الكاتب: يوسف فارس

لا يعدو الكيان الصهيوني كونه واحداً من تجارب الاحتلال التي حفل بها تاريخ الشعب الفلسطيني، لكن المغاير في هذه التجربة هو قدر المساحة التي يفردها هذا الكيان للسيطرة على وعي الخصم. وأخيراً أصدر «معهد أبحاث الأمن القومي» في «جامعة تل أبيب»، و«معهد أبحاث منهج الاستخبارات» في «مركز تراث الاستخبارات»، كتاباً(1) يتضمن مجموعة من الدراسات التي ناقشت أهمية «حرب الوعي» في صراع الفلسطينيين مع الاحتلال. الكتاب حرره ضابطان سابقان في «شعبة الاستخبارات العسكرية» (أمان)، وقد أفرد مساحة واسعة للحديث عن الآليات والأدوات الواجب اتباعها لتوجيه وعي الخصم، وفي ذلك، يمكن أن ندرج هامشاً واسعاً من السلوكيات الصهيونية الإعلامية التي رافقت إعلان معاهدة التطبيع الإماراتية مع العدو. 

انقلاب على التاريخ
يظهر من تتبع نمطية التطبيع الإماراتي مع الكيان الصهيوني، التي يعكسها إعلام الطرفين، أن الكيان يحاول بهذا «المنجز» الترويج لحلمه الذي لم يتحقق في اتفاقيتي تطبيع سابقتين، إذ لم ينجح في اختراق المجتمع المصري(2)، بل ظلّ من وجهة نظر المصريين عدواً لا بد من مواجهته في معركة تحرير القدس يوماً ما، وسريعاً جاء اغتيال الرئيس المصري أنور السادات، عرّاب هذه الخطوة، ليقدم صورة أكثر قتامة، عن مصير من يجرؤ على اختراق الخطوط الحُمر المقدسة للشعوب خاصة أن تلك الاتفاقية لم تقنعها بأن الكيان الصهيوني صار مكوناً طبيعياً من مكونات المنطقة.
بقيت طلقات خالد الإسلامبولي – منفذ اغتيال السادات - تدوّي في أسماع الزعماء العرب أعواماً طويلة، والسادات الذي لم يجد من يرثيه أو يذكر مناقبه صار حاضراً في أذهان كل من يفكر في توقيع معاهدة مع الكيان الصهيوني. مع ذلك، بعد 16 عاماً من الاتفاقية المصرية مع العدو، تجرأ الملك الأردني حسين على خرق الجدر العربية وتوقيع اتفاقية مع الكيان(3). لكن ما صبغ هاتين الاتفاقيتين أنهما ظلتا غريبتين ومنبوذتين على الصعيد الشعبي بصورة حادة، وعلى النحو الرسمي العربي بصورة نسبية، فقد قاطعت دول عربية مصر في أعقاب «كامب ديفيد» قبل أن تعود العلاقات تدريجياً.
هذا السرد يعيدنا إلى الصورة التي يحاول الكيان الصهيوني اليوم تعويمها لاتفاقية التطبيع مع الإمارات العربية المتحدة. فمنذ اليوم الأول، حاول إعلام العدو الادعاء بأن هذا الاتفاق مخالف لسابقَيْه، وذلك بأنه يتجاوز كونه اتفاقاً مصلحياً أو أمنياً مع نظام وحكومة إلى أنه «اتفاق تطبيعي شامل»، بمعنى أن الشعب العربي المسلم في الإمارات صار مرحباً بالسياح الصهاينة في فنادقه، وأن المسلمين هناك سيزورون المسجد الأقصى المبارك عبر «مطار بن غوريون»، وما سبق هو واحد مثلاً من الأخبار التي نشرها الإعلام. وخلال الأيام الماضية ضج الإعلام الصهيوني بفيض هائل من المواد الإعلامية التي تضمنت زيارة صهاينة إلى الإمارات، واتصالات بين صهاينة في كيان العدو ومواطنين إماراتيين، وإعلان مبادرة لتعليم اللغة العبرية في الإمارات. وفي فيديو(4) نشرته صفحة عبر «تويتر» تدعى «إسرائيل في الخليج»، تسأل موظفة إسرائيلية مواطناً إماراتياً يدعى علي عن أول ما يفكر فيه عندما يسمع اسم «إسرائيل». فيجيب علي: «بالتطور والتقدم التكنولوجي»! بل تتجاوز الموظفة إلى استفزازها الجمهور المسلم والفلسطيني تحديداً عندما تسأل ذلك المواطن عن أكثر مدينة يرغب في زيارتها، فيجيب: «حيفا»!

ماذا يريد الكيان من هذا كله؟ 
يريد الكيان الصهيوني أن ينقلب على التاريخ، ويريد القول إنه صار مكوناً طبيعياً من مكونات المنطقة، ولم يعد كياناً مارقاً أو دولة مصطنعة، وإنه ولى الزمن الذي كان العرب يراه فيه عدواً، وصار تاريخاً من الماضي، رغم أن كل ذلك لا يمثل إلا طرفاً من الحقيقة، إذ إن الحقيقة الكاملة يمثلها الشعب العربي الذي يعيش في إمارات أصيلة، كالشارقة وعجمان، ويرفضون أن يعتدي أحد على فطرتهم الإسلامية، وأن يقيم «علاقات دافئة» مع الاحتلال. لكن أكثر من تستهدفهم هذه الحرب هم الفلسطينيون، لأن الرفض الفلسطيني لأي مخطط للإجهاز على القضية الفلسطينية، مهما كان حجمه وقوته، يعني فشله، وهذا ما حدث حينما رفض المستوى الشعبي والرسمي المخطط الأمريكي الذي حاول الرئيس دونالد ترامب أن يفرضه، والمعروف بـ«صفقة القرن».
خلال الأيام الأخيرة، كان ملاحظاً أن ثمة أصواتاً عربية شاذة تشارك في الحرب الصهيونية على الوعي، فقد احتفى الإعلام الصهيوني والأمريكي بتصريح الكاتب السعودي تركي الحمد الذي قال في تغريده عبر «تويتر» إن فلسطين ليست قضيته. أيضاً لاقى تصريح رئيس شرطة دبي السابق ضاحي خلفان، الذي قال فيه إن «إسرائيل ليست عدواً لنا، فهي لم تعتدِ علينا ولم تحتل أرضنا يوماً»(5)، احتفاءً في إعلام العدو. ولعل كل ما يقال يحمل هدفاً واحداً هو تعويم ثقافة الإحباط، والدفع بأصحاب الحق إلى قبول أدنى الحلول تحت ضغط التحولات العربية القائمة التي قبلت العدو بدورها. 
لا يريد الكيان الصهيوني للفلسطينيين أن يفقدوا الثقة بأشقائهم العرب فحسب، بل أن يحبطوا من جدوى كل فعل يمكن أن يساهم في هزيمة الكيان وتراجع مشروعه. ومن ذلك، يلاحظ أن إعلام عدد من الدول العربية والخليجية يساهم في حملة لتسفيه المقاومة، والتشكيك في جديتها، واتهامها بالطائفية، ووصمها بخراب الدول التي توجد فيها. وهنا تتجلى أكبر عملية تشويه للوعي وقلب للحقائق، حين يتسرب إلى عقول بعض العرب أن الفلسطينيين هم المشكلة وليس العدو، وأن المقاومة هي أسباب اضطراب الدول لا السياسات الأمريكية في الحصار والتجويع ومن خلفها الكيان الصهيوني وبعض الدول العربية.

«أي منقلب ينقلبون»
الحرب الصهيونية على الوعي العربي ليست جديدة، لكنها ليست مقدسة النتائج، أي أن هامش الفشل فيها كبير، بل كبير جداً، إذ تعيدنا مراجعة التاريخ إلى تتبع صورة جيش العدو منذ 1948 حتى 2000، ومنذ 2000 إلى اليوم. فما قبل 2000، كان الكيان الصهيوني يحافظ على صورة جيشه على أنه «جيش لا يقهر» وهزم الجيوش العربية كلها عام 1948، ثم هزم مصر والدول المساندة لها في ستة أيام عام 1967، ثم استعاد زمام المبادرة في حرب أكتوبر عام 1973. كل تلك «الانتصارات» تركت في الوعي العربي صورة نمطية عن العدو، لكن المنحى لصورة هذا الجيش بدأ التدهور منذ شرعت المقاومة الفلسطينية في عملياتها ضد الاحتلال، وأيضاً منذ انطلاق المقاومة اللبنانية في مطلع الثمانينيات، لكن نقطة التحول جاءت عام 2000 عندما هرب هذا الجيش من جنوب لبنان، فصار خطاب «بيت العنكبوت»، الذي ألقاه السيد حسن نصر الله من بلدة بنت جبيل، هو الهجوم الموضوعي المقابل لحروب الوعي، الذي ضرب العقل الجمعي الشعبي للصهاينة، وامتد ليفتك بعقول جنرالات المؤسسة الصهيونية. 
يقودنا ذلك إلى إعادة الاعتبار للخطاب الوطني والديني الذي يذكّر دائماً بحقيقة هذا الكيان، ذلك الخطاب الذي يزعج زعماء الكيان الصهيوني، ومنه خطاب الإمام علي الخامنئي، في الجمعة الأخيرة من رمضان الماضي، في ذكرى «يوم القدس العالمي»، حين أكد أن «إسرائيل غدة سرطانية في المنطقة ويجب استئصالها»، تلك الجملة التي ترافقت مع رسوم تبشّر بتحرير المسجد الأقصى، فأحدثت إرباكاً في الكيان، واستدعت أن يخرج رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن، بيني غانتس، في تصريحات تظهر عمق المأزق النفسي الذي يتسبب فيه خطاب كهذا. آنذاك قال نتنياهو: «إسرائيل جاهزة لأي تهديد»، ثم علق في مساء اليوم نفسه على صورة نشرتها صفحة القائد عبر «تويتر»، محاولاً استجرار عطف العالم بالربط بين «السياسات الإيرانية تجاه إسرائيل»، وبين «الممارسات النازية تجاه اليهود». 
 
خلاصة
يمتلك العرب والمسلمون القوة اللازمة لمواجهة الحرب الصهيونيّة على الوعي، فقضية فلسطين هي أكثر القضايا عدالة على الإطلاق، والقدس بكل ما تحمله من رمزية تمثل الوجع الذي يشعر المسلمون على اختلاف طوائفهم بوخزه في نفوسهم. إلى جانب كل ذلك من الجيد التذكير بأن عشرة أعوام من المواجهة الأمريكية مع محور المقاومة الممتد من طهران إلى العراق وسوريا واليمن ولبنان وغزة لم تفلح إلا في تمدد هذا المحور مساحة وحضوراً وتأثيراً، فضلاً عن أن أربعين عاماً من الهجمة الصهيونية على وعي الشعوب العربية لم تمنع العدو من أن يقف قبل أسابيع «على رجل ونصف» في انتظار رد حزب الله على اغتيال كادر له سوريا.

المراجع
1- دافيد سيمان طوف ويوسي كوبرفاسير، كتاب «حروب الوعي»، «معهد أبحاث الأمن القومي» في جامعة تل أبيب، و«معهد أبحاث منهج الاستخبارات» في «مركز تراث الاستخبارات».
2- عام 1978 وقعت مصر مع العدو اتفاقية «كامب ديفيد» التي قضت بانسحاب إسرائيل من أراضي شبه جزيرة سيناء مقابل تطبيع العلاقات كلياً. 
3- وقع الملك حسين اتفاقاً بين المملكة الأردنية الهاشمية والعدو في وادي عربة عام 1994.
4- مقابلة السفارة الإسرائيلية «الافتراضية» في الإمارات مع شاب يدعى علي 
https://twitter.com/IsraelintheGulf/status/1296044784075919360?ref_src=twsrc%5Etfw%7Ctwcamp%5Etweetembed%7Ctwterm%5E1296044784075919360%7Ctwgr%5E&ref_url=https%3A%2F%2Falnahdanews.com%2Fpost%2F32100%2FD981D98A-D985D983D8A7D984D985D8A9-D987D8A7D8AAD981D98AD8A9-D8A8D98AD986-D8A7D984D8B3D981D8A7D8B1D8A9-D8A7D984D8A5D8B3D8B1D8A7D8A6D98AD984D98AD8A9-D988D985D988D8A7D8B7D986-D8A5D985D8A7D8B1D8A7D8AAD98A-D8A3D983D8ABD8B1-D985D983D8A7D986-D8A3D8ADD8A8D987-D981D98A-D8A5D8B3D8B1D8A7D8A6D98AD984-D987D988-D8ADD98AD981D8A7
5- مقابلة ضاحي خلفان على قناة «روسيا اليوم»
https://www.facebook.com/search/top/?q=rt&epa=SEARCH_BOX

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir