بسم الله الرحمن الرحيم،[1]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا، أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، الهداة المهديين المعصومين المكرّمين، [ولا] سيما بقية الله في الأرضين.

قبل أيّ حديث، أبعث تحيّتي إلى الروح الطاهرة للإمام الجليل، وأسأل الله المتعالي أن يرفع درجته [في مناسبة] هذه الأيام الزاخرة بالعبادة والتوجّه والذكر. غدًا يوم عرفة؛ إنه ربيع الدعاء، وربيع الخشوع والتوجّه والتوسّل. علينا جميعًا أن نغتنم هذه الفرصة، إن شاء الله. أوجّه حديثي خاصة إلى الشباب بأن يغتنموا يوم عرفة إلى أقصى حد؛ ويرفعوا أكفّهم بالدعاء ويتوسلوا ويعرضوا على الله المتعالي طلباتهم وحوائجهم وأهدافهم ويطلبوا منه العون والهداية. أوصي الشباب على وجه الخصوص، بالإضافة إلى دعاء الإمام الحسين (ع) في يوم عرفة - هو دعاء مؤثر جدًا ومفعم بالمحبة -، أن يقرؤوا أيضًا دعاء الإمام السجاد (عليه السلام)، وهو الدعاء السابع والأربعون من «الصحيفة السجادية». طبعًا، إنه دعاء طويل، ولكن اقرؤوا منه ما تيسّر لكم وفق الحال والقدرة؛ فليس من الضروري أن يقرأ الإنسان الدعاء بأكمله إذا لم يكن لديه وقت أو رغبة أو فرصة لذلك.

الموضوع الذي أودّ طرحه اليوم يتمحور عن الإمام الراحل العظيم الشأن، يليه عرض موجز يتصل بقضية وطنية، وأرجو أن تعود معرفتها بالنفع على الشعب، إن شاء الله. أود أن أبدأ حديثي من هذه النقطة: لقد انبثق النظام السياسي القائم في بلادنا وَوُلِدَ من رحم ثورة عظيمة، وبحمد الله، هو نظام ينعم اليوم بالنماء والاستقرار والاقتدار. إنّ قائد تلك الثورة ومؤسّسها، ومهندس النظام الإسلامي المنبثق منها، لهو رجل عظيم لا يزال حضوره، بعد مضيّ أكثر من ثلاثين عامًا على رحيله، مشهودًا في العالم، بل إنّ تأثيره وتأثير ثورته لا يزالان ظاهرَين للعيان حتى يومنا هذا؛ فالنظام الدولي المتعدّد الأقطاب اليوم متأثر بثورته، وكذلك إنّ أفول القوى الكبرى وانحدار مكانة أمريكا ونفوذها في العالم وتصاعد الاشمئزاز العام من الصهيونية، الذي بات واضحًا في العالم، كلّها أمور متأثرة بثورته، كما إنّ الصراحة لدى كثير من الشعوب، وخاصة لدى شبابها، في نفي القيم الغربية الذي نراه اليوم متأثرة بثورته. نشهد اليوم في العالم الغربي، في أوروبا وحتى أمريكا وسائر الدول التابعة لها، حركة نحو الاشمئزاز من القيم الغربية. لا شكّ أنّ ثورة الإمام الجليل وثورة الشعب الإيراني كانتا مؤثرتين إلى حد كبير، وتركتا أثرًا في هذه الأمور كلها. لقد أطلق الإمام الجليل هذه الثورة بالتعاون مع الناس.

لقد بُغتوا؛ إذ لم يكن في حسبانهم ولا كان يدور في بالهم أنّ عالم دين وحيدًا، من دون امتلاك إمكانات [تُذكر] أو موارد مالية كافية، يمكنه أن يحرّك شعبًا ويُنزله إلى الميدان. لم يكن أحد في الغرب يتوقع ذلك ولا يخطر بباله. الثورة الإسلامية في إيران باغتت العالم الغربي! لم يكونوا يتوقعون أن يتمكن هذا الشعب، بيدٍ فارغة وبتوجيه هذا العالم الديني وقيادته، من الغلبة على النظام المدجج بالسلاح حتى النخاع. لم يكونوا يتوقعون أن يسقط ذاك النظام الذي كان يحظى بدعم القوى العالمية جميعها، سواء الشرقية منها أو الغربية. لم يكونوا يتوقعون أن تتمكن هذه الثورة وهذا الإمام من كنس الأمريكيين والصهاينة الذين كانوا قد جلسوا مسترخيين في إيران لسنوات طويلة، ومهيمنين على كل شيء، وطردهم من البلاد، فلا يبقى لهم أيّ أثر فيها.

المباغتة التالية لهؤلاء كانت في تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية. لو كانت حكومة مُساوِمة قد وصلت إلى الحكم بعد الثورة – كما ظهرت بعض المؤشرات في بداية الأمر لاحتمال وصول حكومة مُساوِمة مع الغرب إلى السلطة – لكان الغربيّون قد استبشروا بإمكانية إعادة نفوذهم إلى إيران وتأمين مصالحهم غير المشروعة فيها. لكن الإمام أعرب عن مواقفه الصريحة والواضحة عبر تأسيس نظام إسلامي للبلاد؛ أي إنّ الإمام أعلن – قولًا وعملاً – أنّ النظام المنبثق من هذه الثورة هو نظام إسلامي ونظام ديني. من هنا بدأت المؤامرات؛ فبعد أن أدرك الغربيّون الوجهة التي تسير فيها الثورة، وبعد أن تبيّن لهم المسار الذي يسلكه الشعب الإيراني ويخطو فيه، انطلقت مؤامرات الأعداء ومشاريعهم التخريبية والهدّامة ضدّ بلدنا العزيز وشعبنا.

أنا لا أعرف أيّ نظامٍ ثوريٍّ في العالم، على مدى القرنين أو الثلاثة قرون الماضية من تاريخ الثورات، قد تعرّض لهذا الحجم من المؤامرات والعداوات ومخططات الأعداء. انظروا إلى ما حدث منذ بداية الثورة من تحريك النزعات القوميّة وإثارة القوميّات، إلى تسليح الجماعات اليساريّة – إذْ كانت هناك بعض الجماعات اليساريّة في إيران، فعمدوا إلى تسليحها وزرعها في الجامعات وغيرها، وتهيئتها للتحرك ضد النظام – إلى تحريض ذئبٍ دمويّ كصدّام حسين ودعمه، إذْ حرّضوه وشجّعوه ودفعوه ليهاجم حدودنا، إلى الاغتيالات الموجّهة؛ من اغتيال الشهيد مطهّري والشهيد بهشتي والشهيد مفتّح والشهيد رجائي وشهداء المحراب،[2] وصولًا إلى اغتيال العلماء النوويّين والشباب الثوريّين الناشطين. لاحظوا، هذه سلسلة من المخططات التي نُفّذت ضد النظام المنبثق من الثورة في إيران. ثمّ جاء الحظر الشامل، ثمّ الهجمات المباشرة، مثل العدوان الأمريكي على طبس وما حدث فيها من حادثة شهيرة وإعجازية[3]، أو الاعتداء على الطائرة المدنيّة وإسقاطها،[4] وما إلى ذلك من ممارسات. لقد استُهدفَ النظام المنبثق من الثورة الإسلاميّة بهذه الممارسات منذ بداياتها، وهي بطبيعة الحال لا تزال مستمرّة إلى يومنا هذا. أرى أنّه لم يسبق في أيٍّ من الثورات المعروفة حول العالم أن تعرّضت ثورة لأنواع هذه المخططات والمؤامرات من حيث تنوّعها وشدّتها والمضامين الخبيثة التي تنطوي عليها.

مَن كان ينفّذ هذه المؤامرات؟ أحيانًا تُقدِم جماعات إرهابية على أعمال ما [في العالم]، ولكن في إيران لم يكن الأمر على هذا النحو؛ فقد كانت هذه المؤامرات وهذه المخططات وهذه الممارسات الخبيثة تحدث بواسطة الدول المستكبرة - أمريكا والصهيونية بصورة رئيسية - وبواسطة أجهزة المخابرات المعروفة في العالم مثل الـ«سي آي إيه» الأمريكية، والـ«إم آي 6» البريطانية، و«الموساد» التابع للكيان الصهيوني.

صمد النظام الإسلامي، أي الجمهوريّة الإسلاميّة، في وجه هذه المؤامرات والتخطيطات والعداوات كلّها، وأفشل هذه المؤامرات وأحبطها. ربّما لو أردنا أن نحصيها، لوجدنا أن الجمهورية الإسلاميّة أحبطت أكثر من ألف مؤامرة، وردّت على بعضها أيضًا. المهمّ في الأمر هو أنّ هؤلاء حاكوا هذه المؤامرات حتى يُضعفوا الجمهوريّة الإسلاميّة، ولكن الجمهوريّة الإسلاميّة لم تَضعُف قط، بل تعزّزت قدراتها يومًا بعد يوم، ليس داخل البلاد فحسب، بل تعزّزت مختلف قدرات الجمهوريّة الإسلاميّة خارج البلاد أيضًا. دعوني أخاطب هنا الشعب الإيراني ومن لديهم اهتمام بقضايا إيران جميعهم أننا سنُعزّز من الآن فصاعدًا أيضًا وبتوفيقٍ من الله قوّتنا الوطنيّة الشاملة قدر استطاعتنا.

لا بدّ لي هنا من الإشارة إلى نقطة، ومن بعدها سأتحدّث عن الموضوع الرئيسي الذي أودّ طرحه. تلك النقطة هي أن النهضات الاجتماعيّة عادة ما تتشكّل في أرجاء العالم عبر الاستمداد من المشاعر. المشاعر هي التي تسهم في تشكّل النهضات الاجتماعيّة وانتصارها. إذا كان هناك وجود لفكر وعقلانيّة وراء هذه المشاعر، فإنّ تلك الركائز العقلانيّة غالبًا ما تضيع وتفقد رونقها بين الآراء والاجتهادات المنبثقة من هذه المشاعر. في كثير من الأحيان، تؤثّر المشاعر في الأهداف العقلانيّة للانتفاضات. ما هي النتيجة؟ النتيجة هي أن المشاعر عندما تخمد، فإنّ مسار الحركة الذي تأسّست الثورة من أجله يتبدّل، لأنّ تلك العقلانيّة التي كانت وراء هذه النهضة ضاعت وتراجع أثرها، وهذا ما يجعل المسار يتبدّل. هناك نماذج متعدّدة في التاريخ، على سبيل المثال، انطلقت الثورة الفرنسيّة في القرن الثامن عشر من أجل مكافحة النظام الملكي لعائلة معيّنة – عائلة بوربون - وبعد أن انتصرت الثورة وقتلوا الملك وزوجته أيضًا، سيطرت المشاعر المتنوعة على الأجواء العامة إلى حدّ أن الناس نسوا لماذا ثاروا وكافحوا ونزلوا إلى الميدان. بعد نحو خمسة عشر عاماً، تأسّست ملكيّة نابليون وسلطته على فرنسا، وبعد رحيله عادت العائلة نفسها، التي ثار الناس ضدّها، جاؤوا أنفسهم وعاشت فرنسا التي حاربت الملكيّة، في ظلّ الملكيّة لسبعين أو ثمانين عامًا، أي إنّ الأساس العقلاني الذي كان يقف خلف تلك الثورة والنهضة ضاع بالكامل وتلاشى، وهذا الأمر نشهده تقريباً في الثورات جميعها أو في غالبية ثورات العالم.

أساس كلامي هو أنّ الإمام [الخميني] صان الثورة الإسلاميّة وحفظها من هذه الآفة المدمّرة. الإمام [الخميني] الجليل عمد بتدبير من الله وعقلانيّة منبثقة من الإيمان بالله والغيب إلى فعل ما يمنع إصابة الثورة الإسلاميّة بهذه الآفة، أي إنّه فعل ما جعل المشاعر – كانت المشاعر كثيرة في ثورتنا أيضًا – تعجز عن حرف المسار الأوّلي الأساسي والصائب للثورة، ولا تتمكّن من حرف حركة الناس وإبعادهم عن ذاك المسار.

ما الذي فعله الإمام؟ تجسّدت عقلانيّة الإمام، تلك العقلانيّة التي أدّت إلى تمكّن سماحته من إنجاز هذا العمل، في ركنين أساسيّين: أحدهما «ولاية الفقيه»، والآخر هو «الاستقلال الوطني». أنا أعرّف ذاك المعنى الذي كان حاضرًا في الذهن المبارك للإمام وتكرّر في كلماته بمفردة «الاستقلال الوطني». عندما أفكّر، أجد أنّه لا يوجد تعبيرٌ أنسب من «الاستقلال الوطني».

قُدّمت شروحات كثيرة بشأن «ولاية الفقيه»، ولا أرغب في الخوض فيها. «ولاية الفقيه» صانت الجانب الديني لهذه الثورة. لو لم تكن «ولاية الفقيه»، فإنّ هذه الثورة التي نشأت انطلاقًا من دافع ديني وتضحيات نابعة من الإيمان بالله، كانت ستنحرف عن مسار الدين. إذًا، كانت «ولاية الفقيه» الرّكن الأوّل. هذه عقلانيّة الإمام [الخميني] الجليل، العقلانيّة الموجودة خلف هذه الحركة العامّة للناس وتدفعها قدمًا وتوجّهها. لن أتحدّث عن «ولاية الفقيه» أكثر من هذا القدر.

الرّكن الثاني هو «الاستقلال الوطني». يندرج كثير من العناوين التي تكرّرت في خطابات الإمام [الخميني] وكرّر سماحته تأكيدها، ضمن عنوان «الاستقلال الوطني». طبعًا، لا يعني «الاستقلال» قطع العلاقة مع البيئة المحيطة والعالم، فلا يغالط بعضم بالقول إنّنا عزلنا أنفسنا، كلّا، «الاستقلال» لا يعني الانقطاع عن الآخرين. ما يعنيه «الاستقلال» هو أن تقف إيران بلدًا وشعبًا على قدميها، وألا تعتمد على هذا وذاك، وأن تشخّص الأمور وتتخذ القرارات وتنفذها بنفسها؛ هذا ما يعنيه «الاستقلال الوطني». هذا ما يعنيه «الاستقلال»، ألا تكون بانتظار الضوء الأخضر من أمريكا وأمثالها، وألا يُقلقها الضوء الأحمر لأمريكا وأمثالها؛ أن يكون التشخيص بعهدة الشعب الإيراني نفسه، والقرار بيده، والإقدام على أيّ خطوة في أيّ مكان احتاج الأمر ذلك بيد الشعب الإيراني، ولا تكون هناك أهميّة لموافقة الآخرين، القوى، أمريكا وغيرها أو معارضتهم. هذا ما يعنيه «الاستقلال». حسنًا، قلنا إنّ العناوين المتكرّرة في خطابات الإمام [الخميني] تندرج ضمن إطار هذا «الاستقلال الوطني». سوف أتطرّق إلى بعض النماذج من هذه العناوين.

أحد العناوين، هو مبدأ «نحن قادرون». الإمام علّمنا أن نقول ونؤمن بأنّنا قادرون. كانوا في النظام السابق قد صرّحوا وجعلوا الناس يصدّقون أنّنا غير قادرين، ولا يمكننا فعل أيّ شيء، وعلى الآخرين أن يقدموا على الأمور من أجلنا، [ثمّ] غرس الإمام في الهوية الوطنية للشعب الإيراني ما هو على النقيض تمامًا من ذلك: «نحن قادرون»، أي إنّه أحيا الثقة بالنفس لدى الشعب وفي أوساط الشباب. لا بدّ لي أن أقول هنا إنّ «نحن قادرون» هذه على درجة من الأهميّة إذ يخطّطون من أجل نبذ «نحن قادرون». الآن في هذه القضيّة النوويّة الأخيرة والمحادثات القائمة في المجال النووي بوساطة عمان، يقع المشروع الذي قدّمه الأمريكيّون ضدّ «نحن قادرون» مئة بالمئة. الإمام أحيا الثقة بالنفس لدى شبابنا وفي مسؤولينا السياسيّين. قال نحن قادرون، وجرّبنا نحن أيضًا ووجدنا أن نعم، نحن قادرون. إنّ أنواع التقدّم العلمي والتقني هذه وهذه القدرات الدفاعيّة وهذه الأعمال الكُبرى التي أنجزتها الحكومات طوال هذه الأعوام لإعمار هذه البلاد، لم نكن نصدّق إمكانيّة تحقّق هذه الأمور، وكانوا يقولون إنّه لا يمكن تحقيقها، ولكنّنا اختبرنا الأمر وتوصّلنا إلى أن لا، الشعب الإيراني قادر ونحن قادرون. هذا أحد العناوين المهمّة ومبدأ ضمن إطار «الاستقلال الوطني» تكرّر في خطابات الإمام.

المبدأ التالي هو مبدأ «المقاومة». المقصود بـ«المقاومة» هو رفض الإنسان الخضوع لإرادة القوى الكبرى. إن كان يؤمن بأمرٍ ما أو يرى فيه ضرورة أو يعدّه محظورًا، فعليه أن يعمل بموجب قناعاته وألا يذعن لإرادة العدو أو ضغوطه أو سطوته. هذا هو معنى «المقاومة». كما إن «المقاومة» تُشكل جزءًا أساسيًا من «الاستقلال الوطني».

من المبادئ الأخرى: «تعزيز القدرة الدفاعية للبلاد»، رفع مستوى القدرة الدفاعيّة. نحن، في بداية الثورة، لم تكن لدينا قدرات دفاعية تُذكر، وكانت منتجاتنا الدفاعية ضئيلة جدًا، تكاد تساوي الصفر؛ ما كنا ننتجه في ذلك الوقت لا يُعتدّ به، بل يُعدّ معدومًا. الإمام [الخميني] علّمنا أنّه علينا تعزيز قدرتنا الدفاعية. ذهبتُ لزيارة الإمام وأبلغته أنّ شبابنا يعملون على تصنيع صاروخ مضاد للدبابات بقدرات محدّدة، وقد حدّدوا موعدًا لإنجازه، فقلت للإمام إنهم وعدوا بإتمام هذا العمل في ذلك الوقت. فسُرّ الإمام سرورًا بالغًا، قلّما رأيت مثله على وجهه! لقد كان يشجّعنا دومًا على تعزيز قدراتنا الدفاعية. ماذا كانت النتيجة؟ النتيجة أنّ خبراء القدرات الدفاعية في العالم اليوم يُجمعون على أنّ إيران، في هذا المجال بالذات، تتصدّر المنطقة، بل ويُبدون دهشتهم من أنّ إيران، رغم الحظر، قادرة مثلًا على إطلاق أقمار صناعية إلى الفضاء، وما إلى ذلك. هذه هي ثمرة تلك الجهود، وهي أيضًا من أبرز العناوين التي أكّدها الإمام الخميني في خطاباته وتوجيهاته.

عنوان آخر هو مبدأ «التبيين». كان الإمام [الخميني] يؤمن بـ«التبيين»، أي إطلاع الناس على القضايا التي يجب أن يعرفوها، بلغة مناسبة. منذ انطلاق النهضة عام 1341 هـ ش (1962م)، بدأ الإمام يتحدث إلى الناس ويبيّن لهم الأمور، واستمر في ذلك حتى آخر عام من حياته، إذ تُعد كتابات الإمام الجليل في تلك السنة من أبرز ما كتب، موجّهة إلى عامة الناس، والحوزات العلمية وطلابها وعلمائها، وإلى الجامعيين وغيرهم. من المهم أن نذكر أن الإمام، حين كان يعمد إلى «التبيين»، لم يكن يكتفي بإثارة المشاعر؛ بل كان يوجّه المشاعر ويقدم الحجج ويقنع العقول. لقد كان يخاطب القلوب والعقول معًا، ويُحسن توضيح الأمور بهذه الطريقة. هذا «التبيين» أيضًا يعدّ من العناصر الأساسية التي تندرج تحت مفهوم «الاستقلال الوطني» لبلدنا، وهو الركيزة الرئيسية في نشاط الإمام.

مبدأ آخر هو «الاستقامة». «الاستقامة» تختلف عن «المقاومة» التي ذكرناها. إنها تعني مواصلة الطريق واجتناب التخلي عن الصراط المستقيم، والمثابرة. هذا هو معنى «الاستقامة». «الاستقلال الوطني» يتكوّن من هذه المبادئ وغيرها. أدخل الإمام هذه المبادئ في هوية الشعب الإيراني، وعرّف الناس بها والقلوب والعقول والشباب. اليوم، شبابنا يعون جيدًا معنى «الثقة بالنفس» و«نحن قادرون» و«المقاومة» و«مواصلة الطريق». هذا ما حققه الإمام الجليل، ولهذا بقيت هوية الثورة. هذه هي العقلانية التي تمكّن الإمام بفضلها من الإبقاء على الثورة الإسلامية والنظام الناشئ عنها، على المسار نفسه الذي أُنشئت من أجله ورُسم منذ البداية.

اليوم، قد نرى في بعض الخطابات أنهم يتحدثون عن «العقلانية»؛ إنهم يذكرون «العقلانية»، ولكن مقصدهم من «العقلانيّة» هو أن نخضع لأمريكا؛ يقولون إن هذه هي «العقلانية». إن مقصدهم هو أن نستسلم للقوة المتسلطة؛ يعدّون هذا «عقلانيّة»! هذا ليس «عقلانية»، «العقلانية» هي عقلانية الإمام (الخميني)؛ هي ذاتها التي مكّنت هذا الشعب من التقدم وجعلته قويًّا ومقتدرًا وذا مكانة مرموقة ومقبولة في العالم، ووضعت مستقبلًا مشرقًا أمام هذا الشعب. إن شاء الله، ستتمكن البلاد، بفضل العقلانية التي أرسى دعائمها الإمام، من تحقيق التقدم والوصول إلى أمن مستدام ورخاء عام، كما ستستطيع أن ترتقي أكثر مما هي عليه في الساحة الدولية. هذا ما يتعلق بالإمام.

أما تبيين مسألة وطنية وهي القضيّة النوويّة؛ ينبغي لي أن أتحدّث ببضع عبارات لاطلاع الشعب الإيراني في ما يخصّ القضيّة النوويّة. يا أعزّائي، استطاعت إيران، ببركة ذكاء شبابها وهمّة علمائها وجهودهم الحثيثة، أن تمتلك دورة وقود نووي كاملة. أي إنّنا قادرون اليوم على إنتاج الوقود النووي من المنجم إلى محطّة الطاقة نفسها، وأن نتقدّم في هذا المجال. هذا ما أنجزه شبابنا وعلماؤنا. في العالم، ربّما يكون عدد الدول التي تمتلك هذه القدرة أقلّ من عدد أصابع اليدين، ولكن الشعب الإيراني حقق ذلك. أودّ أن أذكر نقطة في البداية: الصناعة النوويّة لا تقتصر على إنتاج الطاقة فقط. بعض الأشخاص يظنّون أنّ الصناعة النوويّة مخصّصة فقط من أجل الكهرباء النظيفة؛ وهذا صحيح طبعًا، فهي طاقة نظيفة ورخيصة، وهذه من ثمار الصناعة النوويّة، ولكنها ليست الفائدة الوحيدة، بل جزء من فوائد الصناعة النوويّة. الصناعة النوويّة هي صناعةٌ أُمّ؛ صناعةٌ أم. لقد شرح لنا المتخصّصون والعلماء وأهل الخبرة، وآمل أن يشرحوا هذا أكثر للشعب أيضًا؛ هناك مجالات علميّة متعدّدة متأثّرة بالصناعة النوويّة، مجالات علميّة متنوّعة، من بينها التقنيّات الدقيقة والحسّاسة، مثل الأجهزة الطبيّة والجو-فضاء وأجهزة الاستشعار الدقيقة والإلكترونيّات؛ هذه كلّها مرتبطة بالصناعة النوويّة ومتأثّرة بها؛ ومن ضمنها أيضًا العلوم الأساسيّة والهندسيّة مثل الفيزياء النوويّة وهندسة الطاقة وهندسة المواد؛ وكذلك الاستخدامات الطبيّة والدوائيّة في التشخيص والعلاج على حدّ سواء. هذه كلّها مرتبطة بالصناعة النوويّة. الصناعة النوويّة تتصدّر في علاج بعض الأمراض المستعصية، في التشخيص والعلاج معًا. كذلك في الصناعات المرتبطة بالزراعة وفي الصناعات المتعلقة بالبيئة. هناك نماذج متعدّدة من هذا القبيل، إمّا هي مرتبطة بالصناعة النوويّة أو متأثّرة بها. الصناعة النوويّة هي صناعةٌ أُمّ؛ صناعة أساسية.

حسنًا، هناك نقطة تُعدّ بمنزلة المفتاح في الصناعة النوويّة، وهي تخصيب اليورانيوم. يركّز أعداؤنا على قضيّة تخصيب اليورانيوم هذه، وقد وضعوا إصبعهم عليها تحديدًا. الصناعة النوويّة بتلك العظمة هي أمرٌ بلا طائل من دون امتلاك القدرة على التخصيب، لأنّه سيكون علينا أن نمدّ أيدينا إلى الآخرين من أجل توفير الوقود لمحطاتنا. الأمر أشبه بأن تمتلك النفط داخل بلدك، من دون أن يكون لك الحقّ في أن تبني مصفاة، ولا أن تنتج البنزين. لديك النفط، ولكن عليك شراء البنزين من الآخرين، وذاك البلد يبيعك إياه متى رغب، ويبيعه بالسّعر الذي يرتئيه، ولا يبيعه إن لم يرغب في ذلك. يتذرّع بشيء ولا يبيع. يقول لك عليك أن تفعل كذا، وإلّا فإنّني لن أعطيك البنزين. هذا هو هدفهم.

نحن لو امتلكنا مئة محطّة نوويّة ولم نمتلك التخصيب، فلن ينفعنا ذلك بشيء، لأنّ المحطّة النوويّة تحتاج إلى وقود. إذا لم نتمكّن من إنتاج هذا الوقود داخل البلاد، فسنُضطرّ إلى مدّ أيدينا نحو أمريكا، وهم قد يضعون عشرات الشروط من أجل تزويدنا بالوقود النّووي. لقد اختبرنا هذا الأمر في بدايات القرن الحالي، حين احتجنا إلى وقود بنسبة 20 بالمئة، وسّط الرئيس الأمريكي[5] اثنين من رؤساء الجمهوريّة الأصدقاء لنا وقال لهم اطلبوا من إيران أن تعطينا جزءًا من مخزونها من اليورانيوم المخصّب بنسبة 3.5 بالمئة حتى نعطيها اليورانيوم المخصّب بنسبة 20 بالمئة، وهو ما تحتاج إليه. كنا نحتاج إلى اليورانيوم المخصّب بنسبة 20 بالمئة. وافق مسؤولونا، وتقرّر أن تحدث عمليّة التبادل. قلت لهم إنّ عمليّة التبادل يجب أن تكون على هذا النحو، بأن يجلبوا اليورانيوم المخصّب بنسبة 20 بالمئة إلى مرفأ «بندر عبّاس»، فنختبرها ونتأكّد من صحّتها، ثمّ نأخذها ونعطيهم اليورانيوم المخصّب بنسبة 3.5 بالمئة. عندما لاحظوا أنّنا ندقّق في قضيّة الحصول على اليورانيوم المخصّب بنسبة 20 بالمئة ونصرّ على ذلك، نكثوا وعدهم ولم يسلّموه. طبعًا، يومذاك، كان المسؤولون لدينا منشغلين بالتجاذبات السياسيّة بشأن هذه القضيّة، ولكن علماءنا أنتجوا اليورانيوم المخصّب بنسبة 20 بالمئة في الداخل بأنفسهم.

كلام الأمريكيّين الأول كان: «يجب ألّا تكون لديكم صناعة نوويّة من الأساس»؛ ينبغي ألا تمتلك إيران صناعة نوويّة. فلتكونوا بحاجتنا في إنتاج النظائر المشعة، ولتلجؤوا إلينا في مجال الطاقة، ولتحتاجوا إلينا في أجهزة تحلية المياه، وكونوا تابعين لنا في عشرات الاختصاصات المهمّة الأخرى. أساسًا، لا تملكوا صناعة نوويّة. لقد أُهّل آلاف العلماء والباحثين في إيران، لدينا الآن آلاف الشباب العلماء في مجال القضايا النوويّة والقضايا المرتبطة بها. هؤلاء أُهّلوا في هذه السنوات القليلة. هل نزرع اليأس في هؤلاء جميعًا ونجعلهم عاطلين من العمل؟ هل نجعلهم محبطين حيال مستقبل بلادنا؟ هذا ما يريده الأمريكيّون، هذا ما يصرّحون به ويطالبوننا به. يكرّر زعماء أمريكا الوقحون وعديمو الأدب هذا الطلب بمختلف الأساليب. إنهم يعارضون التقدّم. يعارضون تقدّم إيران. إنّهم يعارضون استغناء الشعب الإيراني. لقد ذكرتُ هذه الأمور حتى يطّلع شعبنا العزيز إلى حدٍّ ما على أبعاد المسألة، وطبعًا، يجب أن يوضحوها [المعنيون] على نحو أوسع.

إنّ ردّنا على ترّهات الإدارة الأمريكيّة التي تثير الصخب وتفتقر إلى التدبير واضح. نعم، واضحٌ ما سيكون ردّنا. ذات يوم، قبل أعوام من الآن، قال أحد الرؤساء[6] الأمريكيّين: لو استطعتُ لفككتُ براغي الصناعة النوويّة الإيرانيّة وصواميلها ولقضيت عليها؛ وقد أقرّ طبعًا أنّه لا يستطيع. منذ ذلك اليوم أصبحت براغي صناعتنا النوويّة وصواميلها أكثر متانةً وصلابةً بكثير. لقد أقرّ طبعًا أنّه لا يقدر على ذلك. قال لا أستطيع، وكنت سأفعل لو أستطيع. هؤلاء الذين يتولّون زمام أمور السّلطة اليوم من الصهاينة والأمريكيّين، يجب أن يعلموا أيضًا أنّهم يخسؤون عن فعل شيء في هذا الشأن. بالتأكيد، قبل هذه الأحاديث والتوضيحات كلها، أوّل ما نقوله للطرف الأمريكي وغيره في موضوع الطاقة النوويّة هو: من أنتم؟ لماذا تتدخّلون في ما إذا كان لإيران أن تخصّب أم لا؟ ما شأنكم أنتم؟ أنتم تملكون القدرات النوويّة والقنبلة النووية، وإن القدرة على التدمير الشديد في العالم هي بأيديكم. ما شأنكم أن يمتلك الشعب الإيراني التخصيب أو لا، أن تكون لديه صناعة نوويّة أم لا؟ إنه شعبٌ وقراره بيده. لا شأن لكم أنتم. من أنتم؟ من أيّ موقع قانوني تتفوّهون بهذه الكلمات؟ هذا هو موقفنا. هذا أيضًا في ما يتعلق بالمسألة النووية.

آخر ما أود قوله يتعلّق بالجرائم المذهلة التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزّة. إنها حقًا مذهلة! لا يُصدّق أن أحدًا يمكن أن يخطط لمثل هذه الجرائم. في السابق، كانوا يرمون قنبلة فتدمّر منزلًا أو اثنين، ويُستشهد عشرة أو خمسة عشر شخصًا مثلًا. رأوا أن هذا قليل؛ فماذا يفعلون الآن؟ الآن ينشئون مركزًا لتوزيع الغذاء – لأن الطعام لا يصل إلى غزّة – فيحتشد الناس للحصول عليه، فيرمونهم بوابل من الرصاص، ويُقتَل عشرة أضعاف من كانوا يُقتلون بالقنابل! كان قتل الناس يكلّفهم كثيرًا، فجعلوه رخيصًا: بدل القنابل يستخدمون الرصاص! إنها جريمة تُحيّر الإنسان! فكم يجب أن يكون الإنسان حقيرًا وخبيثًا وشقيًا وشريرًا ليُقدم على مثل هذا الفعل؟ طبعًا، أمريكا شريكة في هذه الجريمة. يد أمريكا ملطخة بهذه الجرائم. لهذا نقول ونكرّر ونصرّ على: يجب أن تخرج أمريكا من هذه المنطقة.

أرغب في توجيه كلمة إلى الحكومات الإسلامية: تتحمّل الحكومات الإسلاميّة مسؤوليّة كبرى اليوم. أخاطب الحكومات بصراحة: لم يعد ثمة مجال للمجاملة، ولا مكان للتقيّد بالتحفّظات والحياد، واليوم ليس يوم التزام الصمت. إذا قدّمت أيّ حكومة إسلامية الدعم لهذا الكيان الغاصب، على أيّ نحوٍ كان، وتحت أيّ ذريعة – سواء عبر تطبيع العلاقات أو منع إيصال الدعم إلى الشعب الفلسطيني أو حتى تبرير جرائم الصهاينة – فلتعلم يقينًا بأنّ هذا العار الأبدي سيبقى موسومًا على جبينها. طبعًا هناك آخرةٌ أيضًا، ويوم قيامة والعقاب الإلهي الشديد والقاسي جدًّا. لا يمكنهم التبرير أمام الله، ولكن الأمر لا يقتصر على الجزاء الأخروي فقط، بل في الدنيا أيضًا، لن تنسى الشعوب هذه الخيانة، ولتعلم الحكومات أنّ الركون إلى الكيان الصهيوني لا يوفّر الأمان لأيّ حكومة. إنهم غير قادرين على اكتساب الأمن عبر الركون إلى الكيان الصهيوني، لأنّ الكيان الصهيوني في طور الانهيار وفق الحكم الإلهي القاطع، ولن يستمرّ كثيرًا، إن شاء الله.

اللهم، زد من تفضّلاتك على الشعب الإيراني يومًا بعد يوم، واقمع أعداءه واهزمهم. اللهم، حقّق في هذا الشعب أهداف الإمام [الخميني] الجليل وتطلّعاته السامية، واجعل القلبَ المقدّس لوليّ العصر (أرواحُنا فداه) راضيًا عنّا وعن الشعب الإيراني وعن العاملين جميعهم في سبيل خدمة الشعب. واجعل روح الإمام الجليل الطاهرة في أعلى مراتب عليّين ورضوانك.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 


[1] في مستهل هذه المراسم، التي أُقيمت بجوار المرقد المطهر للإمام الخميني (قدّس سرّه)، ألقى حجّة الإسلام السيّد حسن الخميني (متولّي مرقد الإمام الخميني) كلمة تناول فيها جملة من الموضوعات.

[2] آية الله السيّد أسد الله مدني، آية الله السيّد محمّد علي قاضي الطباطبائي، آية الله السيّد عبد الحسين دستغيب، آية الله محمّد صدوقي، و آية الله عطاء الله أشرفي الأصفهاني.

[3] في فجر يوم 25/4/1980، شنّت الولايات المتحدة الأمريكية عمليةً عسكرية بإشراف الرئيس الأمريكي آنذاك جيمي كارتر، بهدف تحرير جواسيسها المحتجزين في إيران. في إطار هذه العملية، دخلت ستّ طائرات وستّ مروحيات أمريكية ليلًا الأجواء الإيرانية، وهبطت للتزود بالوقود في صحراء طبس. لكنّ عاصفة رملية هبّت أثناء استعداد الطائرات والمروحيات للإقلاع، فاصطدمت طائرة بمروحية، ما أدّى إلى احتراقهما مع عدد من العسكريين الأمريكيين. عندها، فرّ الأمريكيون من صحراء طبس باستخدام الطائرات المتبقية، تاركين خلفهم مروحياتهم، وهكذا باءت هذه العملية بالفشل.

[4] في 3/7/1988، استهدفت المدمّرة الأمريكية «يو.إس.إس فينسنس» طائرة ركّاب مدنيّة تابعة لجمهوريّة إيران الإسلاميّة كانت متّجهة من بندرعبّاس إلى دبي، بصاروخ فوق مياه الخليج الفارسي، ما أدّى إلى استشهاد 290 راكبًا كانوا على متنها، بينهم 66 طفلًا و53 امرأة. بعد مدة، منحت الحكومة الأمريكيّة وسام الشجاعة لقائد المدمّرة، ويليام راجرز!

[5] جورج بوش.

[6] باراك أوباما.