وهؤلاء كانوا ينتجون حجمًا مهولًا من الأخبار من أجل التأثير في لحمة الناس في المناطق الجغرافية التي تعارض سياسات حكوماتهم.

عندما نتقدّم أكثر، ندخل تقريبًا عصر الصورة، وعندما نتحدّث في عصر الصورة ضمن الأجواء السياسيّة، نجد أنّ زعماء القنوات الفضائيّة دخلوا الميدان، ومنهم «السي إن إن» و«فوكس نيوز»، وقد ركّزوا على ضخّ الأخبار الخاصّة بالمستهلكين الدوليّين، وكان حجم الأخبار التي ينتجونها والأحداث التي يغطونها عجيبًا وملفتًا للنظر. بدأت هذه القنوات، منذ ثمانينات القرن الماضي وما بعد، عولمة الأخبار انطلاقًا من نزعات أمريكيّة خاصّة. يمكن اعتبار تغطية حرب الخليج الفارسي من قبل الـCNN نقطة عطف في هذه المدّة، اللحظة التي تحوّل فيها المشهد المباشر للحرب إلى «واقع تلفزيوني سياسي».

لكن الأهم من ذلك، هو انتشار وسائل الإعلام غير الإخبارية ذات الطابع السياسي في عصر الصورة. على سبيل المثال، تُنتَج أفلام سينمائية تتمحور حول السياسة الخارجية والأمن القومي والتهديدات الإرهابية، أو حتى تلك التي تُزيِّن أسلوب الحياة الأمريكي بمضامين معادية لإيران والإسلام، فتُشكّل جزءاً من لوحة العمليات الإعلامية التي تنفذها أمريكا.

إلى جانب ذلك، تعزّز إنتاج أفلام وثائقية تبدو ظاهرياً محايدة، ولكنها في الواقع كانت تقدم تمثيلات إستراتيجية للمجتمعات المستهدفة. وُجّه المتلقي عبر هذه الوثائقيات إلى مشاهدة واقع يبدو حقيقياً، ولكنه كان يخدم «صناعة خاصّة للمفاهيم» في واقع الأمر؛ وهو الواقع الذي يكتسب معناه ضمن إطار «السياسة الثقافية الأمريكية».

عمومًا، نشهد تطوّر الحرب المعرفية الأمريكية عبر الوسائل الإعلامية، انطلاقًا من الإذاعة وصولاً إلى الصورة. امتلكت كل مرحلة أدواتها الخاصة، ولكن الهدف بقي واحداً دائماً: «التحكم في عقل المتلقي العابر للحدود ومشاعره» لخدمة المصالح السياسية للولايات المتحدة.

من أبرز الأمثلة على استغلال السينما الغربية للأدوات الثقافية في خدمة الأهداف الجيوسياسية ضد جمهوريّة إيران الإسلاميّة، فيلم «يستحيل من دون ابنتي»[3]، وقد أُنتج عام 1991 بالتعاون مع عناصر صهاينة في "إسرائيل"، ولم يُبْنَ فقط على رواية شخصية مشكوك فيها، بل وُزّع ورُوّج على المستوى الدولي بأهداف سياسية واضحة. يعرض الفيلم صورة مشوّهة بالكامل، مظلمة ومهينة ثقافياً عن المجتمع الإيراني؛ مجتمع يُعرض فيه الدين والعائلة والطقوس التقليدية وحتى العلاقات الإنسانية بصورة عنيفة ومتخلّفة وتهديدية.

من اللافت أيضًا أن التلفزيون الفرنسي بثّ هذا الفيلم عشيّة المباراة بين إيران وأمريكا في كأس العالم 1998 م؛ وكان ذلك خطوة تشكّل بوضوح دليلاً على التلاقي بين «الحرب الإعلامية» و«الفعاليات الرمزية» السياسية والرياضية. لم يكن هذا الجانب من التخطيط مصادفة، بل يمكن عدّه جزءاً من «تخطيط معرفي دقيق» يهدف إلى إثارة المشاعر وترسيخ صورة سلبية عن إيران في أذهان الجمهور العالمي.

تكشف مضامين الفيلم بوضوح أن الكتّاب لم يهدفوا إلى سرد حكاية فردية فحسب، بل سَعَوا إلى ما هو أبعد. مثلاً، تُعرض في أحد المشاهد جماعة من المصلين وهم يسجدون باتجاه الإمام، بينما يقف الإمام أمامهم، وهو تحريف ساذج ومهين للشعائر الإسلامية. كما تُقدَّم طقوس الضيافة الإيرانية التقليدية، مثل ذبح الخروف ترحيباً بالضيف، بطريقة توحي بأنها عمل وحشي ومثير للاشمئزاز؛ وكلها شواهد على سياسة متعمدة تهدف إلى «إهانة الرموز الثقافية والدينية» لدينا.

مع تجاوز هذه المرحلة، ندخل عصر وسائل الإعلام الافتراضية وشبكات التواصل الاجتماعي؛ عصراً يُضفي عبر «رقمنة المحتوى» و«أفقية ساحة الإعلام» أبعاداً جديدة على الحرب المعرفية. لم تعد صناعة المحتوى حكراً على الحكومات فقط، بل بات في إمكان أي فرد أو مؤسسة غير حكومية أو خليّة فكريّة أن يتحوّلوا إلى لاعب فاعل في ساحة المعركة المعرفية بمجرد إطلاق صفحة أو قناة افتراضية.

في هذا العصر يشتدّ نشر الأخبار المزيّفة وتصبح هذه الأخبار أشدّ انتشارًا وتشمل نطاقًا أوسع، لأنّ الأشخاص الذين يحملون غايات وأهدافًا سياسيّة خفيّة يتلطّون وراء قناعات وحسابات شعبيّة في الظاهر وينشرون الأكاذيب، وقد تُخدع وكالات الأنباء ووسائل الإعلام أيضًا بالأكاذيب المنشورة في هذه الشبكات والحسابات التي تترسّخ أكثر فأكثر.

على سبيل المثال، قبل أعوام خلت، أُنشئ حسابٌ حمل اسم «حشمت علوي»، وكان هذا الحساب ناشطًا ولديه صفحة خاصّة به ويكتب كثيرًا من المقالات في شتى المواقع العالميّة الشهيرة من قبيل «فوربز»، إلى أن أدى هذا الحجم من التفاعل معه إلى أن ينشر ترامب أيضًا نصًّا ضدّ بلادنا، وعندما سأل الصحافيّون عن المصدر، أحالهم قسم العلاقات في البيت الأبيض إلى مصدر هو إحدى مقالات حشمت علوي. حسنًا، عندما تدقّقون في الأمر، تكتشفون أنّه فضيحة على مستوى وسائل الإعلام الدوليّة، فهذا الحساب يحمل هويّة مزيّفة، وإنّه فضيحة أيضًا لوسائل الإعلام الدوليّة، فهذا الحساب لا علاقة له ببلدنا أبدًا، وقيل إنّه مرتبطٌ بالشورى السياسيّة للمنافقين، وينشر المضامين المزيّفة بانتحال هذه الصفة المزيّفة ويضخّها في الأجواء الإعلاميّة. عليه، هذه الهويّات المزيّفة تغطّي أيضًا الأخبار المزيّفة، ولدينا نماذج عجيبة وغريبة في هذا الصدد، ومن أهمّها نموذج علوي هذا.

على نحو محدّد، وضمن إطار العلاقة مع إيران، ضخّ المسؤولون ووسائل الإعلام الأمريكيّة في الآونة الأخيرة أكاذيب كثيرة في أوساط الرأي العام. على سبيل المثال، أعلن ترامب قبل انطلاق المحادثات النوويّة أنّ هذه المحادثات ستكون مباشرة وستشمل أيضًا الملفات الإقليميّة والصاروخيّة لإيران، بينما لم يحدث مثل هذا الأمر، وتوبِعَ بثّ هذه الأكاذيب أيضًا على مستوى وسائل الإعلام الأمريكيّة. ما الذي تسعى إليه هذه الأكاذيب الإعلاميّة وأيّ أثر تودّ تركه في المجالين السياسي والميداني؟

تُعرف وسائل الإعلام بمدى قدرتها على الوصول إلى الأخبار، وإنّ الأخبار الخاصّة التي تنتج من هذه العلاقات الخاصّة تثبت مدى كون الوسيلة الإعلاميّة حيّة وفعالة. ضمن إطار لعبة الأخبار الخاصّة والحصريّة التي تنطلق أحيانًا وتصبح حامية، وفي خضم اللحظات الحساسة، وعندما تكون أيدي جهة معيّنة خالية الوفاض، ولا تملك الوسيلة الإعلاميّة الفلانيّة أيّ خبر خاصّ، تحاول إدخال ميدان الأخبار ما تعتقد أنّه يمنح اليد العُليا لسياسة بلادها الخارجيّة أو يؤدي إلى تقدّم اللاعبين في مجال السياسة الخارجيّة لبلادها، وممّ تصنع أخبارها؟ من الظنون والتوقعات. النقطة الثانية هي أنّهم أحيانًا يُخدعون من الذين يُقدّمون أنفسهم على أنّهم مصادر موثوقة ومُطّلِعَة. لقد شهدنا نحن خصوصًا كيف أنّ المنافقين كانوا يُبادرون مباشرة أو غير مباشرة ويزوّدون وسائل الإعلام الغربيّة بمعلومات كانت تؤدّي إلى حدوثها في مشكلات عدّة. لقد رأيتم كيف أن رئيس الوزراء الكندي السابق جاستين ترودو غرّد وأعرب عن أسفه لإعدام 1500 شخص في يومٍ واحدٍ في إيران، وحذفها بعد ساعات قليلة لأنّ آلاف الأشخاص أخبروه أنّ المعلومات التي نشرتها مزيّفة ولا حقيقة لها.

عليه، إنّ الأشخاص الذين يتغلغلون في الأجواء الإعلاميّة للدول أو يضخّون أخبارًا محدّدة وخاصّة للسياسيّين في الدول ويُقدّمون أنفسهم مصادر مُطّلعة وخاصّة، يجعلون وسائل الإعلام هذه تنخدع. لذلك، هذه الأخبار التي نلاحظ أنّها تُبثّ أحيانًا من بعض الوسائل الإعلاميّة، قد تكون أخبارًا كاذبة نُشرت نتيجة انخداع هذه الوسائل. على سبيل المثال، شاهدتم كيف أنّ «رويترز» نشرت إحصائيّات معيّنة بشأن أعداد القتلى في إيران ووقعت في خطأ فادح، أو كيف أنّ «نيويورك تايمز» نشرت موضوعًا بشأن صحّة قائد الثورة الإسلاميّة، وأكّدته مرّتين، ثمّ انكشف كذبها وفُضحت، وبعد أن نشرت الخبر وفي اليوم التالي، شارك قائد الثورة الإسلاميّة في مراسم استعراض للقوات العسكريّة وتخريج للضباط في الجامعات العسكريّة، ومشى مسافة 300 متر.

سؤالي هو، كيف تتشكّل هذه الأكاذيب؟ بعضها صناعة للأخبار، لكي يُظهروا أنّهم يملكون قدرات خاصّة على الوصول إلى الأخبار، ولكن في ما يرتبط بالشيء الذي يؤثّرون فيه في المجالين السياسي والميداني، لا بدّ من القول إنّ هذا الأمر يؤدي إلى وقوع طيف واسع من الأفراد في خطأ في الحسابات. بداية، النخب السياسيّة في المنطقة الجغرافية المستهدفة، أي المعنيّون باتخاذ القرارات. الخبراء الذين يتولّون مهمّة صناعة القرارات، يدرسون البيئة أوّلًا، وبناء عليها، يضعون الإستراتيجيّة والخطّة اللتين سيسيرون عليهما، وإذا كان فهمهم تجاه البيئة خطأ، فإنّ هذا سيؤدي إلى وقوعهم في الأخطاء في ما يرتبط بإستراتيجيّتهم. الأثر الثاني بعيدٌ من النخب، وينصبّ على الأجواء العامّة للرأي العام في ذاك البلد، أي يرتبط بما يتلقاه شعب ذاك البلد على أرض الواقع، هل هو الشعور بالانكسار والهوان أو العزّ والثقة بالنفس على المستوى الوطني؟ من المجالات الرئيسيّة التي استثمرت فيها وسائل الإعلام الأمريكيّة، أن يُبادر الناس الذين يتعرّضون للحرب المعرفيّة إلى استحقار ذواتهم والشعور بالخجل من هويتهم، وأن يشعروا بالخجل والانكسار والعار والهوان من عيشهم في هذه البقعة الجغرافية وهذه القطعة من الأرض وهذا البلد.

هناك مجالٌ ثالث أيضًا يرتبط بالرأي العام العالمي، وفي هذا المجال يُظهر شخصٌ نفسه أمام الرأي العام العالمي بأنّه القوّة المسيطرة والقوة العظمى، ونحن نعتقد أنّه في الوقت الراهن وفي عصر شبكات التواصل الاجتماعي وعصر الإعلاميّين، يمكن لهذا الأمر أن يتحقّق بقوّة. تلاحظون أنّ «سنودن» ومختلف الأفراد يفضحون جوانب من الحياة الاستخباراتيّة للبلاد بغض النظر عن التوجه والاتجاه، وإن كانت ذات دور إيجابي أو تتناقض مع الهيكلية الخاصّة بتلك المجموعة. على أيّ حال، العصر الافتراضي يفسح المجال إلى حد كبير أمام التسريب وفضح الأسرار. هذا ما يجعل منصات العرض الهشّة والزائفة تنفضح بسرعة، وأنتم لاحظتم كيف أنّ ترامب أكّد مرّات عدّة التفاوضَ المباشر، وفي نهاية المطاف كان ما حدث أن الجميع رأوا كيف أنّ كلام الجمهورية الإسلاميّة هو الكلام الصادق، وأن الصبر ومرور الوقت أثبتا من الذي على حقّ. عادةً ما يجول الباطل ويعمل على الجذب، ويحاول جاهدًا استعراض نفسه.

يُعدّ تشويه صورة «جبهة المقاومة» في المنطقة من بين الأجندات الإعلامية الأساسية لوسائل الإعلام الأمريكية. تنشر هذه الوسائل أخبارًا تُفيد باستعداد «حزب الله» اللبناني والمقاومة في العراق لـ«التخلي عن أسلحتهم» على نحو مشروط، كما تُصوّر أهالي غزة بأكملهم على أنهم «مجرمون»، بينما تُضفي الشرعية على جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني. تأتي هذه الحملات الإعلامية ضمن هذا الإطار. ما تقييمكم للخلفيات الحقيقية الكامنة وراء هذه الحملة الإعلامية المُمنهجة؟

يتركّز الاهتمام عموماً على بُعدين جغرافيين عند تقييم القوة والتأثير الإعلامي، بينما يُغفل بُعد ثالث. يتمثّل البُعد الأول في «جغرافية الدولة المستهدفة»، والثاني في «الجغرافية العالمية» حيث ينصبّ اهتمام الجمهور عليهما. لكن تُعد الوسائل الإعلامية الإقليمية التي تغطّي منطقة محددة أكثر احترافيةً، إذ ظلّ التقسيم الجغرافي القائم على المناطق سائداً في الأدبيات الإعلامية لعقود، بينما يغيب هذا التقسيم عن وعي الرأي العام. تشهد الساحة حالياً انخراط وسائل الإعلام الإقليمية المعادية للمقاومة إمّا في «لعبة أمريكا» أو انضوائها ضمن المنظومة الإعلامية الأمريكية. تعتمد واشنطن استثنائيًا على هذه الوسائل الإقليمية، إذ تنشر اليوم فكرة «تراجع المقاومة» عبر قنوات مثل «الحرة» التي استهدفت جمهوراً عربياً يضمّ أكثر من 20 دولة، ووُظّفت لخدمة أجندات مخطّط لها مسبقاً. لا تقتصر حملة الترويج لفكرة انحسار المقاومة على الوسائل المحلية في كل بلد، بل تقودها وسائل إعلاميّة إقليمية لتوجيه الرأي العام نحو تصوّر الانخفاض لمكانة إيران بوصفها قوّة إقليمية، وترويج صعود منافسيها - السعودية وتركيا وحتى الكيان الصهيوني – بوصفها قوى مهيمنة في المنطقة.

يمكن رصد هذه التطورات عبر محاور رئيسية عدة: يُروّج المحور الأول لفكرة «زوال حماس»، مع بذل جهود حثيثة لنشر كراهية الفلسطينيين تجاه الحركة، سواء في الساحة الإقليمية أو الدولية. أما المحور الثاني، فيتمحور حول إشاعة أن «حزب الله» قد وصل إلى نهاية مشواره، وأن جناحه العسكري أصبح عاجزاً عن ممارسة أيّ فعل، ليُختزل دوره في كونه كياناً اجتماعياً أو سياسياً محدود التأثير، بعد تجريده - عملياً - من سلاح المقاومة. يركّز المحور الثالث على تجاهل مقاومة الشعب السوري، مع المبالغة في تصوير هيمنة «جبهة النصرة» وقدرتها على توحيد سوريا. يُشكّل تضخيم قوة هذه الجماعات، بما فيها «هيئة تحرير الشام»، جزءاً من حملة دعائية منظمة. ينصب المحور الرابع على اليمن، حيث انطلقت فور القصف الأمريكي بالطائرات B-2 وB-52  حملة إعلامية مكثفة تُروّج لفكرة إبادة شخصيات المقاومة المؤثرة جميعها، وزوال قدرات «أنصار الله» الصاروخية وتهديداتها. تسعى هذه المحاور الإعلامية المدروسة، عبر هندسة الأجندات الإعلامية، إلى تحقيق أمرين: تعزيز النظام الإقليمي الذي تريده واشنطن، ورسم صورة لمشهد إقليمي خالٍ من المقاومة - سواء في وعي الجماهير أو لدى النخب السياسية وصنّاع القرار - تمهيداً لإحياء مسار التطبيع من جديد.

 

مع الأخذ في الحسبان أنّ الصدق في نشر الأخبار وعكسها بصورة صحيحة مهمان جدًّا لمكانة أيّ وسيلة إعلاميّة وشأنيّتها، ما هو في رأيكم السبب الذي يدفع بعض وسائل الإعلام التابعة للتيارات الكبيرة والرئيسيّة إلى ممارسة مثل هذه الخطوات ونشر هذه الأخبار التي توجّه ضربة إلى مصداقيتها وتؤثر عليها سلبيًا؟

تتمثل النقطة الأولى في «قدرة الوصول الإعلامي»، إذ تُعد الوسيلة الإعلامية قوية عندما تتمكن من نقل أخبار خاصة عبر قنوات خاصة في توقيتات محددة. تسعى هذه الوسائل عبر صناعة الأخبار المزيفة إلى تعزيز علامتها التجارية بوصفها كيانًا مؤثرًا، مع تفادي تحمّل تبعات أكاذيبها. تعمد هذه الوسائل إلى الاختباء خلف «مصادر مجهولة»، وتلجأ إلى إخفاء هويات مصادرها الإخبارية. بلغة أدق، تحوّل تكلفة الكذب من علامتها التجارية إلى تلك المصادر المخفية. يشكل هذا التكتيك خداعاً ممنهجاً للرأي العام، وهو بمنزلة لعبة إعلامية قذرة تنتهك أبسط معايير المهنية.

تتمثّل النقطة الثانية في تحوّل بعض الوسائل الإعلامية إلى «أدوات لخدمة السياسة الخارجية»، إذ تُضحّي بمصداقيتها التي تراكمت على مدى عقود أو قرون لإحراز مكاسب سياسية لبلدانها فقط. تناقض هذه الممارسات الشعارات كلها عن «استقلالية الإعلام»، إذ نلاحظ في اللحظات الحاسمة - سواء لأسباب مالية أو سياسية - كيف تذبح المؤسسات الإعلامية نفسها طوعاً، وتتحوّل إلى جسر تعبر عليه السياسة الخارجية لتحقيق مكاسب مرحلية.

 


[1]  الصحافة الصفراء.

[2] Yellow Journalism

[3] Not without my daughter.