لو قُدِّر للعاصمة السودانية الخرطوم أن تنطق، لكنت سألتها عن يوم اجتمع فيه القادة العرب وقالوا ثلاث لاءات. حدث ذلك بعد نكسة حزيران عام 67؛ حين انعقدت القمة العربية في العاصمة السودانية وأطلق القادة العرب لاءاتهم الثلاث "لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات معها". موقفٌ عربيٌ جاء كردة فعلٍ على قيام الكيان الإسرائيلي بإحتلال فلسطين كاملة ومعها الجولان السوري وسيناء المصرية. في تلك الأيام كان جميع القادة العرب يرون الكيان الإسرائيلي عدواً ظالماً احتل وقتل وسرق واغتصب.
لقد فعلها السادات وشرَّع باب الإعتراف والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي ووقَّع اتفاقية كامب ديفيد مع هذا الكيان ليُخرج مصر من دائرة الصراع العربي- الإسرائيلي
وما هي إلا سنواتٌ قليلةٌ حتى تغيرت هذه النظرة عند البعض، ليشهد العالم أجمع عام 1979 زيارة الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات إلى الكيان الإسرائيلي ومصافحته قادة هذا الكيان والذين كانوا للأمس القريب أعداءه الذين سفكوا دماء آلاف الأبرياء من فلسطينيين ومصريين وغيرهم. لقد فعلها السادات وشرَّع باب الإعتراف والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي ووقَّع اتفاقية كامب ديفيد مع هذا الكيان ليُخرج مصر "قائدة المشروع القومي العربي" من دائرة الصراع العربي- الإسرائيلي، ولتصبح مصر الدولة العربية الأولى التي تعترف بالكيان الإسرائيلي وتقيم علاقات رسمية معه.
ورويداً رويداً بدأ قادة الدول العربية بكسر حرمة التعامل مع الكيان الإسرائيلي، وبدأت اللاءات الثلاث تتحول إلى حبر على ورق أكثر منها عنوان وشعار مرحلة. وبدأ المواطن العربي يطالع كل فترة خبر زيارة أو لقاء مسؤول عربي هنا أو هناك بمسؤول آخر إسرائيلي، فدخل الأردن رسمياً على هذا الخط ووقع اتفاقية وادي عربة واعترف هو الآخر بإسرائيل "دولة رسمية" جارة له، وافتتحت تونس والمغرب مكاتب لتنسيق العلاقات التجارية والسياسية مع الكيان الإسرائيلي.
غالباً ما كانت تترافق كل خطوة للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي بردات فعل عربية رسمية وجماهيرية غاضبة.
غالباً ما كانت تترافق كل خطوة للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي بردات فعل عربية رسمية وجماهيرية غاضبة. كانت الشعوب العربية تُعبِّر عن إستنكارها ورفضها لهذه العطاءات المجانية التي تُقَّدمُ لمغتصبي فلسطين. وتستغرب كيف يُبيح بعض المسؤولين العرب لأنفسهم الإعتراف بلصٍ جاء من أقصى الدنيا واغتصب أرضاً عربيةً وإسلاميةً بقوة السلاح. لم تكن الشعوب العربية حينها تستطيع تقبُّل هذا الذل والعار الذي اختار بعض القادة العرب أن يلطخوا به وجه دولهم.
أخيراً قرأ العرب والمسلمون خبر زيارة الضابط السعودي أنور عشقي لكيان الإحتلال وإجرائه عدة لقاءات جمعته مع مسؤولين إسرائيليين حاليين وسابقيين، هذه الزيارة التي ما كانت لتحدث لولا رضا السلطات السعودية ووقوفهم وراءها. تفرَّدت عن مثيلاتها بميزتين أساسيتين: أولهما علنيتها حيث جاهر الضابط السعودي بزيارته ونشر صوراً تجمعه مع بعض الإسرائيليين الذين التقاهم خلال "إنجازه الإستراتيجي".
ترافقت زيارة الضابط السعودي العلنية وقبلها لقاءات الأمير تركي الفيصل مع مسؤولين إسرائيليين بصمتٍ عربي وردود فعلٍ خجولة لا تكاد تذكر
وأما الميزة الثانية التي تفردت بها هذه الزيارة فهي الصمت العربي الرسمي والشعبي الذي قابلها، صمتٌ موحشٌ وغريب؛ ففي الوقت الذي قابل جُلُّ العرب زيارة السادات لكيان الإحتلال بإستهجانٍ عظيم ورفضٍ قاطع دفع القادة العرب لتعليق عضوية مصر في جامعة الدول العربية ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس ومقاطعة مصر بشكل عام. ترافقت زيارة الضابط السعودي العلنية وقبلها لقاءات الأمير تركي الفيصل مع مسؤولين إسرائيليين بصمتٍ عربي وردود فعلٍ خجولة لا تكاد تذكر. صمتت وسائل الإعلام العربية وصمت معها معظم شيوخ ودعاة الخليج !
وسائل الإعلام هذه والتي لم تتورع عن نشر فتاوى التكفير وقطع الرؤوس التي أغدق علينا بها ما يسمون أنفسهم "علماء الوهابية" لاذت بالصمت، وكأن شيئاً لم يحدث ومسؤولٌ عربيٌ ينتمي لدولة تدعي أنها أكبر الدول العربية والإسلامية وحاضنة العروبة والإسلام والمدافع عن أقدس قدسيات الإسلام لم يقم بزيارة عدو الأمة الأول "إسرائيل".
يقول قائد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي الخامنئي في معرض تعليقه على الخطوة السعودية هذه "إن تجاهر النظام السعودي بعلاقاته مع الكيان الصهيوني بشكل علني هو طعنة في ظهر الأمة الإسلامية وإن فِعل السعوديين هذا يعتبر ذنباً كبيراً وخيانةً عظمى."
لقد وصف سماحته هذه الزيارة بأنها خيانةٌ وطعنةٌ في ظهر الأمة الإسلامية، حيث لا يحلُّ لمن يريد قيادة العالم الإسلامي، ويدّعي رفع لواء الإسلام، أن يبادر لبيع الحقوق الإسلامية، ويصافح قتلة المسلمين وشاربي دمائهم. متناسياً مظلومية وجراح آلاف الأبرياء الذين عانوا من ممارسات هذه الغدة السرطانية على مدى أكثر من 65 عاماً.
هذه الخطوة السعودية هي دعوةٌ لبقية الأنظمة العربية لسلك هذا الطريق ومدِّ اليد للقاتل الإسرائيلي
السعودية عندما قامت بهذا العمل، مهدت الطريق لزيارات لاحقة ولمفاوضات مباشرة تلد لنا اتفاقية شبيهة بكامب ديفيد، تُفرِّطُ بالحقوق العربية والإسلامية وتزيدها ضياعاً على ضياعها. وهي في نفس الوقت دعوة لبقية الأنظمة العربية لسلك هذا الطريق ومدِّ اليد للقاتل الإسرائيلي ليكون صديقاّ وجاراً مرحباً به في وسط جسد الأمة العربية والإسلامية.
وهنا يأتي السؤال في الوقت الذي تعيش فيه إسرائيل أسوأ سنوات عمرها وبعد انسحابها من لبنان وغزة ذليلةً منكسرة، وبعد الهزائم العديدة التي مُنيت بها في تموز 2006 وغزة 2008 و2012 و2014 على أيدي المقاومين في لبنان وفلسطين. نرى بعض العرب يسارعون لطمأنة إسرائيل على مستقبلها وتقديم الضمانات المجانية لها بإعترافهم بها وتطبيع علاقاتهم معها. إنه لمن سخريات القدر عندما شرع الإسرائيلي نفسه في التشكيك بإمكانية بقائه في المنطقة، أن يبادر بعض القادة العرب والمسلمين لتبديد هذه الشكوك، وكأن لسان حالهم يقول لها: "لا تخافي نحن معك ولن ندع مجموعةً من المقاومين يُهددون وجودك"
ألا ينبغي في هذا اليوم ونحن نرى فتاوى التكفير والقتل وسفك الدماء تعصف بالعالمين العربي والإسلامي، أن ينتبه علماء هذه الأمة وشبابها ومثقفوها والوطنيون فيها إلى حجم هذه المؤامرة والتي يراد منها القضاء على كل معالم اليقظة العربية والإسلامية وإحالتها سكوناً ذليلاً يسمح للكيان الإسرائيلي بالتوسع والتمدد والتهام ما تبقى من شرفٍ عربي وإسلامي. لا أستطيع في هذا المقام إلا أن أستذكر بيت الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي والذي قال "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر"، نعم إذا ما قررت الشعوب العربية والإسلامية واستيقظت من رقادها هذا وتنبهت إلى حجم ما يُدَّبرُ لها، فإنه بمقدورها أن تغير القدر، وأن تقلب الطاولة على كل من يريد إضاعة حقوق هذه الأمة والتفريط بترابها ومقدساتها ودماء شهدائها.