طرحَ قائد الثورة الإسلامية ثلاثة مبادئ أساسية في أيّ نوعٍ من المفاوضات، وهي «العِزّة» و«الحِكمة» و«المَصلَحة». نرجو منكم أن تُبيّنوا رؤيتكم وتحليلكم عن هذه المبادئ الثلاثة، وكذلك وجهة نظر الإمام الخامنئي في هذا المجال.
أنتم تعلمون أنّ قدرةَ البلد الدفاعيّة من عناصر القوّة، كما إنّ الدبلوماسيّة القويّة لأيّ بلد تأتي ضمن العناصر الأخرى. طبعًا إنّ الوضعَ الاقتصاديّ للبلاد، ورضا الشعب ودعمه، تُعَدّ من العناصر المهمّة جدًّا لكي تتمكّن أيّ دولة من الدفاع الكامل عن حقوقها. لذلك، تُعَدّ الدبلوماسيّةُ ضرورةً، وقد وُظّفت عبر التاريخ لحلّ قضايا الدول ومشكلاتها. في زمن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) نرى أنّ إرسالَ جماعةٍ من المسلمين إلى الحبشة، وكتابةَ النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) للرسائل إلى ملوك البلدان الأخرى، كانا في الحقيقة متابعةً لنهج الدبلوماسيّة. عليه، إنّ المهمّ هو على أيّ أُسسٍ ترتكز هذه الدبلوماسيّة. في هذا الصدد، طرح قائدُ الثورة الإسلاميّة ثلاثة مبادئ، هي: «العِزّة»، و«الحِكمة»، و«المَصلَحة».
إذا بذلنا في الدبلوماسيّة جهدًا قائمًا على المنطق والحُجج الراسخة لإقناع الطرف المقابل، فإنّنا نكون قد التزمنا بمبدأ «الحِكمة». عندما لا نفعل ما يمسّ عِزّةَ البلاد أو يجعل الشعبَ يشعر بالمهانة، فإنّ مبدأ «العِزّة» يكون قد تحقّق. في الوقت نفسه، ذكر سماحته أيضًا «المَصلَحة»، لأنّه في المباحثات التي تُجرى مع الدول الأخرى، قد تقتضي الضرورةُ بطبيعتها إبداءَ شيءٍ من المرونة للوصول إلى نتيجةٍ ما، وذلك على أساس مبدأ «الرِّبح المتبادَل»، أي أن يلتزم الطرفان بمبدأ «التكافؤ» أثناء التفاهم ليصلا إلى النتيجة المطلوبة. قد لاحظنا هذا في القضايا الأخيرة قبل اندلاع الحرب، إذ إنّ القبولَ بالتفاوض غير المباشر كان بحدّ ذاته دليلًا على «الحِكمة».
قبل أن يشنّ الكيانُ الصهيونيّ هجومه على إيران، أجرينا خمسَ جولاتٍ من المفاوضات غير المباشرة مع الأمريكيّين، وكان من المقرّر عقدُ الجولة السادسة يوم الأحد، أي بعد يومين من الهجوم. في رأيكم، ما هي المكاسب التي حقّقتها إيران من هذا القبول والذهاب إلى طاولة المفاوضات غير المباشرة مع الأمريكيّين؟ في الواقع، لقد أدّت هذه الجولات من المفاوضات إلى حدٍّ كبير إلى إحباط لعبة الأمريكيّين الهادفة إلى «إظهار إيران بمظهر المذنب» في مسألة العزوف عن التفاوض. ما تحليلكم في هذا الشأن؟
لهذا وافق قائدُ الثورة الإسلاميّة على إجراء المفاوضات غير المباشرة، إذ كان هناك منذ البداية شكٌّ في أنّ الأمريكيّين يرغبون فعلًا في خوض مفاوضاتٍ جادّة ترتكز على المبادئ الحاكمة لأيّ تفاوضٍ سياسيّ.
على أيّ حال، كان ترامب قد أرسل رسالة، ويبدو أنّ مسارًا ما قد طُوي وأنّ مشاوراتٍ قد أُجريت أيضًا. فهل تشرحون كيف توصّل النظام في نهاية المطاف إلى قرار بدء المفاوضات غير المباشرة؟
حسنًا، التفتوا، عندما يُراد بدءُ مفاوضاتٍ ما، ينبغي أن يُتّخذ القرار بشأن مبادئ تلك المفاوضات في مكانٍ معيّن، وهذه تُتَّخذ في المجلس الأعلى للأمن القومي، ثم تُعرَض على سماحة القائد. إذا صادق سماحتُه على تلك المبادئ، تُصبح مصادقةً رسميّة للمجلس الأعلى للأمن القومي. لقد وافق سماحتُه على المفاوضات غير المباشرة لأنّه لم يكن واثقًا من أنّ هذه المفاوضات ستُفضي إلى نتيجة، أو أنّها ستكون مفاوضاتٍ تُجرى في إطار العزّة، ولذلك إنّ قبولَه على هذا النحو من المفاوضات يُجسّد الحكمةَ التي اعتمدها، إذ قبل بالمفاوضات ولكن ضمن حدود المفاوضات غير المباشرة.
حسنًا، لو أنّ إيران لم تقبل بالمفاوضات ولجأ الأمريكيّون إلى عملٍ عسكريّ، لكان السؤال قد طُرح: لماذا لم تتفاوضوا لتجنّب الحرب؟ لكنّنا قبلنا بالمفاوضات، وأجرينا خمس جولاتٍ منها بصدقٍ كامل، بل إنّها كانت توشِك أن تصل إلى نتيجةٍ ما، ثمّ أقدم الأمريكيّون على الهجوم. لقد أخذنا طوال هذه المفاوضات عزّة الجمهوريّة الإسلاميّة في الحسبان، ولم نبرم أيّ اتفاقٍ يتعارض مع عزّتها، وكنّا دائمًا نؤكّد «حقّ إيران في التخصيب النووي»، وفي الوقت نفسه أُبديَت بعض المرونة في المفاوضات كي يتمكّنوا من الوصول إلى نتيجة. بالتالي إنّ تجربة تلك المبادئ الثلاثة كانت واضحةً تمامًا في هذه المفاوضات النوويّة.
قال قائد الثورة الإسلاميّة في خضمّ الحرب إنّنا لا نقبل بالسّلام المفروض، أي لا نطيق لا الحرب المفروضة ولا السلام المفروض ونرفضهما. من هذا المنطلق، إذا أردنا أن نراجع المشهد الماضي، كيف تميّزون بين التفاوض المفروض والتفاوض الشريف؟ وكيف تقيّمون التجربة التي خضناها في هذه الأيّام الاثني عشر؟
التفتوا! في الأدبيّات السياسيّة، للمفاوضات مبادئ معيّنة، والتفاوض الشريف هو الذي يرتكز على تلك المبادئ. إذا أراد الطرف المقابل أن يلجأ إلى القوّة أو إلى وسائل أخرى لفرض نتائج التفاوض على الطرف الآخر، فهذا ليس تفاوضًا شريفًا ولا منسجمًا مع المبادئ السائدة على الدبلوماسيّة. من جملة هذه المبادئ مبدأ المساواة، ومبدأ احترام سيادة الطرف المقابل، ومبدأ الشفافيّة وقابليّة المحاسبة، ومبدأ المرونة المتبادلة، أي أن يُبدي الطرفان مرونةً لكي يصلا إلى نتيجةٍ قائمةٍ على قاعدة «الرّبح المتبادل». كذلك مبدأُ ثباتِ نتائج المفاوضات، فبعضُ المفاوضات تُجرى ولكن نتائجها لا تبقى، ومثال ذلك نراه بوضوح الآن في المفاوضات بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين؛ إذ يتفاوضون ويتوصّلون إلى نتائج، لكنّهم بعد ذلك ينقضونها، وكذلك الحال في لبنان أيضًا.
عليه، ثمّة مبادئ متعدّدة تُطرح في الدبلوماسيّة بوصفها أسسًا لأيّ تفاوضٍ منطقيّ وشريف. ثمّ ينبغي النظر في ما إذا كانت هذه المبادئ تُراعى في المفاوضات التي نريد إجراءها مع الطرف الأمريكي أو الأوروبي أم لا. قد رأينا عمليًّا أنّ الأمر لم يكن كذلك، فمثلًا شنّ السيّد ترامب هجومًا عسكريًّا أثناء سير المفاوضات، وهذا يتعارض مع مبادئ التفاوض. كذلك لم يلتزم الأوروبيّون بتعهّداتهم، فرغم أنّهم أنفسهم توصّلوا إلى نتيجةٍ مفادها أنّ على إيران أن تقبل «صفر تخصيب»، عادوا وادّعوا ضرورةَ العودة إلى الاتفاق النوويّ وتفعيل «آليّة الزّناد». هذه كلّها مخالفةٌ للمبادئ التي تُطرح في لغة الدبلوماسيّة.
في رأيكم، ما التأثير الذي تركته حرب الأيام الإثني عشر في المسار النوويّ لإيران، وهل يمكن أصلًا في مثل هذه الظروف الحديثُ عن مفاوضاتٍ شريفةٍ مع الغرب؟
أوّلًا، عبر النتيجة التي توصّلنا إليها في المفاوضات الأخيرة، رأينا في الساحة النوويّة أنّهم لا يؤمنون بتفاوضٍ منطقي، بل يريدون فرضَ قيودٍ أوسع على إيران تتجاوز القضيّة النوويّة. من الطبيعيّ أنّ موضوعي الصواريخ والمقاومة ليسا من القضايا التي يمكن أن تدخل إيران في مفاوضاتٍ بشأنها. لذلك، لا خيار أمامنا إلّا أن نُبيّن منطقَنا للرأي العامّ، ونُعلن استعدادنا للتفاوض المبدئيّ، ولكن من دون أن نُسلِّم أنفسَنا لمثل هذه المفاوضات. مع ذلك، إنّ مفاوضينا قد بذلوا دائمًا جهدًا حقيقيًّا في ألّا يهربوا من ميدان التفاوض. في الزيارة الأخيرة للسيّد رئيس الجمهوريّة ووزير الخارجيّة إلى نيويورك، جرت محاولاتٌ كثيرة من أجل إجراء تفاوض سليم في اللحظات الأخيرة والوصول إلى نتيجة، ولكنّ الأطراف المقابلة رفضت. هذا يُظهر أنّ منطقَنا قويّ، أمّا منطقُهم، فليس كذلك، وهم يسعون إلى تحقيق أهدافهم باللجوء إلى الغطرسة والقوّة.
عبر نظرةٍ عامّة إلى مسار الدبلوماسيّة في ما يتعلّق بالملفّ النوويّ - الذي مضى على عمره أكثر من عقدين من الزمن - إلى أيّ حدٍّ وبأيّ أسلوبٍ تمكّنت الجمهوريّة الإسلاميّة من توظيف الطاقات والإمكانات الدوليّة والإقليميّة في إدارة هذا الملفّ؟ وذلك مع الالتفات إلى أنّ هذا الملفّ خضع في المدد المختلفة لأنماطٍ متعدّدةٍ من الإدارة.
كما ذكرتُ، إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة لم تتهرّب يومًا من الدبلوماسيّة والتفاوض. في عهد حكومة السيّد خاتمي، بدأت المفاوضات النوويّة مع الأوروبيّين، وكانت المفاوضات تسير قُدُمًا، ولكنّهم مارسوا الجشع في مطالبهم. في سعد آباد، حين جاؤوا والتقوا بالشيخ روحاني وتفاوضوا معه، قالوا: علّقوا عمليّة التخصيب حتّى نتوصّل إلى نتيجةٍ مُرضيةٍ للطرفين. حسنًا، علّقنا التخصيب، ولكنّهم قالوا يجب أن نحصل على ضمانٍ عينيٍّ وملموس بأنّكم لا تسعون وراء السلاح النوويّ. قلنا نحن أيضًا نريد ضمانًا قويًّا على أنّكم سترفعون العقوبات، ولكن في الواقع لم يكونوا مستعدّين لرفع العقوبات، بل كانوا يريدون أن يتحوّل هذا التجميد إلى توقّفٍ دائم. لذلك، في الأيّام الأخيرة من رئاسة السيّد خاتمي، كُسِر التجميد، لأنّه رأى أنّ استمرار هذا المسار لن يُفضي إلى نتيجة، وأنّهم كانوا يريدون فقط فرض وقفٍ دائمٍ للتخصيب على إيران.
قال الإمام الخامنئي أيضًا إنّ التخصيب ينبغي أن ينطلق مجدّدًا من الحكومة نفسها التي توقّف فيها.
كما ذكرتُ، توصّل الجميع في حكومة السيّد خاتمي إلى قناعةٍ بأنّ مواصلة هذا المسار لن تؤدّي إلى أيّ نتيجة، بل ستؤدّي فقط إلى تضييع حقوق الجمهوريّة الإسلاميّة، ولذلك كُسِرَ التجميد، وأُعيد تشغيل المنشآت النوويّة في مركز يو.سي.إف أصفهان، وعلى هذا النحو بدأت مرحلةٌ جديدة، لأنّ عزّة الجمهوريّة الإسلاميّة وكرامتها كانتا تقتضيان ألّا نرضخ للغطرسة أو للألاعيب السياسيّة التي كانوا يمارسونها.
في المراحل اللاحقة، وبما أنّه كان يُشعَر بوجود استعدادٍ لتفاوض حقيقي، جرت في عهد الشيخ روحاني مفاوضاتُ الاتفاق النوويّ وتوصّلَت إلى نتائج، ولكنّنا رأينا على أرض الواقع أنّ الأمريكيّين لم يتعاونوا منذ البداية، ثمّ انسحبوا من المفاوضات في عهد ترامب، كما إنّ الأوروبيّين لم ينفّذوا التزاماتهم. هذا يُظهِر أنّه وإن كان ينبغي لنا ألا نهرب من المفاوضات، ويجب أن نحضر إلى طاولة الحوار، فإنّه علينا في الوقت نفسه أن نحذر من أن تُفرَض علينا إملاءات، وأن نتصدّى بحزمٍ إذا حاولوا فرض شيءٍ علينا. في التعاملات الأخيرة مع الأوروبيّين طويَ المسار نفسه، كنّا مستعدّين للتفاوض، ولكنّهم أرادوا أن يفرضوا شروطهم علينا. لقد وضعوا ثلاثة شروط لتأجيل تفعيل «آليّة الزناد» ستّة أشهر، وقد أبدينا مرونةً حتّى في هذا المجال، ولكنّهم لم يكونوا مستعدّين لقبول هذه البنود. إذا كانت المفاوضات قائمةً على مبادئ منطقيّة، وتُراعى فيها عزّة الجمهوريّة الإسلاميّة، فنحن مستعدّون للتفاوض، ونحن الآن أيضًا مستعدّون لذلك، بشرط أن تُحترم المبادئ الحاكمة على المفاوضات.
دكتور، لقد التقيتم في هذه العقود كثيرًا من الدبلوماسيّين الغربيّين. بناءً على خبرتكم ومعرفتكم الشخصيّة، أخبرونا ما الذي يدور فعلًا في أذهانهم حينما تعترف مؤسّساتهم الاستخباراتيّة في تقاريرها الرسميّة بأنّ الجمهوريّة الإسلاميّة لا تنوي إنتاج سلاحٍ نوويّ، ومع ذلك يواصلون تكرار هذه الاتّهامات في المسارات الدبلوماسيّة ويصرّون عليها؟
لا شكّ في أنّ لدينا قدرةً نوويّة، ولكنّ سياستنا كانت دائمًا شفّافة، وهي قائمةٌ على الفتوى التي أصدرها قائد الثورة الإسلاميّة والتي تُحرِّم إنتاج أسلحة الدمار الشامل واستخدامها. أمّا هم، فيظنّون أنّ هذه السياسة غير حقيقيّة، وأنّ إيران قد تسعى يومًا ما إلى امتلاك سلاحٍ نوويّ. في الواقع، هم لم يفهموا ثقافتنا، لأنّه عندما يصدر قائد الثورة الإسلاميّة فتوى، تكون واجبة التنفيذ، وعلى الجميع الالتزام بها. لقد سعينا بطرقٍ مختلفة إلى إثبات أنّ قرار الجمهوريّة الإسلاميّة لا يرتكز على السعي نحو السلاح النووي، ولذلك قلنا إنّنا سنتعاون إلى أقصى حدٍّ مع الوكالة، وحتّى نفّذنا عمليًّا البروتوكولات الإضافيّة (93+2) التي تتيح لممثّلي الوكالة فعل زياراتٍ مفاجئة وسريعة من دون إشعارٍ مسبق. هكذا وسائل التفتيش متوافرة، ولو أنّ إيران أرادت يومًا أن تتّجه نحو إنتاج سلاحٍ نوويّ، لكان المفتّشون سيكتشفون ذلك فورًا. الآن هم أنفسهم يقولون إنّ معلوماتهم لا تشير إلى أنّ إيران تسعى إلى امتلاك سلاحٍ نوويّ، وهذا بناءً على عمليات التفتيش والمعلومات التي يحصلون عليها. لكنّنا في الواقع لدينا خلافاتٌ جوهريّة مع أمريكا والغرب لا تقتصر على المسألة النوويّة، فمنذ انتصار الثورة وهذه الخلافات قائمة، ولذلك تُوظّفُ هذه القضايا أدوات ضغطٍ ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة ليبلغوا أهدافهم ويحلّوا مشكلاتهم.
بعض وسائل الإعلام الغربيّة، بل وبعض الأشخاص داخل البلاد أيضًا، يطرحون تساؤلًا مفاده: هل يستحقّ تخصيبُ اليورانيوم هذا الإصرار كلّه من جمهوريّة إيران الإسلاميّة؟ فهم يقولون إنّ تكاليفه وضغوطه الناتجة من العقوبات تفوق منافعه، وهذا الأمر لا يستحقّ هذا التحمّل للضغوط كلّه. ما هو ردّكم على هذا الرأي؟
التفتوا! إنّ سياسة الاعتماد على الذات هي من السياسات الأساسيّة لجمهوريّة إيران الإسلاميّة، أي أن يكون البلد في إدارة شؤونه غير معتمدٍ على الآخرين. على سبيل المثال، في مجال الصواريخ والمعدّات والأسلحة العسكريّة، كانت هذه السياسة هي السبب في أن تمتلك الجمهوريّة الإسلاميّة اليوم القدرة على الإنتاج الذاتي، والاستخدام الذاتي، والدفاع الذاتي، فلو كانت إيران في هذا المجال معتمدةً على الدول الأخرى، لكانت قد واجهت مشكلات جمّة. هذا الأمر ينطبق أيضًا على مجال الطاقة والتكنولوجيا النوويّة. صحيحٌ أنّنا بلدٌ نفطيّ، ولكن النفط في نهاية المطاف سينفد، ولذلك ينبغي أن نطوّر في أنفسنا القدرة على تأمين الطاقة عبر مسارات أخرى، ومن بين هذه المسارات الطاقة النوويّة. لإنشاء محطّاتٍ نوويّة لا بدّ من اكتساب القدرة التقنيّة لذلك. نحن الآن نسير في هذا الاتجاه حتّى نتمكّن من بناء محطّاتٍ أصغر بأيدينا، لأنّ الدول التي تبني محطّاتٍ في بلدٍ ما، هي التي تؤمّن وقودها أيضًا. إذًا، إذا أردنا الاستقلال، يجب أن ننتج الوقود بأنفسنا، وإلّا فسنعتمد على الآخرين، وهذه التبعيّة ستتحوّل إلى أداة ضغطٍ علينا. بالنظر إلى السياسة العقلانيّة للجمهوريّة الإسلاميّة الهادفة إلى إنتاج عشرين ألف ميغاواط من الكهرباء النوويّة في المستقبل - هي عمليّة تستغرق وقتًا طويلًا - يجب أن نفكّر من الآن في تأمين وقودها. لذلك إنّ تخصيب اليورانيوم هو «حقٌّ ثابت ومسلّم به» لبلدنا، ولا يمكن التنازل عنه أو الاعتماد فيه على الآخرين، فهذه مصلحة البلاد.
حضرة الدكتورن لدينا بعض الأسئلة عن حرب الاثني عشر يومًا. إلى أيّ مدى كنتم تتوقّعون شخصيًّا احتمال حدوث مثل هذا الهجوم مسبقًا؟
على أيّ حال، كان الشعور قائمًا بأنّ "الإسرائيليين" سيهاجموننا في مرحلة ما. طبعًا لم يُلمس هذا الأمر أثناء المفاوضات، ولكنّهم بادروا إلى شنّ الهجوم. طبعًا، لقد ارتكبوا خطًا، لأنّهم رأوا أنّنا ردَدنا فورًا وبقوّة ساحقة حتى اضطرّوا إلى طلب وقف إطلاق النار. في عالم السياسة والدفاع عن البلاد، يمكن توقّع مثل هذه الأحداث، ما يهمّ هو استعدادنا لأيّ طارئ قد يحدث. لحسن الحظ، بفضل سياسة الاعتماد على الذات والعزم الراسخ للمجاهدين في البلاد، يظلّ هذا الاستعداد متوافرًا دائمًا.
حضرة الدكتور، أنتم تملكون تجربة طويلةً في «الحرب المفروضة» التي استمرّت ثماني سنوات، أليس كذلك؟
نعم، كنتُ آنذاك مسؤول هيئة الدعاية والإعلام الحربي.
أنتم شاركتم في مفاوضات وقف إطلاق النار بين إيران والعراق، وفي المفاوضات مع الحكومة العراقية آنذاك. نودّ أن نعرف من وجهتكم، سواء من الناحية الدبلوماسية أو العسكرية، ما أوجه الشبه والاختلاف بين حرب السنوات الثماني وحرب الأيام الاثني عشر؟
حرب الأيام الاثني عشر كانت تشبه حرب السنوات الثماني في جوانب كثيرة، كما كانت تختلف عنها في نقاط أساسية. من حيث أوجه الشبه، في كلتا الحربين كنّا نعتمد على أنفسنا، وكنّا نوفّر الأسلحة التي نحتاج إليها بالإمكانات المتاحة. طبعًا، في حرب السنوات الثماني، كانت توجد في إيران أسلحة كثيرة، ولكن كان علينا أن ننتج بأنفسنا أيضًا ونستخدم ما ننتجه. أمّا الدافع والإرادة في الدفاع عن الوطن، واستعداد المجاهدين في سبيل الإسلام الذين كانوا يحضرون في الميدان بروحٍ عالية، فقد برزت بوضوح في كلتا الحربين. كذلك كان الدعم الشعبي عنصرًا حاسمًا، ففي حرب السنوات الثماني كان هذا الدعم الشعبي هو الذي مكّننا من مواصلة القتال، إذ كان الناس حاضرين في الجبهة وخلفها معًا. في حرب الأيام الاثني عشر أيضًا كان الانسجام الوطني والدعم الشعبي عاملًا بالغ الأهمية. هذه كانت أوجه الشبه بين الحربين.
أما من حيث الفروقات، فقد تغيّر نموذج الحرب على نحو جذري. في حرب السنوات الثماني، كانت الحروب على نحو رئيسي صناعيّة ومعتمدة على القوّة البشريّة في الميدان. كان العدوّ موجودًا في الجبهة، وكان جنودنا في الجبهة المقابلة. عُبّئ الشعب وكان القتال وجهًا إلى وجه مع العدو. الأدوات الرئيسية للحرب في ذلك الوقت كانت الصناعة العسكرية، والمدافع، والدبابات، والأسلحة الثقيلة. لذا كان النموذج السائد في تلك المدة يعتمد على الصناعة في الحروب، بينما اليوم أصبح الأمر مختلفًا. الآن، أصبح النموذج السائد في الحروب يعتمد على المعلومات والتكنولوجيا. أصبح الحصول على المعلومات أمرًا بالغ الأهمية، وهو يعتمد على نحو كبير على التقنيات الحديثة. اليوم يُستخدَم الذكاء الاصطناعي في الحروب لتشخيص الأهداف، واتخاذ القرارات، ثم تنفيذها. بمعنى آخر، أصبح الذكاء الاصطناعي يحدد ويقرر ويعمل بدلًا من الإنسان، ما يجعل النموذج الحربي ينتقل من الصناعي إلى الحروب المعتمدة على المعلومات والذكاء الاصطناعي، وهو تحوّل كبير جدًا.
الفرق الآخر هو أننا في هذه الحرب كنا معتمدين على أسلحتنا، أما "الإسرائيليون"، فكانوا معتمدين على أسلحة أجنبية. لم تكن "إسرائيل" وحيدة، فقد ساعدتها دول غربية وكانت طائراتها وراداراتها حاضرة في الميدان. علي سبيل المثال، أرسلت أمريكا أنظمة رادار «تاد» لتعقب صواريخنا. أي، بالفعل كان هناك حضور فيزيكي لدول أخرى في الساحة، أما نحن، فكنّا معتمدين تمامًا على أنفسنا ولم يساعدنا أحد. كما اعتمدوا كذلك في الجانب الاستخباراتي على جهات أخرى. "الإسرائيليون" لديهم أنظمة معلومات خاصة بهم، مثل نظام «كاسبل» لتحديد المواقع ونظام «لافندر» لجمع معلومات الأفراد. بالإضافة إلى ذلك، استخدموا أنظمة «الناتو» والدول الغربية، وكانوا يدمجون هذه البيانات ويحللونها بمساعدة الذكاء الاصطناعي للوصول إلى استنتاجات ثم العمل على أساسها، وقد شكّل ذلك تحولًا جديدًا في الحروب. طبعًا، نحن نسير في المسار نفسه لكي نستفيد أكثر من النموذج المعلوماتي والحروب المعرفية ونتمكن من مواجهة الأعداء. لذا، يمكن مشاهد أوجه شبه وفروقات كثيرة بين حرب الاثني عشر يومًا وحرب السنوات ثماني.
في رأيكم، ما هي نقطة القوة الرئيسية لإدارة قائد الثورة الإسلامية في حرب الأيام الاثني عشر الأخيرة؟
لقد رأيتم أنه عندما هاجموا واغتالوا بعض كبار قادتنا العسكريين، أعلن سماحته بدلائهم فورًا بصفته القائد العام للقوات، وظهر بنفسه في الساحة لتبيين مسائل الحرب. في الواقع، تلك الرسائل التلفزيونية الثلاث التي أرسلها سماحته بثّت الطمأنينة بين الناس وأظهرت أن كل شيء تحت السيطرة. ما كان هدفهم؟ كان هدفهم أن تنهار منظومتنا الدفاعية بضرب قادتنا العسكريين، ولكن تعيين البدلاء فورًا حال دون تحقيق هذا الهدف. كما خفّت الآثار الاجتماعية لهذه الحرب عبر حضور القيادة للحديث إلى الناس، وعادت الطمأنينة إلى الشعب. عليه، لقد أنجز سماحته بصفته القائد العام للقوات مسؤولياته في هذه الحرب على أكمل وجه.
رغم الدعم الشامل الذي قدّمته أمريكا وبعض الدول الغربية و«الناتو» إلى الكيان الصهيوني، وبينما كان الكيان يتحدث باستمرار عن تفوّقه العسكري، ما العامل الذي جعل هذا الكيان في النهاية يقبل بوقف إطلاق النار بعد اثني عشر يومًا؟
على أي حال، وُجه ضغط كبير إلى "إسرائيل". كانت هجماتنا الصاروخية فعّالة وواجهت "إسرائيل" تحديات كثيرة داخل الأراضي المحتلة. انظروا! تسيطر "إسرائيل" على أرض صغيرة، وهذا يختلف كثيرًا عن الجمهورية الإسلامية التي تمتد على مساحة شاسعة، لذلك، الضرر الذي يلحق بتلك الأرض الصغيرة يمكن أن يكون نسبيًا أكبر. من الناحية الداخلية وكذلك من حيث تكاليف الحرب، تعلمون أنّه لم يكُن مكلفًا علينا كثيرًا، لأننا ننتج بأنفسنا، أمّا "الإسرائيليون"، فكان عليهم الحصول على كثير من الأسلحة والذخائر التي يستخدمونها من أمريكا وأوروبا، وطبعًا كان عليهم دفع الأموال، ما شكّل ضغطًا كبيرًا على اقتصاد الكيان. يُخمّن أنه نتيجةً لهذه الحرب التي امتدت اثني عشر يومًا بلغت تكلفة الحرب المباشرة على "إسرائيل" حوالى 2.4 مليار دولار، طبعًا مع وجود تكاليف غير مباشرة أخرى لا تقل أهمية. يبلغ سعر كل صاروخ من صواريخ «تاد» التي قدّمتها أمريكا لهم 12 مليون دولار. انظروا، احسبوا بأنفسكم، عندما أطلقنا هذا العدد الكبير من الصواريخ إلى "إسرائيل"، حتى لو استُهلك صاروخ واحد فقط من هذه الصواريخ لكل حالة، فإن هذه التكلفة في حد ذاتها تعدّ كبيرة جدًا. لذلك، كانت هذه الضغوط - سواء الضغوط الاقتصادية أو الضغوط النفسية داخل الأرض المحتلة نفسها - فعّالة ومؤثرة.
بالإضافة إلى ذلك، لم يرغب الأمريكيون في أن تستمر الحرب وتتوسع إلى المنطقة ويصبحوا أكثر تورطًا، لأن مصالحهم لم تكن تقتضي ذلك. لهذا، طلبوا وقف إطلاق النار. نحن أيضًا قلنا منذ البداية إن لم يهاجموا، فلن نستمر، لذلك، نحن أيضًا أوقفنا الحرب.
في رأيكم، إذا أرادت إيران أن تستخلص بصورة عامة من هذه الحرب التي امتدت اثني عشر يومًا عددًا من الدروس، فماذا تكون هذه الدروس؟
الأول، أن تظل محافظة على اعتمادها على نفسها. الثاني، أن تبرع في النموذج الجديد للحروب الذي هو الحرب المعلوماتية والمعرفية لتتمكّن من الردّ على الأعداء. الثالث، أن تحافظ على الاعتماد على الشعب والانسجام الوطني الذي تشكّل في المجتمع، إذ يكون الناس، بكونهم السند الأساسي للدولة، داعمين لإجراءات الجمهورية الإسلامية. عندما يكون الناس حاضرين، تستطيعون أن تدافعوا على نحو أفضل وأقوى أمام الأعداء. جهود الأجانب كلها تهدف إلى ضرب انسجامنا الوطني وإبعاد الناس عن مساندة النظام. أمّا إذا حافظنا على اعتمادنا على الشعب وقدراتنا وبرعنا في نماذج الحروب الحديثة، فسنتمكّن جيدًا من الدفاع عن هويّتنا وكرامتنا وسيادتنا.
اليوم، يواجه "الإسرائيليون" في مجال الرأي العام، سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي، وضعًا غير مسبوق حقًا. ما هو تحليلكم لهذا الوضع، وما أثر هذه الظروف في مستقبل فلسطين والكيان الصهيوني ومصيرهما؟
نعم، لم يسبق لـ"إسرائيل" أن واجهت مثل هذا الكم من البغض. فعلًا، اليوم العالم كله يبغض "إسرائيل"، حتى في أمريكا نفسها. وفقًا لإحصاءات نشرتها مؤسّسة «غالوب» أخيرًا، فإن 32% فقط من شعب أمريكا يؤيدون عمليّات "إسرائيل" في غزة ويؤيدون أيضًا دعم أمريكا لـ"إسرائيل"، وهذا رقم منخفض جدًا. طبعًا هناك اختلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين، ولكن إجمالًا، فقط 32% يؤديونها. في الدول الأوروبية أيضًا نشهد يوميًا تظاهرات ضد الكيان، وحقًا الناس يدعمون فلسطين بصورة واضحة. لم يسبق في تاريخ فلسطين أن وجدت هذه الدرجة من الدعم لنضال الشعب الفلسطيني، وهذا نتيجة لحجم الجرائم الكبيرة التي يرتكبها الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين. يكفي أن نلقي نظرة على الوضع اليومي في غزة، إنه مفجع حقًا. لذلك، تواجه "إسرائيل" تحديات مهمة. طبعًا، هذا الكيان معتمد على القوى الكبرى، معتمد على أوروبا وأمريكا. أظهرت أمريكا أيضًا أنّها في الأساس غير ملتزمة بالأدوات والمنظمات الدولية وتسخّفها، كما رأينا، لقد سخّفت المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، بل وحتى انسحبت من «اليونسكو».
وفرضوا عليها عقوبات!
نعم، يفرضون العقوبات! هذا يظهر أنّ ترامب يعمل في نموذج جديد ويريد فرض قوّته على العالم على نحو أحادي. حسنًا، بالاعتماد على هذه الأمور يمارسون هذا الظلم. لكننا نأمل أنّه مع هذا التأييد الشعبي الذي نشهده اليوم في الرأي العام، ستتوقف هذه الحرب في النهاية، وإن شاء الله يمكن اتخاذ خطوات تتيح للفلسطينيين نيل حقوقهم.
من وجهة نظركم، ما هو الخطر الرئيسي لوجود الكيان الصهيوني على المنطقة والعالم؟
النقطة التي أريد تأكيدها هي هدف "إسرائيل" في المنطقة وعلى المستوى الدولي. إذ يرى "الإسرائيليون" لنفسهم حقًّا استنادًا إلى أساطير التوراة، أولًا، أنّه يجب أن يكون لهم أرض واسعة، أي ما يُعرف بمشروع "إسرائيل" الكبرى"، ويدّعون أنّه يجب أن تمتد من النيل إلى الفرات. قد قال بن غوريون - أوّل رئيس وزراء في "إسرائيل" - أنّ "إسرائيل الكبرى" يجب أن تتحقق من النيل إلى الفرات. قال موشه دايان - الذي كان سياسيًا وقائدًا في جيشهم - عندما استولوا على مرتفعات الجولان إنّ الجيل الأوّل منا أسّس "إسرائيل"، واليوم تمكّنّا من توسيع "أرض إسرائيل" وإن الأجيال القادمة ستحقّق سياسة "من النيل إلى الفرات"، ذلك كلّه يدلّ على وجود مشروع طويل الأمد لدى الكيان الصهيوني للمنطقة وللعالم. لدى الكيان الصهيوني بروتوكول مكوّن من أربع وعشرين مادة أعدّه لهم الماسونيون، وتظهر فيه سياساتهم طويلة الأمد بوضوح.
الصهاينة يدّعون الحُكم العالمي ويريدون يومًا أن يسيطروا على العالم، وفي هذا المسار يؤمنون بـ"العنف المقدّس" تمامًا كما تفعل «داعش»، فكما إن «داعش» كانت ترى كل وسيلة مباحة لتحقيق أهدافها، فإنّ الكيان الصهيوني يتبنّى النهج نفسه. هناك جماعات متطرّفة بينهم، مثل جماعة "غوش إيمونيم"، تمارس ذلك حرفيًا: تهاجم أراضي الفلسطينيين وتغتصب بيوتهم وأراضيهم وتمارس القتل، هذه هي عقيدة "العنف المقدّس" المطبَّق على أرض الواقع.
لذلك يجب أن نكون يقظين أمام مشاريع الكيان الصهيوني المستقبلية للمنطقة وحتى للعالم، فهم رغم كونهم أقلية صغيرة يريدون بالاعتماد على القوى الكبرى أن يستولوا على المنطقة والعالم، ولذا يجب أن نكون مستعدين للمقاومة منذ الآن.
شكرًا جزيلًا لكم، حضرة الدكتور خرازي، إذا كان لديكم نقطة ترغبون في اختتام حديث اليوم بها، موجهةً إلى الشعب الإيراني، تفضّلوا.
أتمنى أن ينصر الله الشعب الإيراني ليظلّ صامدًا أمام غطرسة الأجانب، ويسعى جاهدًا حتى نحقق، إن شاء الله، إيران مزدهرة وشامخة.