یقول الله عزَّ وجلَّ في محكم تنزيله "وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا"(1) حيث افترض الله على المسلمين كافة فريضة الحج وغدت ركناً من أركان الإسلام الخمسة التي ينبغي على كل مسلم أداءها في حال استطاعته. في الحج شعيرةٌ واجبةٌ لا يصح الحج من دون القيام بها وهي رجم الشيطان الرجيم؛ فيرمي الحاج الشيطان بعدة حصى، ولربما تساءل معظمنا لماذا يتوجب على كل حاج أن يقوم بهذه الشعيرة؟ وما المعنى منها؟ ولربما يكون الجواب الأبسط على هذا السؤال هو التالي: إن الحاج يقوم بهذه الشعيرة ليعلن البراءة من الشيطان الرجيم وإخلاصه للواحد الأحد، إنه بعد أن تطوَّف بالبيت العتيق وحمد الله وأثنى عليه جاء إلى موضع ظهور الشيطان للنبي إبراهيم (ع) ليرجمه ويعلن براءته منه وهذا ما أبغي الوصول إليه في مقالي هذا.

كيف لمسلم أن يتبرأ ويرجم شيطان الجن ويغفل عن شيطان الإنس المتمثل بكل ظالم ومستكبر. وهنا تغدو فريضة الحج فريضةً سياسيةً بإمتياز

البراءة من الشيطان سواءً شيطان الإنس أم الجن، شعيرةٌ لا يصح حج المسلم من دونها. الحاج يقول الله أكبر ويرجم الشيطان بالحصى ليحطم بذلك شيطان نفسه. ولكن ماذا عن شياطين الإنس؟ ماذا عن القتلة والمجرمين والمتكبرين والظالمين؟ ألا يفترض بكل مسلم أن يعلن البراءة من هذه الشياطين؟ كيف لمسلم أن يتبرأ ويرجم شيطان الجن ويغفل عن شيطان الإنس المتمثل بكل ظالم ومستكبر. وهنا تغدو فريضة الحج فريضةً سياسيةً بإمتياز. فمنذ حج الوداع الذي أداه نبي الرحمة محمد (ص) لم يكن الحج وهذا الإجتماع الأعظم للمسلمين في مكة المكرمة مهبط الوحي ومنبع الإسلام إلا فريضةً عباديةً وسياسيةً، يجتمع خلالها المسلمون، يظهرون قوتهم ووحدتهم واجتماع كلمتهم، لباسهم واحد ومناسكهم واحدة وصلاتهم وقرآنهم وقبلتهم واحدة. وهنا يأتي السؤال الأهم لماذا يخشى القائمون على الحرمين الشريفين "تسييس الحج" بحسب إدعائهم؟ وما العيب الكامن في "تسييس الحج"؟ ولنتحقق، ألا يقومون هم بما يتهمون غيرهم به؟

تتذرع السلطات السعودية بمنع تسييس الحج، من أجل القيام بتفريغ هذه الفريضة العظيمة من كل ما قد يؤرق مستكبري العالم، وما قيام السعودية بالقمع الوحشي لمسيرة الحجاج السلمية عام 1987م واستشهاد أكثر من 402 حاج بلباس الإحرام في مكة المكرمة لا لجرم اقترفوه إلا أنهم قالوا لا للشيطان، ما هو إلا دليلٌ واضحٌ على سعي هذه السلطات لقمع كل حراكٍ وصحوةٍ تحاول إعادة العظمة والهيبة لهذه الفريضة، التي من شأنها إذا ما تم إعطاؤها حقها أن توحد كلمة المسلمين وتقوي شوكتهم وترسل رسالاتٍ جمة لكل أعداء هذا الدين الحنيف أن المسلمين يقظون حاضرون لبذل كل غالٍ ونفيسٍ من أجل دينهم وكرامتهم.

تتذرع السلطات السعودية بمنع تسييس الحج، من أجل القيام بتفريغ هذه الفريضة العظيمة من كل ما قد يؤرق مستكبري العالم، وما قيام السعودية بالقمع الوحشي لمسيرة الحجاج السلمية عام 1987م ...إلا دليلٌ واضحٌ على سعي هذه السلطات لقمع كل حراكٍ وصحوةٍ تحاول إعادة العظمة والهيبة لهذه الفريضة

في نداء الحج هذا العام أعلن قائد الثورة الإسلامية الإمام الخامنئي أن الحج مظهر"أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ"(2) وأنه موطن البراءة من المشركين، والألفة والوحدة مع المؤمنين. حيث دعا سماحته مسلمي العالم إلى استعادة المعنى الحقيقي للحج، وعدم الانسياق مع من يريدون تحويله لمجرد رحلة بهدف السياحة أو الزيارة. الجمهورية الإسلامية ممثلةً بقائدها الإمام الخامنئي تريد للحج أن يكون نموذجاً لوحدة الأمة الإسلامية وقوتها واجتماع شملها. تريد منه أن يكون صفعةً مؤلمةً يوجهها مسلمو العالم لوجه كل مستكبر وظالم على هذه الأرض وعلى رأسهم الشيطان الأكبر أمريكا وربيبتها الغاصبة إسرائيل. الجمهورية الإسلامية تريد للحج أن يكون مناسبة لإسترجاع ثوابت هذه الأمة وأولها عروبة وإسلامية فلسطين، لنُذكر كل مسلم تَطَّهر من ذنوبه ومن شيطان نفسه، أن عليه أن يتطَّهر من شياطين هذه الدنيا المتمثلين بالطغاة والظلمة.

وبالعودة للسؤال الذي طرحناه سابقاً ألا يقوم بنو سعود أنفسهم "بتسييس الحج"، وإذا كان الجواب بالنفي فبماذا نستطيع تفسير خطبة مفتي السعودية عبد العزيز آل شيخ العام الماضي في عرفة والتي برَّر خلالها قصف طائرات السعودية لأراضي اليمن واستباحتها دماء أطفاله ونساءه، وبماذا نستطيع تفسير وصفه قسماً كبيراً وفريقاً مهماً من الأفرقاء اليمنيين بـ"الجماعة المجرمة الآثمة الظالمة" وما هو الذنب الذي اقترفته هذه الجماعة لتصبح بنظر القائد الديني للسعودية جماعةً مجرمةً آثمة ظالمة سوى أنها قالت الموت لأمريكا والموت لإسرائيل في وقت تقوم سلطات بلاده باستضافة القوات الأمريكية على أراضيها وعقد اللقاءات الحميمية مع قادتها وقادة الكيان الغاصب.

نعم السعودية لا تريد تسييس الحج بالمعنى الإيجابي؛ إنها لا تريد للحج أن يصبح المؤتمر الإسلامي الأعظم الذي يسلب القادة الأمريكيين والإسرائيليين راحتهم. ولكنها لا تمانع أن يتسيس الحج عندما يُراد من هذا التسييس تبرير قصف الطائرات لأراضي بلد عربي مسلم، وتدميرها كل معالمه الحضارية وإحالة شعبه بين شهيد وجريح ومهجَّر.

السعودية لا تريد تسييس الحج بالمعنى الإيجابي؛ إنها لا تريد للحج أن يصبح المؤتمر الإسلامي الأعظم الذي يسلب القادة الأمريكيين والإسرائيليين راحتهم

السعودية لا تسيس الحج ! ولكنها تمنع الحجاج السوريين منذ خمس سنوات من أداء هذه الفريضة؛ فقط لأنهم سوريون، ولأنهم ينتمون لبلد لا تروق سياساته المقاومة التي قالت لا لإسرائيل ونعم للمقاومة لا تروق هذه السياسة لحكامها وأمرائها. السعودية لا تسيس الحج إلا أنها تمنع الحجاج اليمنيين للعام الثاني على التوالي من أداء مناسكهم؛ لأنهم يريدون استقلال بلادهم، ولأنهم وقفوا في وجه هؤلاء الحكام وسادتهم الأمريكيين. السعودية لا تسيس الحج ولكنها منعت الحجاج الإيرانيين هذا العام وحالت دون أدائهم هذه الفريضة الإسلامية؛ لأنهم إيرانيون ينتمون لبلد اختار تبديل السفارة الإسرئيلية بسفارة فلسطين. وأعلنها جهاراً ونهاراً أنه سيدعم كل مجموعة تقف ضد إسرائيل وضد أمريكا، في حين يقف الكثير من قادة الدول العربية في صف الإنتظار على أمل أن يأذن لهم طاغية البيت الأبيض بزيارته ورؤية وجهه المخزي.

الحج في الحقيقة وكما قال الإمام الخامنئي في ندائه لحجاج بيت الله الحرام بمناسبة الحج، هو فرصةٌ لإعلان البراءة من المشركين والظالمين والطغاة، وهو فرصةٌ لإجماع الكلمة ووحدة الصف بين المسلمين، وكل محاولةٍ لتغيير حقيقة هذه الفريضة وحرفها ما هي إلا محاولاتٌ شيطانية يسعى الشياطين الصغار لتحقيقها كسباً لرضا الشياطين الكبار.

 

 

  1. سورة آل عمران، الآية 97.
  2. سورة الفتح، الآية 29 .