التقى الحاج قاسم لأول مرة في العام ١٩٩٨؛ يتحدث سماحة السيد هاشم صفي الدين حول أول انطباع لحزب الله في لبنان عن القائد الجديد لقوّة القدس في تلك الأيام قائلاً: أدركنا بسرعة أنه رجل العمليات يعني الشخص الذي يدخل مباشرة إلى الإجراءات وإلى التفاصيل العملية.
مرّ ٢٢ عاماً على اللقاء الأول الذي جمع رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله بالشهيد سليماني، وقد دعوتا المستشار الثقافي السابق لإيران في لبنان الدكتور محمد مهدي شريعتمدار من أجل إجراء لقاء مع سماحة السيد صفي الدين واستعراض ذكريات سماحته مع الشهيد وكلامه حول صفات الحاج قاسم، نظراً لما يملكه سماحته من معلومات وتجارب مع الشهيد القائد.
*سماحة السيد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
اللقاء الأوّل بين قادة حزب الله وقائد قوّة القدس
*سماحة السيد. في بداية هذا الحديث، الشهيد سليماني تم تعيينه قائدا لقوة القدس في الحرس الثوري الإسلامي في أواخر 1997 ويبدو أنه بعد فترة قصيرة جاء إلى لبنان ربما في أوائل 1998. هل تتذكرون أول لقاء مع الشهيد السليماني وماذا تحملون من ذكريات عن هذا اللقاء؟
بسم الله الرحمن الرحيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين. اللقاء الأول مع جناب القائد الحاج قاسم سليماني کان بعد أن أُبلغنا بتعيينه مسؤولاً لقوة القدس في الحرس الثوري. نحن کنا نلتقي مع الإخوة في قوّة القدس عادة في طهران ورغم ذلك اختار الحاج قاسم أن يأتي هو إلى لبنان. اللقاء الأول كان لقاء تعارفيّاً لكنه كان حميميّاً جدا كأننا نعرفه مند سنوات طويلة وكان في ذلك اللقاء عدة أمور؛ أولاً أدركنا بسرعة أنه رجل العمليات يعني الشخص الذي يدخل مباشرة إلى الإجراءات وإلى التفاصيل العملية. كان قريباً جدّاً مما يحتاجه المجاهد وما يعيش المجاهد وما تعيشه المقاومة. الأمر الثاني الذي ظهر بالشكل الواضح من اللقاء الأول هو أنه قريب من القلب، يتحدث بشكل مباشر وبشكل صادق وعفوي وبرز ذلك على ما أذكر تماماً حينما تحدث عن "شاه مسعود" وتجربته مع "شاه مسعود" في أفغانستان وكان قد قُتل حينها "شاه مسعود". تحدث عنه بطريقة فيها من المحبة والعاطفة والحنان بما يُشعرك أنه ليس قائداً يبتغي تحقيق المصالح فقط.
وثالثاً كان يبدو عليه أنه هو قدم إلينا مقبلاً ومشتاقاً وهذا أيضا ظهر [وكان واضحاً]. فالجلسة الأولى كانت جلسة التعارف لكنها كانت مليئة بالأحاديث من هنا وهناك من لبنان وفلسطين وأفغانستان وطبعاً الحاج قاسم كلما نجلس معه يتحدث عن أفغانستان وعن تجربته في أفغانستان.
الحاج قاسم سليماني، نموذج متقدّم في حمل المفاهيم الثوريّة والولائيّة والأصيلة
*سماحة السيد منذ انتصار الثورة الإسلامية دائما كان هناك نقاشات معرفية وسياسية وعملية حتى فيما يرتبط بالثورة والسلطة. طبعا الحرس الثوري الإسلامي منذ بداية تشكيله ربما كان حاضرا بشكل أو بآخر في لبنان وفي جنوب لبنان حتى قبل تأسيس حزبالله لكن في مرحلة بالتحديد في مرحلة تعيين الحاج قاسم سليماني قائدا لقوة القدس ربما نستطيع أن نقول بأن الملف انتقل من الجهات الرسمي في السلطة إلى الجهات المرتبطة ـ إن صح التعبير ـ بالمقاومة والثورة وبالتحديد قوة القدس. ما هو رأيكم في هذا الانتقال وماهي النتائج التي ترتبت على هذا الانتقال؟
بالنسبة لحزب الله هو في الأساس نشأ في حضن الحرس الثوري وفي إطار الثقافة الثورية للحرس وفي إطار المفاهيم الولائية للحرس وكلنا نعلم أن للحرس خصوصيات في هذا الجانب ونحن تعرفنا على هذه الخصوصيات منذ اليوم الأول من تأسيس المقاومة الإسلامية في لبنان. مجيء الحاج قاسم زاد من جرعة هذه العلاقة الإيجابية والوثيقة بين المفاهيم المشتركة والمفاهيم التي تربينا عليها. رأينا في الحاج قاسم أنه نموذج متقدم لمن يحمل المفاهيم الثورية والولائية والأصيلة مما زادنا التصاقاً بهذا النموذج والتصاقاً بهذه القيم والتصاقا بهذه المفاهيم.
قدوم الحاج قاسم سليماني، نقطة تحوّل المقاومة الإسلاميّة
التبدل والتغير الذي حصل على المستوى الإيجابي هو في الحقيقة كان نتيجة هذا الفهم المشترك وهذه العلاقة العاطفية والروحية والتي كانت مبنيّة أساساً على الرؤية الموحدة. من المهم أن أشير إلى أنه على مستوى الرؤى العامة كنا دائما نرى أنفسنا متطابقين مع ما يراه الحاج قاسم سليماني في كل ساحات العمل المشتركة وهذا دليل على أن المنبع واحد والفكر واحد والثقافة واحدة والأدوار والوظائف كانت شبه متطابقة. وهذا كان عاملاً مساعداً؛ يعني حينما تتعاطى مع جهة هي تدعم وهي تؤيد وهي تساند، هذه الجهة تفهمك وتلتقي معك في نفس الرؤية روحيّاً وعاطفيّاً وعمليّاً وسياسيّاً، ستشعر لا شك بوجود دعم كبير. سألني البعض في بعض اللقاءات أن بماذا شعرتم حينما استشهد الحاج قاسم؟ أنا أجبت: "شعرت أن جبلاً كنا نستند إليه وقد أُزيح من خلفنا، ما الذي يمكن أن يشعره الإنسان في هذه مثل هذه الظروف"؟
22 عاماً من قيادة الحاج قاسم سليماني لقوّة القدس، إنجازات وانتصارات كبيرة
*سماحة السيد منذ اللقاء الأول حتى اللقاء الأخير الذي ربما كان قبل ساعات أو أيام من استشهاد الشهيد سليماني إذا لم أخطئ. مسيرة 22 سنة، كيف رأيتم هذه المسيرة وما هي التغييرات التي شاهدتموها في الشهيد سليماني؟
22 عاماً كانت مليئة بالإنجازات والانتصارات الكبيرة. طبعاً نحن دائماً عندما نتحدث عن أشخاص بمستوى الحاج قاسم، لا نقصد المستوى المعرفي والعسكري والخبرة القيادية فقط، بل ونتحدث عن الجانب الإيماني والجانب المعنوي وكما كل قيادات الحرس عموماً يهتمون كثيرا بالجانب المعنوي قبل الاهتمام بالجانب العسكري. هؤلاء الأشخاص نتحدث عنهم بالمستوَيَين، المستوى الأول يتعلق بما قاموا بها من الإنجازات في الميدان وتحديداً في محور المقاومة الممتد من فلسطين إلى اليمن. الجانب الذي نحتاج إلى تسليط الضوء عليه هو الجانب المرتبط بالجانب المعنوي بمفهوم الكرامة وبمفهوم الرحمة الخاصة التي نزلت على هذا القائد والتي كانت سبباً في وصول المقاومة في لبنان والمنطقة إلى كل هذه الإنجازات الكبيرة.
قدوم الحاج قاسم سليماني قلب المنطقة من مكانٍ إلى آخر
قدوم الحاج قاسم كان مليئاً بالبركات. 22 عاماً كانت كفيلة بأن تقلب المنطقة من مكان إلى آخر. إسرائيل انسحبت من لبنان وحصلت تغييرات كبيرة على مستوى امتلاك القدرة العسكرية كمّاً ونوعاً عند المقاومة الإسلامية في لبنان. المقاومة الإسلامية والمقاومة الوطنية في فلسطين حظيت باهتمام شديد وانتقلت نقلة كبيرة جداً وصولاً إلى حرب تموز في العام 2006 التي تجسدت فيها هذه التغيرات النوعية والكمية في الجبهة وهُزمت إسرائيل هزيمة كبيرة. ربما لم تكن تتخيل إسرائيل في يوم من الأيام أن تُكسر عسكرياً بهذه الطريقة وأن تُدمّر الدبابة التي هي فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية. وما بعد ذلك من فتن جاء بها الأمريكي، أي مع جورج بوش الابن وكونداليزا رايس ومسألة الشرق الأوسط الجديد؛ وهُزمت أمريكا من قبل محور المقاومة في إنتاج الشرق الأوسط الجديد.
منع الأمريكيّ من فرض احتلاله على الثقافة السياسيّة في العراق
هذا أيضا يُضاف إلى الانتصارات والإنجازات وصولاً إلى ما حصل في العراق ولم يتمكن الأمريكي أن يفرض احتلاله على النمط السياسي وعلى الثقافة السياسية وعلى كل الوجود السياسي في العراق وأحد أهم الأسباب أيضا هو المقاومة التي قاتلت الاحتلال الأمريكي والتي منعته والتي صدته في البعدين السياسي والشعبي وغير ذلك، وصولاً إلى اليمن الذي استخرج من جباله ومن تاريخه ومن ثقافته ومن أصالته هذه المقاومة الباسلة والقوية التي هزمت المشروع الأمريكي والسعودي، وإلى معركة سوريا الكبيرة حيث كانت سوريا تشهد وما زالت معارك علنية. الحاج قاسم وفريق عمله كانوا حاضرين بقوة في تحقيق الإنجازات الكبيرة في سوريا، إذن 22 عاماً كلها إنجازات وانتصارات طبعاً فيها تضحيات، فيها صبر وتحمل، فيها التخطيط، فيها المعرفة، فيها الحضور الميداني وفيها خلق نموذج جديد ونمط جديد.
الحاج قاسم سليماني صانع نموذج جديد في المقاومة
هذا النموذج اليوم هو ملك محور المقاومة وملك الأمة الإسلامية كلها وهذا النموذج إذا أردنا أن نتحدث عن صانعه وعن المؤثر في ترك هذه البصمة الخاصة في هذا النموذج، لن يكون هناك شك أن أحد أهم صناع النموذج الجديد للمقاومة المنتصر والذي لا يترك مجالاً للأمريكي أن يعيد هيمنته كما كانت في السابق، والذي له دور أساسي في صناعة هذا النموذج هو القائد الشهيد الحاج قاسم سليماني.
تواضع الحاج قاسم سليماني رغم حجم الانتصارات
*طبعا على مستوى السلوك الشخصي، ماذا كانت آثار كل هذه الانتصارات والإنجازات على سلوكية الحاج قاسم سليماني؟
كانت المزيد من الخشية من الله سبحانه وتعالى والمزيد من التواضع وهذا مشهود وملموس يعني أنه لا يحب الحديث عن إنجازات تُنسب إليه ودائماً كان يتحدث عن المقاتلين والمجاهدين في أي جبهة كانت؛ يعني أنه لا يستثني جبهة من الجبهات. أذكر مثلاً حين كنا نتحدث عن العراق في بعض اللقاءات معاً كان يقول "نحن لم نفعل شيئاً، الذين فعلوا هذا الأمر هم الشعب العراقي وهم الشباب المجاهدين في العراق" وهكذا في كل الجبهات. هذه الإنجازات كانت تزيد في يقينه وتزيد في إخلاصه وتزيد في توقه وشوقه للشهادة ولقاء الله عزوجل، فهو هكذا كان. كل التصرفات على المستوى الشخصي وعلى المستوى العملي كانت تدل على أن كل هذه الإنجازات ما كانت لتأخذ من أصالته ومن تواضعه ومن تربيته الأصيلة على الإطلاق.
علاقة شبه دائمة بين الحاج قاسم سليماني وقيادة في حزب الله، بعيداً عن اللقاءات البروتوكوليّة
*سماحة السيد تحدثتم عن الجانب الولائي، من المعروف ارتباط حزب الله المعلن والذي أعلنه سماحة السيد دائما بارتباطه بولاية الفقيه. في زمن الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) كان الإمام القائد السيد الخامنئي (دام ظله) مندوباً للإمام الخميني (ره). بعد وفاة الإمام (ره)، لم يحدد الإمام الخامنئي مندوبا لكن نُقل أن مثلا دائما كان ينقل أراء ووجهات نظر سماحة السيد القائد للإخوة في حزب الله. طبعا نحن نعرف أن سماحة السيد القائد لم يحدد مندوبا ولكن هل يمكن أن نقول بأن الشهيد سليماني كان مندوبا للإمام الخامنئي (دام ظله) لدى حزب الله؟ وماهي أهم آراء وإرشادات سماحة الإمام الخامنئي والتي نقلها الشهيد سليماني للإخوة في حزب الله؟
الحاج قاسم كان يمثل عقدة الوصل في الكثير من الأمور. طبعاً له اختصاص في كل ما يتعلق بشأن المقاومة ولكن مع الأيام ونتيجة هذه العلاقة القوية بين الحاج قاسم وحزب الله وبين الحاج قاسم وسماحة ولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي (دام ظله) كان من الطبيعي أن يحتل هذا المقام وهذا قد لا يحتاج إلى الكثير من النصوص التي توضع لتنظيم هذه العلاقة. مع الزمن تراكمت الأمور فأنتجت هذا المسار الطبيعي الذي كان ينقل إلينا الكثير من الأمور، أمور كثيرة نحن نطلبها مثلا بعض المسائل الفقهية المرتبطة بالعمل المقاوم. كان من الممكن أن نأخذ المسائل الفقهية من طريقة أخرى ولكن المطلع على العمل المقاوم هو الحاج قاسم حيث بإمكانه أن يدرك أكثر المسائل الفقهية والشرعية. بعض المسائل كان فيها نقاش سياسيّ دائماً، مثلا موضوع سوريا كان هناك نقاش دائم حوله داخل حزب الله وداخل الجمهورية الإسلامية وما بينهما، وعلى هذا الخط كان الحاج قاسم موجوداً.
وجدنا أننا حينما نتحدث عن وجهة نظرنا كحزب الله في الموضوع السوري كان الحاج قاسم يتحدث أيضا مع سماحة السيد القائد وكان ينقل إلينا رأي وفكر وتوجهات سماحة السيد القائد في هذا الموضوع. وهكذا في الكثير من الأحداث وقضايا. طالما أن هي علاقة يومية وعلاقة ليست مبنية فقط على اللقاءات البروتوكولية بل وهي لقاءات شبه دائمة لأنها تصب في مصلحة صناعة وصياغة وتحقيق هذا المحور الذي يحتاج إلى كل المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعملية والعسكرية فنتيجة الحاجة لهذا المحور كان الحاج قاسم يطل على كل هذه الأمور.
في الكثير من المواقف المرتبطة بالعراق والمرتبطة بلبنان، كل هذه الأمور كانت محل المداولة والنقاش بين قيادة حزب الله وبين الحاج قاسم وكان الحاج قاسم أيضاً يناقشها أو يستمع إلى رأي سماحة القائد فيها.
قفزة نوعيّة على المستوى العسكريّ في النّوع والكمّ
*سماحة السيد هل كان للحاج قاسم الحضور والتعاون مع حزب الله بشكل عملي وميداني ما قبل سنة 2000؟ وثانيا في عملية تحرير الجنوب اللبناني سنة 2000 ماذا كان دور الحاج قاسم سليماني؟
حينما دخل على خط الدعم والإسناد للمقاومة الإسلامية في لبنان يعني سيكون للحاج قاسم الحضور في كل هذه الساحات. قبل سنة 2000 بدأت المقاومة تتجهز للبنى التحتية الجديدة على مستوى قدراتها العسكرية وعلى مستوى الانتقال للعمل المقاوم النوعي، رغم أن القدرة التي كانت موجودة قبل سنة 2000 ليست قليلة ولكن كانت هناك قفزة نوعية في نوع السلاح وفي كمية السلاح وفي طريقة نقل السلاح والتكتيك إضافة إلى الإستراتيجيات الحاكمة في تحديد المواقف على المستوى العسكري والميداني. الحاج قاسم خلال سنتين قبل سنة 2000 كان مشاركاً بفعالية وقوة بل كان دافعاً باتجاه خلق إستراتيجيات جديدة وما شاهدناه بعد 2000 وصولاً إلى 2006 في الحقيقة هو نتاج تلك الجهود التي بدأت قبل 2000.
إذاً خلال هاتين السنتين كانت هناك نقلة نوعية، نعم هذه النقلة لم تكن مشهودة ولم تكن مرئية لأنها كانت تحتاج إلى زمن وإلى وقت لتثبيت أركانها ولم نكن نحتاج إلى إظهارها بشكل كامل على المستوى العلني. أما في سنة 2000 فحضوره كان كبيراً جداً؛ بالنتيجة هو قائد كان له أثر كبير في حصول تحرير سنة 2000 لكن هو لم يرد أن يأخذ المشهد فترك المشهد للمقاومين ولقيادة المقاومة في كل ساحات الاحتفالات والعمل والأنشطة. هو كان موجوداً في كل هذه الخطط التي وُضعت طبعاً على مستوى الدعم والتأييد كما قلت قبل قليل.
ما نقله الحاج قاسم سليماني في حرب تمّوز عن الإمام الخامنئي دلّ على الإلهام الخاصّ لدى سماحته
*وفي حرب تموز سنة 2006؟
الحاج قاسم (رضوان الله تعالى عليه) تحدث بشكل مسهب عن دوره الفعال وعن دوره القوي فيما يتعلق بحرب تموز في سنة 2006 وهذا لا نستهين به لأنه كان يشكل الأنس الدائم الأساسي بحسب المعطيات التي حصلت في الميدان في الجانب المعنوي والذي عادة ما لا يقل أهمية عن أي جانب عسكري في معاركنا، بل عادة ما يحظى بأهميّة أكبر. الأمور التي كان ينقلها لسماحة السيد عن سماحة القائد فيما يتعلق بالجانب المعنوي سواء كانت رسالة مكتوبة كما وصلت خلال الحرب من سماحة القائد أو كانت بعض الإشارات اللطيفة التي تدل من جهة على الإلهام الخاص الذي كان يعيشه سماحة السيد القائد في استشرافه للمستقبل ويدل من جهة ثانية على الموفقية التي كانت تعيشها المقاومة في ظل البشرى التي كانت تعطيها المزيد من الأمل والعزم للاستمرار.
بشارات الإمام الخامنئي في حرب تمّوز أثّرت بشكلٍ كبير على قوّة المعركة
كانت تنقل لنا حقيقة من سماحة السيد القائد البشارات، يعني أن القائد يقول لكم إنه ستنتصرون وهذه المعركة تشبه معركة الخندق فيها خسائر وفيها صبر وفيها تحمل لكن هذه نهاية الصّبر. هذه هي العبارات التي نقلت عن القائد. الناقل لهذه المعنويات كان الحاج قاسم سليماني. طبعاً كان يتحرك ويذهب ويأتي ويوصل مثل هذه التوصيات وهذه البشارات إلى المقاومين.
وأنا أقول لك من موقع المعرفة التفصيلية والحضور في هذه التفاصيل، كان لكل هذه الأمور تأثيرٌ كبيرٌ جدا على قوة المعركة وعلى قوة معنويات إخواننا المجاهدين. مثلا، الرسالة التي وصلت من سماحة السيد القائد، أذكر بعد قليل من أوصل هذه الرسالة، اتصل بي سماحة الأمين العام وقال وصلتنا بشرى من قبل سماحة السيد القائد وتمت ترجمة هذه الرسالة باللغة العربية ثم نشرناها على كل المجاهدين.
على مستوى ردة الفعل كانت ردة الفعل قوية جداً. نحن قبل هذه الرسالة كنا نعتقد أن الإسرائيلي عاجز عن تحقيق أهدافه وبعد هذه الرسالة أصبحنا على يقين أننا سننتصر في هذه المعركة. في الجانب الاجتماعي الذي يخص الناس وهذا مما كنت أنا أتابعه شخصياً مع الإخوة المجاهدين على الأرض، كان هناك ما يقرب من 950 ألف مُهجَّر من بيته منهم من هُجر من الجنوب ومن الضاحية ومن البقاع والمناطق الأخرى وهؤلاء كانوا يحتاجون إلى الاهتمام الكبير والشديد لأن هؤلاء هم جمهور المقاومة وهم المنتج للمقاومة وهم الذين استهدفوا واستهدفت بيتوهم ومحلاتهم وأرزاقهم. تخيل أن إنسانا يدعم المقاومة خلال دقائق فقد بيته ومحلاته وكل ما يملكه. هؤلاء كانوا مهجرين إلى المناطق الأخرى.
متابعة الحاج قاسم سليماني لأوضاع النّاس المتضرّرين من الحرب
من اللطائف أن الحاج قاسم كان يتصل بي شخصيا بين الحين والآخر ويسأل كيف وضع الناس وكيف أحوالهم وهل تهتمون بهم وكان يقول نحن في الجمهورية الإسلامية نقوم بدعمكم وتأييدكم وكان طبعاً يؤكد: "إدعم الناس، إبق معهم، إدعمهم ولا مشكلة في شيء على مستوى الإمكانات ونحن جاهزون إن شاء الله لتأمين الإمكانات اللازمة". أي لم يكن دوره مرتبطاً فقط بالعمليات العسكرية.
مساهمة الحاج قاسم سليماني الحثيثة في إعادة عمليّة إيواء النّاس وإعادة إعمار البيوت المدمّرة
*قد يُعرف عن الحاج قاسم سليماني أهميته ودوره في الجانب الجهادي ولكن هل يمكن أن تذكروا ولو بعض الأعمال التي قام بها الحاج قاسم في سبيل إعادة البناء ليتم تشكيل مؤسسة أو آلية لإعادة البناء؟ هذا الجانب في حياته وفي سيرته قد يكون مغفول عنه وغيرمعروف لدى على الأقل الجمهور...
أنا شخصيا شاركت في عدة جلسات بعد حرب تموز في العام 2006 من أجل التفكير في كيف يمكن أن نعيد إعمار البيوت المهدمة. طبعاً كنت أنا شخصيا أقدم كل هذه النتائج إلى سماحة الأمين العام لاتخاذ القرار المناسب سواء في تأمين المسكن البديل أو المؤقت أو في الترميم أو في إعادة الإعمار وكل هذه التفاصيل التي كانت لها جهات خاصة تديرها. قبل انتهاء الحرب بيومين كان الحاج قاسم شريكاً معنا حتى أنه أجرى اتصالاً، كان يريد أن يعرف ما عدد البيوت التي هدمت، طبعاً كان أمراً صعبا وعسيرا أن نحدد له عدد البيوت ولكن حاولنا أن نحدد الخسائر. كان يريد أن يعرف عدد البيوت التي هدمت وعدد البيوت التي تحتاج إلى الترميم وكذلك الخسائر المادية لأنه في نهاية المطاف هو سيكون الواسطة في تحصيل الدعم الذي يمكن أن يأتي من الجمهورية الإسلامية وبالتالي كل الدعم الذي جاء من الجمهورية الإسلامية سواء من الدولة بشكل رسمي يعني الدولة الإيرانية أو المؤسسات الأخرى كمؤسسة إمداد الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) أو المؤسسات المعنية بالشهداء والجرحى.
كان دائماً الوسيط لتقديم الصورة كما يجب أمام هذه الأجهزة، أي أنّ حزب الله مهما فعل في نقل الصورة لن يكون قادراً على أن ينقل الصورة كما ينقلها الحاج قاسم سليماني إلى الجهات الرسمية في الدولة الإيرانية أو إلى المؤسسات الخيرية والعامة التي كانت تساهم في دعم المقاومة وشعب المقاومة وقد قام بهذا الدور من خلال معرفته وليس من خلال التكهن ووضع أفكار غير ناضجة، بل وكان يستمر بهدوء ويكتب ويفصل ويأخذ منا المعلومات التفصيلية المنقحة على مستوى المعلومات والإحصاء ثم بعد فترة يعطينا أجوبة ومن اللطيف في هذا الموضوع أن الأجوبة كانت سريعة جداً، يعني أنا أشهد أن خلال حرب تموز وما بعد حرب تموز كل ما كنا نحتاج إليه من أجوبة من خلال الدعم الممكن أن يأتي من الجمهورية الإسلامية، كانت الأجوبة أسرع بكثير مما كنا نتوقع وهذا دليل على أنه إما أن الحاج قاسم قام بجهد غير عادي وإما أن الأجهزة في الجمهورية الإسلامية كانت متفاعلة بشكل غير عادي ويبدو أن الأمرين كانا موجودين.
اهتمام الحاج قاسم سليماني بسيرة الشهداء وجوانبهم المعنويّة
على مستوى آخر غير موضوع الإعمار سأذكر حادثتين أو لقائين حصلا مع الحاج قاسم. الأمر الأول بعد شهادة الحاج عماد مغنية (رضوان الله تعالى عليه) بأشهر قليلة كانت عندنا لقاءات نناقش فيها بعض الأمور العملية فأذكر عبارته وقتها، قال لي يا سيد فلنترك الآن ملف العمل جانباً وعندنا وقت متسع لنُنهيه بالطريقة المناسبة وتعال نتحدث عن الحاج عماد وشهادته؛ وعادة هذه الجلسة كانت تستغرق بين ساعتين أو ثلاث ساعات. أذكر أنه مضت ساعتين أو ثلاث ساعات ودار كل الحديث عن الشهداء لأنّه أحب أن يتحدث في هذا الموضوع وطلب مني وقال تعال نتحدث عن الشهداء وعن الحاج عماد وبدأ يسأل أسئلة باعتبار المعرفة القديمة بيني وبين الحاج عماد ونحن في نفس السن وفي نفس المنطقة وأحب أن يسأل أسئلة كثيرة عن تاريخ الحاج عماد وتصرفاته وإيجابيّاته ونقاط القوة في روحه وكان يتحدث بشفافية تامة ثم الملفت أنه انتقل إلى الحديث عن الجمهورية الإسلامية وعن ذكرياته في الجبهة وعن الشهداء الذين استشهدوا، وطبعاً معظم الحديث أو قسم كبير من هذا الحديث كان ممزوجاً بالدمعة والبكاء وكان يبكي.
أنا لاحظت في هذا اللقاء أنه هو ليس الحاج قاسم الجنرال القوي فقط، بل هو الحاج قاسم الودود والعطوف والشفيق والعاشق للشهادة. الخلاصة هي أنه بطريقة ذكية جداً دخل من كل هذه الذكريات والكلام إلى الموضوع الثقافي وقال حدثني عن الموضوع الثقافي في حزب الله وبدأنا نتحدث معه عن الموضوع الثقافي وماهي نقاط القوة وماهي نقاط الضعف وإلى ما هنالك من تفاصيل ثقافية وشعرت أنه كان هادف ويريد أن يصل إلى الاهتمام بالجانب الثقافي؛ وطبعاً الثقافي بالمعنى الواسع يعني الجانب الثقافي العقائدي، الثقافي الديني، الثقافي الإيماني والثقافي السلوكي؛ وكان مشاركاً في النقاش وكان يعطي بعض الآراء والملاحظات في هذا الموضوع.
حرص الحاج قاسم سليماني على حياة المجاهدين وكرامة عيشهم
في لقاء آخر كان شديد الحرص على حياة المجاهدين وعلى عزهم وكرامتهم ومعيشتهم. يمكن للشخص أن يتسائل، لماذا يهتمّ الحاج قاسم بهذا الموضوع، هو يقوم بدوره على مستوى المحور وهو قائد كبير ولیس محتاجاً أن يدخل إلى كل هذه التفاصيل. كان الحاج قاسم يسأل عن تفاصيل حياة المجاهدين وكان يسأل كيف يعيشون وكيف يؤمنون احتياجاتهم الطبية والصحية وهل يمكن أن نقوم بالحل في موضوع المسكن وكيف يمكن أن نحسن تقديماتهم المعيشية لهم ولعوائلهم. نحن دخلنا في نقاش طويل في هذه الموضوعات وعلى مدى عدة جلسات وأنا أشهد أنه بذل جهوداً كبيرة مع جهات كثيرة في الجمهورية الإسلامية واستعمل كل معارفه من أجل أن يؤمن إمكانات لائقة بحياة المجاهدين وهذا غير الموضوع العسكري والتسليحي والدعم اللوجستي وما شاكل وقد كان يهتم بنفس المجاهد وكان يؤكد أن المجاهد الذي وضع دمه على كفه يجب أن نؤمن له ولعائلته حياة كريمة وحياة عزيزة وهذا أيضا يكشف عن جانب آخر من اهتماماته الدائمة فيما يرتبط بالمجاهدين في العمل المقاوم.
كان الحاج قاسم سليماني يتدخّل في الشؤون السياسيّة من أجل حماية محور المقاومة
*من الجوانب الأخرى هو الاهتمام بالجانب السياسي والمفاوضات ــ إذا صح التعبيرـ مع الجهات الإقليمية. طبعا المعروف عنه ذهابه إلى موسكو ولقائه مع بوتين لبحث حضور القوات العسكرية الروسية في سوريا. أنا أذكر هنا في وسط حرب تموز أنّه أُعلن وقف إطلاق النار لمدة 48 ساعة، حينها كان "متكي" وزيراً للخارجية وهو جاء إلى لبنان وقام بمجموعة من اللقاءات والزيارات. أنا كنت معه ثم جئنا إلى سوريا والتقينا بالرئيس بشار الأسد. حينما طرح السيد متكي أننا بحاجة إلى كذا وكذا وكذا حسب بعض الأمور التي تم إستنتاجها من الدراسات واللقاءات الميدانية وعرض ذلك على الرئيس بشار الأسد، قال الرئيس بشار الأسد له لماذا تطرح هذه الأمور عليّ؟ كل الحضور وكانوا خمسة أشخاص استغربوا من هذا السؤال... فسكت الجميع. الرئيس بشار الأسد واصل حديثه وقال: كل هذه الأمور مرتبطة بالعميد سليماني في حين أنه كان رئيسا للجمهورية في دولة تحمي المقاومة والمقاومة إلى جانب هذه الدولة ووزير الخارجية الإيراني كان يعرض عليه نتيجة ما شاهده لمساعدته. هذا الجانب قد يكون أيضا غير معروف أن مجموعة العلاقات التي أسس لها وكونها الشهيد سليماني مع الجهات الإقليمية من أجل دعم المقاومة لم تقتصر فقط على الجانب اللوجستي والتسليح والتخطيط وإنما حتى في جانب المفاوضات. كيف ترون في هذا الموضوع؟
حينما نتحدث عن صناعة المحور فصناعة محور المقاومة تحتاج إلى كفاءات في جوانب عديدة. حينما تصنع محور المقاومة لا يكفي أن تعطيه السلاح أو أن تدربه وتدرب شبابه؛ بل لا بد أن تحميه بمواقف سياسية. كان الحاج قاسم حريصاً على إيجاد طوق سياسي آمن يحمي المقاومة وقد نجح في ذلك نجاحاً باهراً وحسب اطلاعي كان يتدخل في الشؤون السياسية حيث تكون الحاجة لذلك ولم يكن راغباً جداً في أن يلعب دوراً سياسياً معيناً ولأسباب مرتبطة به شخصياً وبدوره ووظيفته وأولوياته. لكن حينما تكون حماية المقاومة ومحور المقاومة بحاجة إلى حركة سياسية لم يكن يتوانى عن ذلك أبدا، في سوريا وفي العراق وفي تركيا وفي أي مكان يتقدم وهو يقوم بدور سياسي مناسب وكله في الظل وليس في العلن لأنه هو ليس مسؤولاً دبلوماسياً في الدبلوماسية الإيرانية. حسب معلوماتي أن الدبلوماسية الإيرانية كانت تفتح له أبوابا وتدعمه وتأخذ منه الدعم في الكثير من الأحيان.
جرأة الحاج قاسم سليماني في موضوع الدخول السوري إلى الساحة السوريّة
أي أنّ الحاج قاسم سليماني كان على تنسيق كامل مع الدبلوماسية الإيرانية لكي يقوي كل منهما الآخر وهذا يدل على قدرة خاصة لأن الجنرال الذي يقود المعارك في الميدان ويخطط المعارك في الميدان لا يمكن أن يدير عملية سياسية بلغة دبلوماسية بمقتضيات العمل الدبلوماسي والسياسي سواء كان تفاوضا أو كان إقامة علاقات. كان الحاج قاسم يتقن كل هذه الأمور فإذا أراد أن يفتح علاقات مع بلد هو قادر على ذلك، يخطط ويقدم ويقتحم؛ ولكن نهجه في العمل السياسي أنه يعمل في السياسة على مستوى المبادرة والشجاعة والاقتحام كما يقتحم ميادين القتال، فهو جريء جدا ويقدم الأفكار بجرأة مثل موضوع الدخول الروسي إلى الساحة السورية بشكل عسكري. الحاج قاسم ليس هو الذي أخذ القرار لأن هناك قيادة في الجمهورية الإسلامية، ولكن أن يبادر إلى اقتحام هذه الساحة بهذه الجرأة وبهذه الشجاعة ليحدد موقفاً مطلوباً في معركة مصيرية وتاريخية، فإنّ هذا يحتاج إلى شجاعة وفي الكثير من الأمور كان يطرح مواقف ويتخذ القرارات، طبعاً تحت سقف القرارات المفترضة في الجمهورية الإسلامية.
حضور الحاج قاسم سليماني كان قويّاً مع الجهات السورية وكان حينها هو من يحدثنا عن لقاءاته مع الجهات السورية وماذا قال لهم وماذا اتفق معهم، وهكذا على المستوى العراقي وعلى المستوى التركي أو الجهات الأخرى من الدول المحيطة بالجمهورية الإسلامية. طبعاً هذا النمط هو نمط فريد، حقيقةً هو نمط فريد واحتاج إلى أن ينسج الحاج قاسم مجموعة علاقات كبيرة حتى داخل الجمهورية الإسلامية رغم أنه هو شخص قوي ومعروف في الحرس الثوري لأنه للحرس في إيران مكانة خاصة عند كل المسؤولين في البلد؛ ولكن هو كان فوق ذلك ينسج علاقات خاصة ربما لا تخطر على بال أحد. كل ذلك من أجل أن يزيد في حماية العمل المقاوم، وإلى الآن نحن بين الحين والآخر نلتقي مع بعض القيادات في الجمهورية الإسلامية ويقولون إنهم كانوا يطلبون من الحاج قاسم كذا وكذا من أجل أن يحميكم ومن أجل أن يدافع عنكم ومن أجل أن يؤمن الحماية اللازمة للعمل المقاوم في المنطقة. إذن، نحن أمام شخصية فريدة واستثنائية بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
*قبل أن انتقل إلى الوضع السوري ودوره، بالنسبة للعلاقة مع السیاسیین فی لبنان غیر حزب الله، أي مثلا في موضوع الشيعة والسنة وأحيانا الخلافات إذا حصلت؛ هل كان له دور مثلاً في الأوضاع الأخيرة؟
لا هو لم يتدخل في الشأن السياسي اللبناني ولم يتدخل في غير الشأن السياسي. فلنكن دقيقين؛ يعني مثلا ما يرتبط بسوريا أو العراق كان تدخله حسب مقتضيات الحماية المطلوبة لمحور المقاومة ليس أكثر من ذلك. لأنه في سوريا كانت هناك حرب على حلقة أساسية من حلقات محور المقاومة كان هو في موقع المضطر ليدافع ويقاوم دفاعاً عن هذا المحور؛ وهكذا في العراق. في الشأن اللبناني وفي السياسة اللبنانية عموماً كان يعتقد أن حزب الله قادرٌ على أن يقوم بمثل هذه المهمة وكان يستمع وينصت ويتحدث بشكل طبيعي في كل أمور يعيشها ويعرفها ولكن كان القرار في مكان آخر.
*فيما يرتبط أيضا بالوضع في سوريا ودور الحاج قاسم سليماني خاصة في بعض المحطات البارزة مثلا في القصير وحلب و ... كيف ترون هذا الدور؟
في حلب كان له دور كبير جداً نتيجة فهمه لأهمية معركة حلب وكان يصر على حضوره الدائم خاصة في المراحل الصعبة إلى حد كنا نحن نتحدث معه بين الحين والآخر "يا حاج! خفف". في أماكن القتال الأساسية كانت تدور معارك طاحنة في منطقة حلب وهو كان أحياناً في الطائرة، يصعد إلى الطائرة ويطير في الجو ويشرف على المنطقة ليتابع ويراقب ويسجل نقاط ويأخذ معلومات مباشرة من الجبهة ولم يكن فقط يستند إلى التقارير والأمور التي يقدمها الضباط أو المسؤولون في الميدان أو على الأرض.
تحمّل الحاج قاسم سليماني لكلّ المخاطر من أجل صناعة المواقف في الوقت المناسب
أذكر في يوم من الأيام كنا قادمين معاً من إيران إلى سوريا وكان يوماً ماطراً وعاصفاً وكانت معركة حلب شديدة الحساسية، نزلنا في مطار دمشق وأنا أردت العودة إلى بيروت فإذا بي هو يسأل هل جهزتم الطائرة؟ فسأله الأخ الذي كان معني هل تقصد طائرة حلب؟ فأجاب نعم الآن نريد أن نطير إلى حلب، رغم أنه كان ليلا. الأخ قال له مستحيل فالجو عاصف وماطر وفي مثل هذه الأوقات مستحيل أن تطير الطائرة لأن هناك خطر عليك وعلى الطائرة، فقال جهزوا... جهزوا الطائرة ... لا تهتموا... جهزوا الطائرة... ثم بعد ذلك أنا دخلت على خط النقاش وقلت له يا حاج أنت لست مضطرا أن تذهب الليلة فالوضع خطير جداً فقال لي: "من قال إن الوضع خطير؟ إن هذه الطائرة إذا لم تنتقل في هذه الليلة فلابد أن ننتقل في النهار وهذا صعب على المستوى العسكري فيجب أن تنتقل في الليل كما جرت العادة، وإلى غد لا أعلم الليلة ما الذي سيحصل فيجب أن نكون الليلة في حلب".
هكذا كان يفكر وبهذه الطريقة. فحضوره حضور صناعة الموقف المناسب في اللحظة المناسبة ولم يكن يؤخر ولم يكن يترك الأمور تمشي على عواهنها حيث كان دائما مبادراً بشجاعته وباقتحامه المعهود. من الأمور اللافتة التي يجب أن يعرفها كل الناس، لا يعني ذلك أنّ الحاج قاسم حينما يأخذ قراراً بالاقتحام، بأنّه قد أمّن كل مستلزمات الاقتحام. هو كان يعرف معنى المغامرة وكان يعرف قيمة المغامرة في الوقت المناسب فلا يؤجل، حتى ولوكان مدركاً أنه سيكون ذلك سببا في بعض الخسائر أو بعض التضحيات، كان يتحملها من أجل ألا يفوته الوقت. طبعا هذا يحتاج إلى قرارات قوية من قبل أشخاص أقوياء.
*ویُذكر اقتحامه لبعض ميادين القتال حتى في العراق، تلعفر وجرف الصخر وبعض المواقع الأخرى. هل كانت هناك أحيانا تحصل خلافات في وجهات النظر في بعض التفاصيل؟ وكيف كان تُدار العمليات في مثل هذه الظروف؟
طبعا كانت تحصل. مثلا في معركة سوريا خاصة في بداياتها كانت هناك نقاش كبير ولا يمكن لأحد أن يدعي في تلك المعركة في أيامها الأولى أن كل تفاصيلها كانت واضحة. كان الموقف واضحاً بشكل جلي ولا لبس فيه، ولكن فيما يعني كيفية القتال وكيفية الدخول إلى المعركة وكذلك في وجهات النظر حول النقاط والمحاور والمدن كانت تحصل نقاشات وخلافات في الآراء، لكنها كانت تنتهي بشكل ودي وحبي وتنازل متبادل وفي نهاية المطاف حينما يقود هو المعركة في مكان معين على الآخرين أن يتنازلوا. الحاج قاسم كان يستمع ويأخذ بعين الاعتبار ما يقوله الآخرون، لكن هو حينما كان يتخذ قراراً يُقدم عليه ويتوكل على الله.
*في موضوع تشكيل جبهة المقاومة مثلا في سوريا وكذلك الفاطميون والزينبيون وفصائل المقاومة العراقية وماعدا ذلك أيضا هل لديكم ذكريات؟
الحاج قاسم كان يريد التجميع والاستفادة من الطاقات الموجودة في كل جبهة المقاومة مثل ما شاهدناه في معركة سوريا بطريقة فيها حذاقة وفيها احترام كامل وفيها قدرة على الاجتذاب، يعني هو لم يقل فقط من الجيد أن يشارك معنا العراقيون وينتهي الأمر، أو أن يشارك الفاطميون وينتهي الأمر، بل كان يتحدث عن كيفية التعاطي مع هذه المشاركة وكيفية التأمين اللازم لها، من الذي يؤمن هذه المشاركة؟ من الذي يدير هذه المشاركة؟ في الخطوات الأولى عادة، كان يتدخل وكان يدخل في التفاصيل حتى يطمئن أن الأمور مشت لأنه كان يعرف أنّه إذا لم يتدخل في تفاصيل الحركة الأولى، فإنّها قد لا تحقق المطلوب؛ فلذا في موضوع المدافعين عن الحرم والمقدسات والذين جاؤوا من مختلف الدول العربية والإسلامية، في البداية كان شديد الاهتمام بكل التفاصيل وبعد ذلك تركها للمسؤولين الذين تحملوا مسؤوليات شتى في هذا الموضوع.
*يمكن أن نقول إن حزب الله مر بأربع مراحل، أي عدم الدخول في السلطة ثم الانتخابات النيابية والدخول إلى البرلمان ثم الدخول في الدولة؛ ثم انتقل إلى قوة فاعلة تؤثر على كل مجريات الأمور ولها دورها اجتماعيا وسياسيا بل وأكثر من ذلك؛ مقاومة على مستوى الإقليم. في الخطاب الذي ألقاه سماحة السيد بعد استشهاد الشهيد سليماني تحدث عن مرحلة جديدة، أي المرحلة التي تُقال إنها مرحلة ما بعد الشهيد سليماني والتي ليست كما قبلها. هل يمكن أن نقول خاصة مع المطالبات العالية بجلاء القوات الأمريكية من المنطقة وما إلى ذلك، إن المقاومة بشكل عام وحزب الله بشكل خاص قد دخل مرحلة جديدة يمكن أن نسميها مرحلة مواجهة الهيمنة الاستعمارية والأمريكية في المنطقة؟ وما هي آفاق هذه المرحلة؟
اغتيال الأمريكيّين مؤشّرٌ حقيقيّ على تعب الأمريكيّين وإصابة عقولهم بالخلل
نعم ... نحن في مرحلة جديدة بلا شك، وما فعله الأمريكي باستهداف القائدين الشهيدين الحاج قاسم والحاج أبي مهدي المهندس هو مؤشر في الحقيقة على تعب الأمريكيين وعلى أن العقول الأمريكية في المنطقة أصيبت باختلال كبير؛ والسبب هو أن محور المقاومة قد حقق إنجازات كثيرة وكبيرة جدا أدت إلى إضعاف الأمريكيين في المنطقة. وهذه المرحلة الأمريكي هو الطرف الأساسي فيها مع الإسرائيلي وبعض الدول العربية الداعمة مالياً، ومحور المقاومة هو الطرف الآخر بما فيه الجمهورية الإسلامية وكل المقاومين وفصائل المقاومة في المنطقة.
اغتيال قادة النّصر جاء نتيجة الخسائر التي ألحقها محور النّصر بالمشروع الأمريكيّ
الشيء المهم هو أن الأمريكي حينما أقدم على هذه الخطوة نتيجة الخسائر التي مُني بها على مدى كل الفترات الماضية يتوقع أن محور المقاومة لن يسكت إلا بإخراج القوات الأمريكية من المنطقة. هل هذا دليل على أننا بدأنا؟ في الحقيقة منذ بداية تأسيس العمل المقاوم نحن في مواجهة مع الاستكبار الأمريكي في هذه المنطقة تارة بشكل مباشر وتارة بشكل غير مباشر. لا يُقال إنه اليوم بدأت المعركة مع الأمريكيين، فالمعركة معهم بدأت منذ اليوم الأول. الأمريكيون كانوا دائماً من الداعمين الأوائل للصهاينة وكانوا من الداعمين الأوائل للحكام وللسلطات التي ظلمت الشعوب والتي تحكمت وهيمنت على الشعوب وعلى مصالح ومنافع هذه الأمة.
مرحلة ما بعد اغتيال الحاج قاسم سليماني، مرحلة قلع الهيمنة الأمريكيّة
نحن دخلنا في مرحلة جديدة من مراحل المواجهة مع الاستكبار الأمريكي في المنطقة أي مرحلة قلع هذه الهيمنة وإخراج هذا النفوذ من المنطقة. فلنقل نحن في المقطع الأخير من مقاطع المواجهة التي بدأت منذ أربعين عاماً. نحن في المرحلة الأخيرة وهذه المرحلة الأخيرة عادة تكون الأصعب والأشد لأنه كما نعلم، في الوصول إلى القمة كلما اقتربت من القمة يزداد التعب ويزداد العناء لتصل إلى نتائج أفضل وهذا إن شاء الله سيحصل في هذه المنطقة.
*تمّ اغتيال الشهيد سليماني، أولا لماذا كان هذا الاغتيال متأخراً؟ فكان يمكن اغتياله في محطات سابقة.. ثانياً، الأمريكيون يتهمون الشهيد سليماني بقتل الأشخاص. هل كان الشهيد سليماني يستعمل أسلوب الاغتيالات في عملياته الجهادية؟
بالنسبة للسؤال الأول يجب القول إن الأمريكي كان قد وضع لنفسه ضوابط فيما يرتبط بحياة الشهيد الحاج قاسم سليماني، تجاوز هذه الضوابط نتيجة الخلل غير المسبوق الذي شعره به على المستوى العسكري وعلى المستوى السياسي في العراق وفي المنطقة، فاتخذ القرار بارتكاب هذه المغامرة، وهي مغامرة؛ لماذا لم يقدم عليها في الماضي؟ لأنه يعرف أن ردة الفعل ستكون قاسية وصعبة. حينما يقبل الأمريكي أن يتحمل ردة الفعل القاسية والصعبة، يكون معنى ذلك أنه في وضع صعب جداً جداً ولهذا هو أقدم على مثل هذه الخطوة والتي وصفناها بأنها خطوة غبية وليست ذكية على الإطلاق، والنتائج ستؤكد إن شاء الله كل هذا الكلام.
أين قتل الحاج قاسم سليماني الأمريكيين؟ الذي واجه الأمريكيين هم شعوب المنطقة. الشعب العراقي هو الذي واجه بمقاومته، وفي لبنان من واجه الأمريكيين هم الشرفاء الذين أرادوا أن ينفضوا غبار الذل والعار حينما جاءت البوارج الأمريكية إلى لبنان.
*سماحة السيد، هل كان الشهيد سليماني يفكر في أسلوب الاغتيالات؟ خلال هذه المسيرة عمرها 22 سنة هل لاحظتم منه أنه مثلا كان يطرح ما يرتبط بأسلوب الاغتيالات؟
الحاج قاسم سليماني لم يكن مضطرا أن يلجأ إلى الأساليب الملتوية وهو الذي كان صريحاً وفصيحاً في مواقفه، وهو الذي كان ينتقل من بلد إلى بلد دون إجراءات أمنية استثنائية. وظيفته كانت دعم هذه الشعوب، وظيفته كانت دعم المقاومة في هذه المنطقة، الأمريكي هو الذي جاء واحتل هذه المنطقة وفرض هيمنته وسلطته على هذه المنطقة. من واجه الأمريكي هم الشعوب الإسلامية والعربية. الحاج قاسم سليماني هو قائد عسكري كبير وجنرال له خبرة وله تاريخ؛ يفكر دائما بالأساليب الصحيحة التي توصله إلى تحقيق الأهداف.
*كيف تلقيتم نبأ إستشهاد الشهيد سليماني وماذا كان شعوركم وكذلك شعور سماحة السيد حسن نصرالله؟
لا شك في أن اللحظات الأولى بعد تلقي الخبر كانت تنتابنا مشاعر مختلفة، لا أريد أن أقول متناقضة، ولكن كانت تأتي إلى البال بشكل مباشر لكي نستوعب ما حصل في اللحظات الأولى، بينها فكرة أننا خسرنا خسارة كبيرة وهي فقدان كبير جدا، خاصة أن الحاج قاسم سليماني له هذه المكانة الكبيرة سواء في قلوبنا أو في عقولنا أو في مقاومتنا أو في الدور الأساسي الذي كان يلعبه. شعرنا بخسارة فادحة وكما قلت قبل قليل كأن جبلا كنا نستند إليه قد تمت إزاحته؛ ولكن في نفس الوقت كانت تأتينا مشاعر وهي أن الحاج قاسم فاز وربح وهذه هي الغاية التي كان يتمناها. كنا نستأنس لأنه حقق أمنيته وهو الذي كنا نقول له أتعبتنا يا حاج قاسم وأنت تتحدث عن الشهادة فقلنا "خلاص ارتاح الرجل وحقق أمنيته"، فإذن هو مرتاح في الملكوت الأعلى وفي جوار النبيين والشهداء والصديقين، بالنتيجة حقق هذا الرجل بعد كل هذه العقود من التعب والجهد غايته وهي ليست غاية ذاتية أو شخصية بل غاية مليئة بالقيم ومليئة بالمعنويات وحقه أن يصل إلى هذا المقام فهي مقام في الحقيقة.
فكانت تنتابنا هذه المشاعر، خسارة كبيرة وفوز كبير وأمل كبير بأن التجربة علمتنا أن أمثال هذه الدماء الزكية تنتج ولادة جديدة للعمل المقاوم في المنطقة وهذا إن شاء الله بدأ يتحقق.
*السؤال الأخير سماحة السيد .. إحدى الجامعات الأمريكية ذكرت في تقرير عن المجتمع الإيراني بعد استشهاد الشهيد سليماني بأن ثمانين بالمئة من الشعب الإيراني كان مع الشهيد سليماني، وأنا أظن أن هذه النسبة أعلى؛ ولكنها اعتراف من جامعة أمريكية. ماذا على مستوى الشعوب في المنطقة وتأثير دم الشهيد سليماني وشهادة الشهيد سليماني على الجو العام لشعوب المنطقة؟
دماء الحاج قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس قلبت المنطقة،كل المنطقة. فشعوب المنطقة استيقظت على حقيقة كانت بأمس الحاجة أن تعرفها وأن تراها وأن تشهدها، وأنا أقول لك أن الأمريكي ساعد على ذلك سواء بطريقة الاغتيال أو بما أعلنه لاحقا من صفقة القرن. الذي يرفض صفقة القرن سيجد نفسه حتما إلى جانب دماء الحاج قاسم سليماني والذي يحب الحاج قاسم سليماني والمقاومة سيجد نفسه حتما بوجه صفقة القرن؛ فاليوم نحن سنشهد وبدأنا نشهد حالة شعبية مقاومة كبيرة، وهذا الذي يعوَّل عليها عادة؛ فالمقاومات الصادقة لا تعول على الدول الاستكبارية والظالمة، بل وتعتمد على شعوبها وتعول على شعوبها. أعتقد أنّ الشعوب في منطقتنا عرفت جيداً من هو الحاج قاسم سليماني، وستكون جاهزة إن شاء الله. أنظر إلى المظاهرات في اليمن، أنظر إلى فلسطين، أنظر إلى لبنان وكذلك مظاهرات العراق الضخمة والتشييعات الضخمة والمظاهرات المليونية. إذن نحن أمام حركة جديدة إن شاء الله تنمو يوما بعد يوم وبفضل هذا العمل المقاوم المستمر ستحقق إن شاء الله المراد والمبتغى المطلوب منها.