تحمل جسد طفلها بين يديها. طفل صغير، ملفوف بكفن أبيض، هامد، دون روح. هو الطفل نفسه الذي كانت تمشط شعره يوماً ما، وتعدّ حقيبته بعناية، وتحضّر له طعامه قبل ذهابه إلى المدرسة، ثم تودعه داعيةً مبتسمة. كان حلمها أن تراه يوماً بثوب التخرّج، ثم تمسك يده في زفافه، وتحتضن أولاده. لكن الآن، هذه الأم بدلاً من أن تحتفل بمستقبل ابنها، تقف في مراسم تشييعه، وقد فقدت الأمل بالأرض، ورفعت بصرها إلى السماء. تكرّر، بخضوع لمشيئة الله، «حسبنا الله ونعم الوكيل»؛ ذِكرٌ يجري على ألسنة أهل غزة جميعهم، أولئك الذين يقفون وسط الدمار شامخين رغم الظلم.

في خضمّ هذه الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، التي تجاوزت ثمانية عشر شهراً، تُعدّ وجوه الأمهات المكلومات المشهد الأصعب في سلسلة المأساة الإنسانية هذه. نساء لم يفقدن أحباءهن فقط، بل كل شيء، من بيوتهن وأحيائهن وذكرياتهن ومستقبلهن وأمانهن. في أحضانهن جثث أبنائهن، وعلى ألسنتهن الدعاء، وفي نظراتهن الحداد، وفي قلوبهن لظى. لكل أمّ في غزة قصة عن معاناة لم تُروَ، معاناة تبدأ بدمار البيوت، ولا تنتهي بدفن الأطفال في مقابر جماعية.

استشهد في غزة أكثر من 52 ألف فلسطيني، منذ بدء الإبادة الجماعية الشاملة التي شنّها الكيان الصهيوني بعد عملية «طوفان الأقصى» في أكتوبر 2023، وفقاً للتقرير الرسمي لوزارة الصحة في غزة. وأشار التقرير إلى أنّ من بين الشهداء أكثر من 20 ألف طفل. لقد حمل كل واحد منهم قطعة من قلب أمه واصطحبها معه إلى الثرى، فتحوّلت ذكرياتهم وآمالهم وأحلامهم إلى حزن عميق. هذا الحزن الذي عندما استوطن أفئدتهنّ، حوّلته الأمهات الغزّيات - بصبرهنّ - إلى أعظم قوة داعمة للمقاومة في غزة.

أمام عجزه وغضبه نتيجة الهزيمة العسكرية والاستخباراتية التي مُني بها جرّاء عملية «طوفان الأقصى»، والتي أقرّ خبراء غربيون وصهاينة بها، هاجم الكيان الصهيوني النساء والأطفال المُستضعَفين، عندما عجز عن مواجهة مجاهدي المقاومة. ولكن نساء غزة حوّلن روايتهن، المجبولة بفصول الألم والفقد، إلى ملحمة عن أعمدة المقاومة الإنسانية. فقد وقفن في الصفوف الأمامية للحياة، في المستشفيات المكتظة بالجرحى، في المدارس المدمرة، في المخيمات المؤقتة، في طوابير الخبز، ووسط الأنقاض، على قيد الحياة، حرّات زارعات لبذور الأمل.

في أيام التشرد، أشعلت النسوة نار المواقد في خيام اللاجئين، ووزعن دفء حنين الحياة على العائلات. خَبَزن وسط الدمار، وهدّأن الأطفال، ورَعَيْن كبار السن، وداوَيْن جراحات المكلومين حتى لا يقعوا في براثن اليأس. استعادَت المنازل المدمرة بفضلهنّ عبير الحياة مجدداً، وفي أحضانهن التأمت جراحات الروح والجسد.

لا شك في أن نساء غزة ضحايا الظلم، ولكنهن لسن مكسورات، ولا منسيات، ولا عاجزات. هنّ المصابيح المنيرة في وسط الظلام. هذه الدموع التي تعاينها في أعينهن ليست دموع استسلام، بل دموع الإرادة المتجذرة في حب الحياة، والتسليم لله. وجوههن تعكس قرونًا من المقاومة ضد الاحتلال والاستعمار والإذلال. أصبحت نساء غزة اليوم رمزاً للمقاومة، رمزٌ لم تتعلم منه عصابة الإرهاب الحاكمة في الكيان الصهيوني، ولم تفهم طوال حربها الإجرامية في غزة أن القتل الجماعي للنساء والأطفال والمدنيين لا يستطيع أن يؤثر في بنية منظمة المقاومة الصلبة، ولا يمكنه أن يركّعها.

لم يعد ذكر «حسبي الله ونعم‌ الوكیل» دعاءً فردياً فحسب، بل تحوّل إلى رمز عالمي للمقاومة في وجه القوى المستبدة. نداءٌ يتردد صداه الآن في قلوب الأحرار حول العالم؛ في تظاهرات لندن ونيويورك، في هتافات طلاب سان فرانسيسكو وباريس، في دموع أمهات اليمن وسوريا ولبنان. هذا النداء المظلوم، لكن القوي، كشف للعالم هشاشة الهيمنة الزائفة لأمريكا والكيان الصهيوني.

الناس حول العالم اليوم، حين ينظرون إلى نساء غزة، يرون الصورة الحقيقية للصمود؛ لا في ضجيج السلاح، بل في صمتٍ مهيب لنساءٍ يضعن كل يوم زهرةً على قبور أحبّتهن، ويروين ليلاً القصص للأطفال وسط الدمار. رواية غزة هي رواية امرأة مثخنة بالآلام، مفعمة بالقوة.

هذه الرواية هي التي أسرت قلوب كثير من النساء والفتيات في شرق العالم وغربه، وهي التي تصرخ في كل لحظة من لحظات الصبر: يا شعوب العالم، أنا تلك المرأة المسلمة التي كنتم لقرون تظنونها ضعيفة وعديمة الإرادة. أنا من كنتم تحلمون بخوض الحروب «لتحريرها». لكنني اليوم، أنا التي، بتوكلي على الله وبإيماني وصبري، جئت لأخلّصكم أنتم. جئت لأنتشلكم من مستنقع اليأس، وأفتح أعينكم على أفقٍ أسمى، أفق الإيمان بالله والحرية الحقيقية!

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir