بسم الله الرحمن الرحيم،[1]
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين المكرّمين، ولا سيما بقية الله في الأرضين.
بدايةً أقدّم سلامي وتحيتي إلى الحضور المحترمين جميعاً، الإخوة والأخوات الأعزاء الذين شاركوا في هذا المحفل العظيم. أسأل لكم التوفيق، إن شاء الله. كنا قد اشتقنا للإمام (قده) ولهذا المحفل الدافئ الذي كان يقام كل عام عند المرقد المطهر للإمام. نشكر الله أن عُقد هذا اللقاء والمحفل الدافئ والهادف مرة أخرى هذا العام. الإمام الجليل هو روحُ الجمهورية الإسلامية. إذا أُخذت هذه الروح من الجمهورية الإسلامية ولم تعد محطّ اهتمام، فستبقى مثل نقش على الحائط.
حديثي اليوم هو عن الأبعاد لشخصية إمامنا العزيز والجليل. بالطبع، في عدد من السنوات الماضية، جرى الحديث عن بعض الجوانب من شخصية الإمام - لقد تحدثنا، وتحدّث آخرون - ورغم ذلك، لا يزال هناك كلام كثير لم يُقل:
مهما قلت في العشق شرحاً وبياناً حين آتي إليه أصير منه خجلاناً[2]
لا تزال أبعاد كثيرة لشخصية إمامنا الجليل غير معروفة. في الحقيقة إن جيل الثورة الحالي، خاصة جيلنا الشاب، لا يعرف الإمام العزيز حق المعرفة، ولا يفهمه [كلّ الفهم]، ولا يعرف عظمة الإمام؛ يقارن الإمام بأمثال هذا [العبد] الحقير في حين أن المسافة كبيرة جداً! إن المسافة فلكية. كان الإمام شخصية استثنائية بالمعنى الحقيقي للكلمة.
إن التعرّف إلى الإمام أمر مهم لجيل الشباب لناحية أنه يساعدهم على إدارة مستقبل البلاد على النحو الأكثر كفاءة. الإمام ليس إمام الأمس فقط، إنما هو إمام اليوم وإمام الغد أيضاً. جيلنا الشاب والذكي، الذي من المفترض أن يحمل على عاتقه المسؤولية الوطنية والثورية للخطوة الثانية من هذه الثورة وإدارة المستقبل لهذا البلد، يحتاج إلى برنامج حقيقي. ولكي يتمكن من مواصلة نهج الثورة على نحو صحيح يوصل إيران والشعب الإيراني إلى أعلى القمة هو بحاجة إلى برنامج موثوق وشامل يمكن أن يساعده. هذا البرنامج، الذي يمكن أن يكون مسرّعاً ومساعداً وفي بعض الأحيان باعثاً على التحّول، هو دروس الإمام، دروسٌ يمكن البحث عنها والعثور عليها في كلام الإمام وسلوكه.
النقطة الأولى التي ينبغي الحديث عنها حول الإمام الخمينيّ هي قضيّة القيادة لأعظم ثورة في تاريخ الثورات، وسوف أعرض لاحقاً شرحاً حول هذه القيادة.
لماذا نقول: «أعظم ثورة في تاريخ الثورات»؟ هناك كثير من الثورات الصغيرة والكبيرة في تاريخ الثورات، والأشهر بينها كلّها الثورة الفرنسيّة الكبرى عام 1789 من القرن الثامن عشر، ثم الثورة السوفييتية عام 1917 في القرن العشرين. هاتان الثورتان هما أشهر الثورات الكبرى في تاريخ الثورات، لكنّ الثورة الإسلاميّة أعظم من هاتين، لماذا؟ هناك أسباب مختلفة، وسأشير إلى مسألة مهمّة وأساسيّة هي أنّ هاتين الثورتين، أي الفرنسيّة والسوفييتية، انتصرتا بالنّاس، فالنّاس هم مَن أوصلوهما إلى الانتصار. لكن بعدما انتصرت الثورة، صار النّاس بلا دور وعُمِل على استبعادهم. لم يستطع النّاس مع استمرار هذه الثورة التي أطلقوها بأجسادهم وأرواحهم وحضورهم في الشوارع أن تكون لهم مشاركتهم وحضورهم. ماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أنّ هاتين الثورتين انحرفتا بسرعة عن مسارهما الشّعبي الأوّل. بعد نحو اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة على انتصار الثورة الفرنسيّة الكُبرى – الثورة التي انطلقت ضدّ الملكيّة – صارت دولة فرنسا ملكيّة مرّة أخرى، فتولّى نابليون الحكم ووضع تاج المُلك على رأسه، وعادت الملكيّة. بقي نحو خمس عشرة سنة في رأس السلطة، ثمّ أُزيح وعادت تلك العائلة نفسها التي انطلقت الثّورة الفرنسيّة ضدّها، فعادوا وتولّوا إدارة شؤون فرنسا، آل بوربون؛ جاء هؤلاء أنفسهم مرّة أخرى. هذا ما يحدث عندما لا يكون النّاس حاضرين في الميدان. وفي الثّورة السوفييتية أيضاً، لم يطل الأمر حتى اثنتي عشرة سنة. النّاس هم مَن ثاروا لكن بعد بضع سنوات قصيرة مارسَ ستالين[3] ومن خَلَفوه حجماً من الاستبداد والدكتاتوريّة على دول الاتحاد السوفييتي – الدّول التي كانت تشكّل مجتمعةً الاتحاد السوفييتي سابقاً – لم تشهده الملكيّات التي سبقته. ومرّة أخرى لم يكن للنّاس دورٌ وباتوا مهمّشين. لكن لم تكن هذه هي الحال في الجمهوريّة الإسلاميّة.
الثورة الإسلاميّة انتصرت بحضور النّاس وبأجسادهم وأرواحهم، لكن لم يجرِ استبعاد النّاس. بعد خمسين يوماً، أي أقلّ من شهرين على انتصار الثورة الإسلاميّة، أُجريَ الاستفتاء الشّعبي العام واختار النّاس نظام الحكم، ومُنحت الإرادة للنّاس. اختار النّاس نظام حُكم «الجمهوريّة الإسلاميّة» في استفتاء عام وانتخابات حرّة. كانت قد مرّت سنة تقريباً على انتصار الثورة الإسلاميّة حين اختير رئيس الجمهوريّة الأوّل بانتخابات شعبيّة، وبعد أشهر أيضاً جرى تشكيل «مجلس الشورى الإسلاميّ»، أيْ المجلس التشريعيّ، بانتخابات شعبيّة. مرّ نحو 43 أو 44 سنة على ذلك اليوم، وجرت قرابة خمسين عملية انتخاب في هذا البلد. دخل النّاس وخاضوا غمار الميدان، وهم حاضرون في الميدان ينتخبون ويُدلون بأصواتهم. هنا تَكْمن عظمة هذه الثورة الإسلاميّة، والإمام كان قائداً لمثل هذه الثورة.
طبعاً ما قلناه هو واحد من أوجه عظمة الثورة. هناك أوجه أخرى أيضاً تجعل هذه الثورة، الثورة الإسلامية، مختلفة تماماً عن الثورات الأخرى، وأحد هذه الوجوه هو حضور الروحانية في هذه الثورة. في الثورات الصغيرة والكبيرة السابقة، سواء الفرنسية والروسية أو الثورات الصغيرة التي حدثت خلال هذه السنوات في القرنين العشرين والتاسع عشر، كانت الروحانية مفقودة، وكان الجانب المعنوي للإنسان، وهو من الحاجات الأساسية له، مفقوداً ومغفلاً تماماً ولم يهتم به أحد. الثورة الإسلامية ثورة تهتم بالجانب المادي للإنسان وكذلك الروحي. لقد اهتمت به وتطرّقت إليه.
حسناً كان الإمام (رض) قائد هذه الثورة، وقائد النهضة التي أدت إلى هذه الثورة. الآن، ماذا يعني «قائد النهضة والثورة»؟ هنا تتضح عظمة عمل الإمام. طبعاً الناس هم الذين أوصلوا الثورة إلى الانتصار، وهذا مما لا شك فيه. لو لم يدخل الناس الميدان بأجسادهم وبأرواحهم وبحضورهم وبتضحياتهم وباستشهادهم، ما انتصرت الثورة. الناس هم مَن جعلوا الثورة تنتصر، ولكن مَن كانت تلك اليد القوية التي استطاعت أن تجعل هذا المحيط يتلاطم؟ هذا هو المهم. تلك اليد القوية، وتلك الشخصية الفولاذية، وذلك القلب المطمئن، وذلك اللسان الذوالفقاري الذي استطاع جلب ملايين الناس من مختلف الفئات إلى الميدان وإبقاءهم فيه، وأزاح اليأس والقنوط عنهم، وعلّمهم اتجاه الحركة، كان الإمام الجليل. لقد كان الخميني العظيم!
جلب الإمام الناس إلى الميدان، ودلّهم على طريق الحل، وأبقاهم في الميدان، وأزاح عنهم اليأس والتردد. لم يكن أي شخص آخر في هذا البلد قادراً على هذا العمل. كنا نعرف شخصيات سياسية وشخصيات من علماء الدين، [نعرف] كثيرين منهم من قرب وبعضهم من بعيد. لم يكن أحد قادراً على حمل هذه المهمة الثقيلة وهذا العبء الثقيل على كتفه وأن يوصله إلى مكانه. كان هذا العمل حصرياً عمل الإمام الجليل. هو مَن استطاع أداء ذلك العمل.
كذلك، كان الإمام يحدد «ميدان النضال» في المراحل المختلفة، ويُعلم الناس أين ميدان النضال في المراحل المختلفة وبما يتناسب معها: خلال مرحلة النهضة على نحو ما، وفي أوج الأيام الدامية لانتصار الثورة على نحو آخر. عندما كان النظام يلفظ أنفاسه الأخيرة ويفكّر في إقامة حكومة عسكرية في طهران بمساعدة أمريكا وإرسال الناس إلى بيوتهم، إذ بغياب الناس يقضون على الأمر تماماً من الجذور، قال الإمام للناس بإلهام من الله - بإلهام من الله حقاً، وقد قال الإمام نفسه هذا لاحقاً - أن ينزلوا إلى الشوارع. كان كثيرون من السياسيين الثوريين في تلك الساعة معارضين لهذا العمل ويقولون إنه يشكّل خطورة على الناس. قال الإمام: كلا! وأبلغ الناس بالنزول إلى الشوارع. كان هذا تحديد ميدان النضال. اتضح أنه في هذه الساعة، وفي هذا اليوم، النضالُ هو أن يأتي الناس من البيوت إلى الشوارع. هكذا كان يُحدد الميدان.
في الأشهر الأولى، حدد الإمام ميدان النضال. في الشهر الثاني من الثورة، كان ميدان النضال إجراء استفتاء عام والتصويت على نوع الحكومة الإسلامية ومواجهة أعداء الثورة.
في مرحلة ما، كانت قضية باوه. في قضية باوه ومحاصرة القوى الثورية والنضالية الإسلامية، أصدر الإمام أمراً بأن يذهب الجميع. لا أنسى تلك الساعة ذلك المساء. أخذت طهران منظراً عجيباً. كان الجميع في الشوارع ويبدو أنهم يريدون الذهاب إلى باوه ويبحثون عن سيارة ووسيلة نقل ليذهبوا ويتوجهوا نحو باوه حيث قال الإمام. لقد حدد ميدان النضال.
خلال الحرب المفروضة على نحو ما، وفي مواجهة الانقلاب الأمريكي في قاعدة «همدان» الجوية على نحو آخر. أرى أنه يجدر أن أقول هذه القصة: بعدما جاء شاب طيار في سلاح القوة الجوية - صاحب ضمير ومتدين - في منتصف الليل وأبلغني أنه من المقرر أن يحدث انقلاب، وبالطبع أبلغنا الأجهزة المختلفة وتمت الجهوزية، ذهبنا، أنا والمرحوم الشيخ هاشمي [الرفسنجاني] لخدمة الإمام، وكنا قلقين من أن يقع حادث له، فاقترحنا عليه أن يخرج من منزل جماران لكن سماحته لم يقبل. قال: لن أذهب من وسأبقى هنا، ولكن أنتم اذهبوا إلى المكان الفلاني. ذكرَ مكاناً معيّناً - لا أريد أن أذكره - وقال: اذهبوا وحافظوا عليه. كان يحدد الميدان.
كذلك خلال مرحلة «الدفاع المقدس»، وفي التصدي لصدام [حسين]، وبعد صدور قرار مجلس الأمن. انظروا إلى بيان الإمام في قبول القرار، فترون أن الإمام كان قد حدد تكليف الناس لما بعد قبول القرار. كان قد شرح وبيّن ميدان النضال للناس إلى ما بعد رحيله. هذه الوصية والتصريحات المهمة في العام الأخير من حياة الإمام الجليل (رض) كلها تحديد لميدان النضال ما بعده.
حسناً هذا ما تعنيه قيادة الثورة. إن قيادة الثورة كلمة غنية بالمضمون ومليئة بالمعنى بشأن الإمام الجليل. الآن، في ما يتعلق بدراسة شخصية هذا القائد العظيم، يُمكننا مناقشة كل من ميزاته الشخصية وكذلك التحدث عن مدرسته. بالطبع هذه مواضيع طويلة ومفصلة. سأحاول أن أقول شيئاً موجزاً جداً في هذا الصدد.
من حيث الميزات الشخصية، كان الإمام الجليل إنساناً مميزاً بالمعنى الحقيقي للكلمة. كان مميزاً حقاً. كانت ميزاته الشخصية ميزات قلّ أن توجد مجتمعة كلّها في شخصية. لا نعرف أحداً - أعني، أنا حقاً لا أعرف أي شخص حتى على مر تاريخنا - لديه كل هذه الخصائص معاً.
أولاً، كان طاهراً وتقيّاً. كان الإمام الخمينيّ شخصيّة تقيّة وورعة ونقيّة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة.
ثانياً كان من أهل الروحانيّة والحالات العرفانيّة. كان من أهل الروحانيّة، ومن أهل الحالات العرفانيّة. كان من أهل البكاء عند السّحر. أخبرَني المرحوم الحاج السيّد أحمد الخمينيّ أنّ الإمام حين ينهض في الأسحار ويبكي أثناء الصّلاة والدعاء لم يكن يكفيه المنديل العاديّ لديه. كنا نضع له منشفة، المنشفة التي تُستخدم لتجفيف اليد والوجه من أجل الدّموع! كان من أهل هذه الروحانيّات.
كان من أهل اللطافة الروحيّة. هذه الكتب المعنويّة للإمام مثل آداب الصّلاة وشرح حديث جنود العقل والجهل ألّفها الإمام تقريباً في أيّام الشباب أو بداية منتصف العمر، في سنّ الأربعين تقريباً. لقد كان هكذا منذ أيّام الشباب.
كان الإمام قد دمج بين الحماسة والعرفان، وكان مُسطّراً للملاحم، وأيضاً صاحب معرفة وروحانيّة.
من الناحية الأخلاقيّة، كان شجاعاً بالمعنى الحقيقيّ للكلمة. نقلوا عن الإمام – لم أسمع ذلك شخصيّاً [منه] – أنّه قال: «والله لم أشعر بالخوف حتّى الآن»، لكن ما رأيته بنفسي وسمعته شخصيّاً من الإمام [كان كذلك]. في إحدى المرات، كنت أكلّمه في قضيّة ما – ثمة مشكلة كنت أشرحها له وأقدّم اقتراحاً – وخلال كلامي قلت له: «أنت لا تفعل هذا الأمر لأنّك تخاف...»، أي أقصد القول إنّك تخشى وقوع المشكلة الفلانيّة، فما إن أقول له [كلمة]: تخاف، حتى كان سماحته يقول: أنا لا أخاف شيئاً! هذه ميزته. لم أكن أقصد قول: «أنت جبان». ذاك تعبير عُرفيّ عاديّ يعني «أنّك تراعي من أجل تجنّب هذا الأمر»، لكن عندما استخدمت كلمة الخوف، قال سماحته: أنا لا أخاف شيئاً. كان شجاعاً بالمعنى الحقيقيّ للكلمة.
كان صاحب حكمة وعقلانيّة ومن أهل الحسابات. لم يكن يفعل شيئاً ويُبادر إليه دون أن يُجري الحسابات. كان يُجري الحسابات، وحين يتوصّل إلى نتيجة إثرها، يُقدِمُ على الفعل بمنتهى الحزم، ولم يكن يشوب عمله أيّ تردد وزعزعة.
كان لا ييأس أبداً. هذه الأحداث كلها حدثت في السنوات الأولى للثورة – هذا الاستشهاد والشهادة الجماعية والأحداث المختلفة - [لكنها] لم يكن لها ذاك الأثر في قلب الإمام حتى تجعله ييأس أبداً. لقد كان من أهل الصدق بالمعنى الحقيقي الكلمة. كان صادقاً، كان صادقاً مع الله والناس أيضاً. كان ملتزماً عهده. عند بداية وصوله إلى طهران عام 1979 في 12 بهمن (1 شباط/فبراير)، وفي الخطاب ألقاه في «بهشت زهرا» (جنة الزهراء)، قال: سأعيّن الحكومة. بعد أربعة أيام، عيّن الحكومة. خلال هذه الأيام الأربعة طلبَ المجلس الثوري وذهبنا إلى هناك. على ما يبدو أنه كان قد أوصى بعض أعضاء المجلس الثوري، مثل الشهيد مطهري والشهيد بهشتي ونحوهما بإيجاد شخص ما، [لكن] لم يكونوا قد اتّخذوا أيّ إجراء بعد. حينذاك كان الإمام مُستاءً وتحدث بعتب: لماذا لا تتصرفون؟ هكذا كان. كان منظّماً جداً ويقدّر الوقت. وبالطبع، رأينا أفعالاً كثيرة منه في هذا المجال. كان من أهل التوكل بالمعنى الحقيقي للكلمة. كان مقتنعاً وواثقاً بوعد الله؛ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق، 3). كان المصداق الحقيقي لهذه الآية. كان مناضلاً. حسناً سأشرح المناضل لاحقاً. سأشرح ماذا تعني عبارة «كان مناضلاً». ومن قبيل هذه الميزات، كان للإمام سمات مميزة أخرى أيضاً. كانت هذه هي الميزات الشخصية للإمام.
أما بشأن المدرسة والمبادئ والأهداف، فإذا أردنا تقديم الأساس لمدرسة نضال الإمام وثورته في جملة واحدة، يجب أن نقول إن أساس نشاطاته كلها كان «القيام لله». الهدف كان «القيام لله». ذاك الذي كتبه في مذكرته الشهيرة في مرحلة شبابه في مكتب المرحوم وزيري اليزدي[4] (رح): {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} (سبأ، 46). «القيام لله»، إذْ إن هذا القيام لله لديه جذور قرآنية متينة جداً. [شُرح] «القيام لله» في هذه الآية من سورة نبأ - {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ} - أو: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} في سورة البقرة المباركة، أو في آية أخرى من سورة المدثر في أول البعثة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)}. هذا يعني «القيام لله». طبعاً هذا «القيام لله» قد يكون في كلّ مرحلة بطريقة ما.
إن «القيام لله» لا يكون بالطريقة نفسها دائماً، ولكن الهدف من «القيام لله» فيها كلها ليس إلا شيئاً واحداً هو إقامة الحق وإقامة العدل والقسط ونشر الروحانية. هذا هو [الهدف] في المراحل كلها، أيْ إقامة الحق. «القيام لله» في مرحلة يكون على صورة نضال بذاك الشكل، وفي مرحلة يكون بصورة عمل علمي، وفي مرحلة أخرى يكون على نحو حركة سياسية، ولكن في هذه كلها يجب أن يكون الهدف من «القيام لله» إقامة الحق، هذا أولاً. وإقامة القسط والعدل، هذا ثانياً. ونشر الروحانية، هذا ثالثاً. الهدف هو هذه [الأمور]. لقد دوّنتُ آيات القرآن الكريمة، ويمكنكم أن ترجعوا إلى المعجم بشأن كلمة «قامَ» حيث يتضح ماهية السبب من هذا القيام. على سبيل المثال: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد، 25)، إذْ إنّ كل مجيء الأنبياء وذهابهم وإرسال الرسل وإنزال الكتب هو من أجل: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}... أو في الآية الشريفة من سورة النساء: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ (127)}، أو في الآية من سورة الرحمن: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ (9)}، أو في سورة الشورى: {أَقِيمُوا الدِّينَ (13)}، أو في سورة المائدة: {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (68)}، وفي مواضع كثيرة من القرآن: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}[5]، ومواضع أخرى حيث لا بد أن ينتهي «القيام لله» بإقامة هذه الأمور. هذا هو الهدف من «القيام لله».
حسناً، لقد قلنا إن الإمام كان مناضلاً. وهذا يعني الحضور الدائم للإمام في ميدان «القيام لله». كان الإمام يحرص على «القيام لله» بالمعنى الحقيقي للكلمة. كانت إقامة الحق والعدل هدف الإمام بطبيعة الحال. حسناً، كيف يمكن أن يتحقق هذا الهدف؟ إقامة الحق والعدل كان هدف الإمام، لكن هل تمكن إقامة الحق والعدل تحت السقف البائس لحكومة بهلوي أو أي حكومة تابعة له؟ بالطبع، لا. لذا إن الهدف التالي يكون في أن يشق الإنسان هذا السقف. كان الإمام يسعى إلى إزالة هذا السقف البائس للحكومة البهلوية من فوق رأس هذا الشعب، ومعالجته وتهيئة الأرضية لحركتهم وقيامهم وتقدّمهم: «فلنشقّ سقف السماء ونضع رسماً جديداً»[6]؛ كلٌّ من الإثبات والنفي: أولاً نفي ذلك النظام الطاغوتي، ثم إثبات الساحة السياسية المنشودة التي ستمضي بالشعب إلى الأمام. حسناً، كانت هذه هي حركة الإمام في النفي والإثبات.
كانت هناك نقاط عدة متجلية في الحركة العظيمة للإمام: أولاً لم يكن لديه خوف. لم يكن لدى الإمام خوف ولم يكن يجامل. كان لديه الصراحة واللسان البليغ. هذا بشأن مرحلة النهضة، سواء في قم أو النجف، حيث كان يتحدث إلى الناس ويبيّن لهم باستمرار ويوجههم. حقاً كان لسانه الذوالفقاريّ قاطعاً حيث مضى هذا الجليل بهذا الأمر على هذا النحو. كان صريحاً.
كان لديه ثقة بالناس. واحدة من ميزات الإمام المهمة هي الثقة بالناس منذ اليوم الأول. كان هناك أشخاص ممن كانوا يرغبون في النضال، لكنهم كانوا يقولون إن الناس لن يتبّعونا. [لكن] الإمام، لا، كان الإمام منذ اليوم الأول يعتقد أننا إذا دخلنا الميدان، فسيأتي الناس. في بداية النهضة، عام 1962، وفي قم، وفي الخطاب بعد الدرس، أشار سماحته بيده وقال: إننا إذا قلنا للناس أو طلبنا منهم - بتعبير مثل هذا - فإن الناس سيملؤون هذه الصحراء.[7] هذا يعود إلى عام 1962 حين كان كثيرون لا يعرفون الإمام بعد، ولم يكونوا قد سمعوا حتى باسمه. لقد كان لديه ثقة وإيمان بالناس على هذا النحو. كان يقدّر نضالات الناس، ويقود الحركة بالمعنى الحقيقي للكلمة، ويُبقي القلوب دافئة بنَفَسِهِ الدافئ، ولم يتركنا نتردد، ولم يكن الناس في معزل عن وجهات نظر الإمام. حسناً، هذا يتعلق بمرحلة النفي، أي مرحلة النضال ضد نظام الطاغوت.
أما في مرحلة الإثبات، مرحلة تأسيس الجمهورية الإسلامية - هذا أمر مهم للغاية، حركة الإمام خلال تأسيس الجمهورية الإسلامية - فكان مسعى الإمام وخريطة طريق الإمام فصل المشروع الجديد عن الماضي المنحط للبلد، وفصل المستقبل تماماً عن الماضي. كان هذا مسعى الإمام. كيف يمكنه أن يفصل هذا المستقبل؟ على نحو لا يكون فيه المشروع الذي يقدمه ويقترحه لإدارة البلاد تابعاً للثقافة والحضارة والقاموس الغربي. كان الإمام مصرّاً على ألّا يكون هذا المشروع، مشروع الجمهورية الإسلامية، تابعاً لما يسمى «جمهورية» أو «سيادة شعبية» في الغرب. لذلك أنا قد أوضحتُ العام الماضي في خطاب هذا اليوم نفسه وبيّنتُ أن «الجمهورية» هي للإسلام، و«الجمهورية» ليست مستعارة من الغرب. إنها للإسلام نفسه. وحقيقة أنّ الإمام يشدّد على رأي الناس إلى هذا الحد نابع من معرفته بالإسلام. لذلك، كان الإمام [عازماً] على فصل الجمهورية الإسلامية عن المدرستين اللتين كانتا رائجتين في العالم في ذلك الوقت، وهما الديمقراطية الليبرالية القائمة على الرأسمالية والنظام الشيوعي الديكتاتوري. لذلك إن أحد الشعارات المبدئية للإمام كان «لا شرقية ولا غربية». لا الشيوعية ولا الليبرالية. ليس هذا النظام الرأسمالي في الاقتصاد وتلك الحريات بلا قيد ونظم في الغرب، ولا الاختناق والاستبداد الذي كان موجوداً لدى الأنظمة الشرقية؛ لم يقبل الإمام أياً من هذين. لا شرقية ولا غربية. قدّم الإمام أنموذجاً جديداً لنظام الجمهورية الإسلامية يختلف تماماً عنهم.
في نموذج الإمام، كانت الثنائيات منسجمة ومتناسقة مع بعضها بعضاً. هذه الثنائيات التي دوماً كان هناك سعيٌ إلى وضعها مقابل بعضها بعضاً قد انسجمت في نموذج الإمام: الروحانية – الروحانية الدينية - [إلى جانب] رأي الناس أيضاً. الروحانية، وكذلك رأي الناس. دوماً كان هناك سعيٌ لوضع هذين الاثنين مقابل بعضهما بعضاً، لكن ذلك لم يحدث. لقد جمعهما الإمام معاً.
[كذلك] تنفيذ الأحكام الإلهية إلى جانب مراعاة المقتضيات والمصالح العامة. شكّل الإمام «مجمع تشخيص مصلحة النظام». هناك من يعتقد أن هذا العبد قد شكّله. كلا، كُنت رئيساً للجمهوريّة، وكتب لي الإمام رسالة، وقد أَوجد الإمام هذه الجلسة لتشخيص المصلحة. [أيضاً] يجري تنفيذ الأحكام الإلهية لكن تجب مراعاة مقتضيات الزمان والمصالح العامة للمجتمع. هذا المراد من المصلحة وليس مصلحة الأشخاص.
[أيضاً] مسألة مراعاة حال الضعفاء والإصرار على العدالة الاقتصادية - العدالة الاقتصادية خصوصاً – إلى جانب إنتاج الثروة. إنتاج الثروة مسموح به وكذلك يجب التزام العدالة حتماً في البلاد، ومراعاة حال الضعفاء. [كذلك] رفض الظلم ورفض الخضوع للظلم أيضاً. بصفتنا حكومة ودولة نحن لا نظلم الدول والشعوب الأخرى، ولا نرضخ لظلمهم. نحن لا نقول الزور، ولا نستسلم له. نعزّز العلم والمعرفة والاقتصاد في البلاد إلى جانب تقوية البنية الدفاعية. ليس الأمر على نحو أن نفكّر في الاقتصاد فقط، ونغفل عن الدفاع وأمن البلاد. والعكس كذلك. لا بدّ من مراعاة الانسجام والوحدة الوطنية [إلى جانب] قبول تنوّع الآراء والتوجهات السياسية المختلفة. هذه ثنائية أخرى أيضاً. التقوى والطهارة لدى المسؤولين لازمة، وكذلك خبرة المسؤولين وكفاءتهم. الالتزام والتخصص معاً. التفتوا! هذه ثنائيات حاول بعضهم في بداية الثورة أو قبلها أن يضعوها مقابل بعضها بعضاً [لكن] الإمام نسّق هذه الثنائيات وجعلها منسجمة وجمعها معاً. هذه خصائص مدرسة الإمام.
بالطبع، لم يكن لدينا القليل من الإخفاقات أيضاً. تقدّمنا، وكان لدينا ضعف وإخفاقات أيضاً. هنا أيضاً وجَّهنا الإمام بحكمة. في هذه الحالة أيضاً ما يمسك بيدنا هو توجيه الإمام. وجّه الإمام في العام الأخير من حياته رسالة[8] إلى أبناء الشهداء، يقول فيها: «صحيفة أعمالكم رهن جهودكم ومثابرتكم». ما ثابرتم وجاهدتم [من أجله] سوف تجنون نتيجته. تكملة كلام الإمام: «فالحياة في عالم اليوم هي العيش في مدرسة الإرادة». أينما دخل الشعب والمسؤولون إلى الميدان بإرادة قوية، فهناك نجاح، وحيثما تضعف الإرادة، يقل الجهد ويكون التخلّف. نعم، لدينا تأخّر، ولدينا تقدّم، وهذا مرتبط بنا. نحن كنّا - المسؤولين - أينما عمل الأفراد المؤثرون في المجتمع جيّداً، يكون هناك نجاح. وحينما قصّرنا وتكاسلنا وأهملنا، تأخّرنا بالطبع. هذا لا يمكن إنكاره إطلاقاً. المدرسة صحيحة والخطة صحيحة والطريق صحيح [لكن] يجب أن يكون السالك يتحرك بطريقة صحيحة. أينما تحركنا بصورة صحيحة، نتقدم إلى الأمام، وحيثما قصرنا وتكاسلنا، فقد تأخّرنا. هناك أمثلة كثيرة في هذه السنوات أيضاً، سواء في زمن الإمام نفسه أو بعد وفاته حتى اليوم.
طبعاً لا يجب تجاهل عداء الأعداء. دخلت الجبهة الواسعة للعدو إلى الميدان منذ بداية الثورة. يتصوّر بعض الناس أننا من دفعنا العدو إلى عدائنا. كلا؛ إن الجمهورية الإسلامية نفسها التي تقول إنها معارضة للظلم من الطبيعي أن تجعل الظالم يعارضها. أولستم تقولون إننا ضد الاستكبار والظلم؟ حسناً، أي شخص متكبّر، وأي شخص ظالم، وأيّ حكومة لديها هذه الصفات البغيضة، ستكون عدوة لكم. هذه هي الجمهورية الإسلامية. أنتم تقولون إننا أهل الروحانية، فأولئك الذين يعادون الروحانية لدى الناس جميعاً سوف يعارضونكم. الجمهورية الإسلامية تقول إننا ضد المنكرات و[لذلك] الذين اعتادوا المنكرات ويسعون وراءها ولا يمكنهم الابتعاد عن المنكرات سيعارضون الجمهورية الإسلامية بالطبع. هذا شيء طبيعي. يجب ألا نتجاهل جبهة العدو والأعمال العدائية.
بالطبع، هذه العداوات لها أقسام وأنواع. في الأيام التي سبقت انتصار الثورة، أرسل الأمريكيون جنرالهم[9] إلى طهران من أجل انقلاب فأخفق - بحمد الله - وعاد يائساً. في قضايا أخرى كثيرة أيضاً، أخفق الأمريكيون وأعداؤهم ويئسوا. هذه المسافة التي أوجدها الإمام، المسافة الحقيقية للإمام مع الغربيين، تخلق الأعداء بطبيعة الحال. لم يسمح لهم بالتدخل. سفارة فلسطين ومكتب فلسطين الذي كان بيد الغاصب أخذه منه وأعطاه للفلسطينيين الذين يملكون فلسطين. هذا يُوجد العداء بطبيعة الحال، وهو أمر قهري.
فليلتفت شبابنا إلى هذا [الأمر]: الغربيّون نهبوا العالم طوال قرون ثلاثة. ثلاثة قرون! نهبوا العالم. خُذوا من شرقي آسيا، من إندونيسيا، من الفيليبين، من النيبال، من شبه القارّة الهنديّة، [لتصلوا] إلى آسيا الوسطى وآسيا الغربيّة حتّى شمالي أفريقيا وأجزاء غربي أفريقيا، [وصولاً] إلى كل أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى... لقد نهب الغربيّون هذه المناطق طوال ثلاثة قرون، ولم يكتفوا بها أيضاً، بل وضعوا أيديهم على أمريكا الجنوبيّة كذلك، فنهبوا تلك المناطق. أيضاً [نهبوا] القارّة الأمريكيّة! القارّة الأمريكيّة كان لها أصحابها وحضارة وشعوب. هؤلاء استخدموا مُختلف الحِيَل – كلّها مدوّنة بالتواريخ الدقيقة، فلتقرؤوا الكتب، إن شاء الله، وأدركوا هذه الحقائق من كثب بصورة كبيرة – وارتكبوا الفواجع. القتل، النّهب، المجازر، التعذيب، القمع، الاستعباد، الاسترقاق... هذه الأفعال ارتكبها الغربيّون. خلال هذه القرون الثلاثة، وبينما كان الغربيّون منشغلين على أرض الواقع في ارتكاب الجرائم بتلك الطرق، كان مفكّروهم ومثقفوهم يكتشفون للعالم قانون حقوق الإنسان ويدوّنونه! إنّ هذا التناقض في الفعل والقول والعمل، وهذا النفاق، [سلوكٌ] مشهودٌ لدى الغربيّين. العمل بذلك الأسلوب، وباللسان بهذا الأسلوب! الدول الأوروبيّة ثم أمريكا ارتكبت في أنحاء العالم أنواع الجرائم وأشكالها بالمعنى الحقيقيّ للكلمة. حسناً، هذه تُحَف الحضارة الغربيّة. إنها تُحَف الحضارة الغربيّة!
عرف الإمام هذه الأمور جيداً. كان يعرفها جيّداً. ومن القضايا الرئيسية التي أصر عليها خلقُ مسافة وحدود بين الفكر ونمط الحياة الإسلامي والنظام الإسلامي مع الأنظمة الغربية، فكانت إحدى القضايا الرئيسية للإمام.
واحدة من المزايا العظيمة للإمام أنه عرّف الشعب إلى مفهوم المقاومة. يحدث في حالات كثيرة أن تسعى الشعوب إلى شيء ما، ولكن ليس لديها القدرة على المقاومة، فعندما تحدث الضغوطات، تتراجع. لقد ربّى الإمام الشعب على هذه الطريقة (المقاومة)، وقّواه على هذا النحو. لقد بثّ المقاومة والصمود في هذه الأمة. لذلك إن الشعب الإيراني اليوم شعب مقاومٌ بالكامل وقويّ تماماً.
الشكر لله! هذه أيضاً من بركات الإمام العظيم، فقد أدخل مفهوم «المقاومة» إلى الأدبيات السياسية العالمية اليوم. هذه المقاومة التي علمها الإمام للشعب الإيراني ولنا جميعاً تُعدّ اليوم من الكلمات البارزة في الأدبيات السياسية في العالم.
أود أن ألفت إلى نقطة مهمة حول قضية أطماع الأعداء هذه ومخططات الأعداء ومؤامراتهم والأحلام المضطربة التي يتطلعون إليها تجاه الشعب الإيراني. هذه النقطة لها شقّان أحدها أن أهم أمل للأعداء لضرب البلاد هو الأمل في الاحتجاجات الشعبية. يأملون أن يتمكنوا من وضع الناس في مواجهة النظام الإسلامي والجمهورية الإسلامية بالعمل النفسي وأنشطة الإنترنت والفضاء المجازي وأنواع ذلك وأقسامه. هذا الجزء الأول من القضيّة، ومن هذه النقطة. الشق الثاني هو أن حسابات العدو هذه في هذه المسألة، كما عدد من الحسابات الأخرى، هي حسابات مخطئة. في بداية الثورة، وعدوا بأن الجمهورية الإسلامية لن تعيش أكثر من ستة أشهر وستسقط. ثم بعد مرور ستة أشهر، مددوها ستة أخرى قائلين: ستة أشهر أخرى! مرّ اليوم أكثر من ثمانين «ستة أشهر» على الجمهورية الإسلامية التي كانت شتلة رفيعة وصارت شجرة ضخمة ومتجذّرة وأقوى وأكثر اقتداراً يوماً بعد يوم. كانت حساباتهم مخطئة هناك، وهنا أيضاً مخطئة. هذه الحسابات أيضاً مثل تلك، مثل حساباتهم في قضية الحرب المفروضة. لقد ساعدوا صدام معتقدين أن الجمهورية الإسلامية ستسقط في غضون أيام. لقد ساعدوا الانقلابيين على أمل أن يستطيعوا ارتكاب حماقة ما. كانت هذه جميعها حسابات أجراها الأمريكيون والغربيون، وكانت كلّها خطأ. اليوم أيضاً هذه الحسابات خطأ إذ يتخّيلون أن في استطاعتهم وضع الشعب الإيراني في مواجهة النظام الإسلامي والجمهورية الإسلامية مع أنهم يدركون أنّ الجمهورية الإسلامية تولي ذاك العامل أهمية كبيرة، وهو عامل الشعب.
لماذا يرتكب الأمريكيون هذا الخطأ؟ لأن عندهم مستشارين هم الخونة الإيرانيون الذين يقدّمون إليهم المشورة. حسناً، هؤلاء المستشارون الخونة يخونون بلادهم لكنهم في الواقع يخونونهم أيضاً، لماذا؟ لأنهم يقدّمون المشورة دون اطلاع صحيح، وأولئك المساكين يتصرّفون أيضاً وفقاً لنصائحهم فيخفقون. هذه إحدى كلماتهم ومن مشوراتهم: «عوّلوا على الشعب الإيراني في مواجهة النظام الإسلامي والجمهورية الإسلامية. ابتعد الشعب الإيراني عن الدين والنظام الإسلامي وعلماء الدين. يمكنكم الاعتماد على هؤلاء، هؤلاء يقفون ضد النظام الإسلامي». هؤلاء المستشارون الجهلة والخونة - الخونة لكلا الجانبين - يقولون ذلك لأسيادهم الأمريكيين، [وأولئك] يدفعون الأموال ويحّللون على هذا النحو، ويردّدون هذا في كلامهم وفي مجلس الشيوخ لديهم، ويكررونه في أماكن مختلفة، وفي الداخل أيضاً، يصدّق بعض السذّج. عددهم قليل، لحسن الحظ. نسمع أحياناً أنه في كتابات على الإنترنت أو وسائل الإعلام والصحف يقولون: نعم، الناس صاروا غير معتقدين بعلماء الدين، وغير معتقدين بالدين. نسمع هذه هنا في الداخل. حسناً، إنها من تلك الحسابات المخطئة مئة بالمئة. اليوم، ميل الناس إلى الثورة والدين أكبر مما كان عليه الأمر في اليوم الأول للثورة، بلا شك. إذا أراد المرء أن يدرك ميل الشعب إلى الثورة والنضال والجهاد، فلينظر إلى التشييع المليوني لجنازة الشهيد قاسم سليماني. لقد ودّع الملايين الجسد المبضّع للشهيد سليماني. فرد ثوري، فرد مناضل ومجاهد حمل يده على أكفّه من أجل الجمهورية الإسلامية، يكرّمه الناس ويعظّمونه على هذا النحو. هذا مثال، ويوجد كثير من الأمثلة الأخرى. [منها] العلماء. كان المرحوم آية الله صافي الكلبايكاني مرجع تقليد وفقيهاً. انظروا إلى تلك الحركة العظيمة التي أظهرها الناس في تشييع جنازة هذا الرجل. المرحوم آية الله بهجت كان فقيهاً عارفاً وروحانياً. ملأ أهالي قم المدينة بالعواطف في تشييع جنازته وفي وداعه إلى الجنة. كما توجّه [الناس] إلى قم من أماكن مختلفة للمشاركة في التشييع. أنتم أخبروني، هل يوجد بين الشخصيات البارزة في البلاد من سياسيين وفنانين ورياضيين وشخصيات أخرى من يظهر لهم الناس هذا الكم من المشاعر عندما يرحلون عن الدنيا؟ على ماذا يدل هذا؟ أهذه علامة على انتفاء الاعتقاد بعلماء الدين؟ هل هذه علامة انتفاء اعتقاد الناس بالدين والجهاد والمقاومة؟ تحليلهم كذلك. هذه هي الطريقة التي يحللون بها.
انظروا إلى هذه النشيدة التي نُشرت في هذه الأيام والتي هي تعبير عن الشوق والإخلاص تجاه وليّ الأمر، ولي العصر - عجّل الله تعالى فَرَجَهُ الشريف، وروحنا فداه - وهي سلام إلى بقيّة الله. ما الّذي يفعله الناس، وما هذا التعبير عن الشوق؟ يا له من حضور! ما هذا التعبير عن المحبّة! الكبار والشباب والفتيان والأطفال والنساء والرجال والجميع في أنحاء البلاد كافة، في طهران على نحو، وفي مشهد على نحو، وفي أصفهان على نحو، وفي يزد على نحو، وفي المدن المختلفة على نحو. على ماذا يدلّ هذا؟ هل يدلّ على ابتعاد الناس عن الدين أو العكس؟ لم تكن لدينا مثل هذه الأشياء في بداية الثورة. في بداية الثورة، لم يكن لدينا هجوم الطلاب الشباب إلى مراكز الاعتكاف، ولا هذه التجمّعات المذهبيّة الضخمة، وهي موجودة اليوم. لا، لقد أخطؤوا بشأن الشعب الإيراني، أو «مسيرات 22 بهمن»[10]. 43 عاماً من المسيرات الكبرى للشعب في «22 بهمن» و«يوم القدس»! هل هذا دليلٌ على ابتعاد الناس عن الثورة؟ هذا دليلٌ على وفاء الناس ومقاومتهم وصمودهم. وهذا دليلٌ على تأثير درس الإمام في هذا الشعب العظيم والشريف.
في نهاية حديثي، أودّ أن أقدم بعض التوصيات إلى الناشطين في المجالات الثورية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أي الأفراد الناشطين. أودّ تقديم بعض التوصيات سواء إلى الشباب أو الآخرين.
تتمثل إحدى التوصيات في منع المعادين للثورة أن يسلبوا هويّة ثورتكم. لا تسمحوا أن يُظهروا حقيقة الثورة معكوسةً وعلى نحو خطأ. هذه توصية، وهي مهمة. يجب أن يفكر الشباب الأذكياء والأفذاذ في هذا الأمر.
التوصية التالية: لا تدعوا ذِكْر الإمام يبهت في المجتمع. كما قلت، الإمام روحُ هذه الثورة. لا تدعوا ذِكْر الإمام ينحسر، ولا تسمحوا لهم بتشويه الإمام.
التوصية التالية: لا تسمحوا للفئات الرجعية أن تنفذ إلى البلاد وتستقر فيها. ماذا تعني كلمة «رجعي»؟ عندما نقول «رجعي»، يفكر بعضهم في شخص يضع قبّعة على رأسه. كلا، الرجعي هو من يتْبع للسياسة الغربية ونمط الحياة الغربي. هذا هو الرجعي. كان هذا سائداً في بلادنا، فقد كان نمط الحياة غربياً فيها. أثناء الحكم البهلوي الفاسد والتابع جاءت الثورة وأزاحت ذلك. كل من يعود إليه هو رجعي. هذا الشخص الرجعي قد يرتدي «التيشيرت» و«بنطال الجينز» ويرش العطر الفرنسي لكنّه رجعي. لا تدعوا بلدكم يتّجه نحو الارتجاع. لا تسمحوا أن ينفذ الارتجاع ويترسّخ في جسد البلاد.
التوصية التالية: فضح الأكاذيب والخداع والحرب النفسية للعدو. ذات يوم، في زمن الإمام، لم يكن هناك إنترنت ولا أقمار اصطناعية كهذه. هناك قال الإمام إن العدو يقاتلكم بالقلم، بالقلم! كان الإمام يدرك ذلك. ليست المسألة اليوم القلم بل هي الفضاء المجازي. إنّها مسألة الأقمار الاصطناعية والحرب النفسية، الحرب النفسية الشاملة والمنتشرة في كل مكان. لا تدعوا الحرب النفسية للعدو تؤثر في البلد. التفتوا! سوف أعطي مثالاً صغيراً على الحرب النفسيّة. يسرقون نفط إيران في سواحل اليونان وينهبونه. لقد سرقوا نفطنا! ثمّ يعوّض شجعان الجمهوريّة الإسلاميّة الحاملين أرواحهم على الأكفّ ويضبطون ناقلة النّفط للعدوّ، فيتّهم في دعاياته الإعلاميّة الواسعة والشاملة وإمبراطوريّته الإعلاميّة إيران بالسّرقة! مَنِ السّارق؟ أنتم سرقتم نفطنا وقد استرددناه منكم. استرداد المال المنهوب ليس سرقة. أنتم سارقون. الأمريكيّون يعطون الأمر لحكومة اليونان، والحكومة اليونانيّة تنفّذ وتسرق نفطنا. حسناً، هذه حربٌ نفسيّة ومقابل الحرب النفسيّة، إذْ تحدثُ أمثالها، حالاتٌ متعدّدة في كلّ يوم، عليكم المواجهة.
التوصية التالية: استفيدوا من ثروة إيمان الناس لإنتاج العمل الصالح. الناس مؤمنون. الناس يمتلكون الإيمان. يمكن لهذا الإيمان أن ينتج العمل الصالح. أنتم يمكنكم أداء هذا العمل وقد كان الإمام العظيم أستاذاً فريداً في هذا العمل. كان الإمام أستاذاً منقطع النظير في الاستفادة من إيمان الناس لإنتاج العمل الصالح.
التوصية التالية: لا تسمحوا أن يُظهر بعض الأشخاص أن البلاد وصلت إلى طريق مسدود. هذا ما يفعله بعض الناس في الفضاء المجازي الآن - سواء بسبب غفلتهم أو لأنهم يأخذون المال... لا أعرف – يحاولون إظهار البلاد أنها وصلت إلى طريق مسدود. لا، لن تصل البلاد إلى طريق مسدود. حدث الشيء نفسه في زمن الإمام. آنذاك كتب بعض الناس في صحفهم أن البلاد وصلت إلى طريق مسدود، قال الإمام: لا، أنتم وصلتم إلى طريق مسدود، فالجمهورية الإسلامية لا تصل إلى طريق مسدود. قال: أنتم قد وصلتم إلى طريق مسدود.[11] حقيقة الأمر كذلك. لا تسمحوا لهم بزرع اليأس لدى الناس.
التوصية التالية: في بعض الأحيان، كان الإمام يحذّر القيّمين سواء في الخلوات أو الجلوات. في العلن أحياناً، وأحياناً في الجلسات الخاصّة، ولكن في بعض الحالات كان يقدّر بصراحة. لدينا حالات عدة أثنى فيها الإمام صراحة على مسؤولي البلاد، شخص واحد أو مجموعة من المسؤولين.
هذه هي توصيتي: عندما يسعى العدو اليوم إلى تشويه [صورة] المسؤولين الثوريين، تكون مهمة الثناء والتقدير مهمّة ثقيلة. ينبغي تقدير المسؤولين. أن يرى المرء أنه في قضية آبادان[12] يبقى وزيراً يعمل على هذه القضيّة ثلاثة أيام أو أربعة، وليلاً ونهاراً، لهو مهم جدّاً. أن يذهب رئيس الجمهورية الموقّر ونائبه لمقابلة ضحايا القضية وتعزيتهم وتهدئة قلوبهم هذا قيّم للغاية. ينبغي تقدير ذلك. طبعاً لا بد من معاقبة المتسببين في الخراب أيضاً. في قضية آبادان هذه، وكذلك في أي حالة أخرى، تجب معاقبة المتسببين في الخراب، بلا شكّ.
إلهي، نقسم عليك بالأرواح المطهّرة لشهدائنا الأعزاء وروح الإمام [الخميني] المطهّرة أن تجعلنا من أتباع طريق الحق والحقيقة في الجمهورية الإسلامية. إلهي، نسألك أن تثبّت خطواتنا وخطوات أمتنا على هذا الطريق.
سمعت، [أي] أخبروني، أن هناك من أثاروا البلبلة اليوم أثناء إلقاء الحاج السيّد حسن الخمينيّ كلمته. أنا مخالف لهذا العمل، فليعلم الجميع بأنّني أعارض هذا التشويه وإثارة البلبلة هذه. نسأل الله المتعالي أن يمنّ علينا بالهداية إلى الطريق الصحيح، إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1]. في بداية المراسم، ألقى كلمة حجة الإسلام والمسلمين السيد حسن الخميني (متولي مرقد الإمام الخميني).
[2]. لجلال الدين الرومي.
[3]. جوزيف ستالين، القائد الثاني للاتحاد السوفييتي.
[4]. المرحوم حجة الإسلام والمسلمين السيد علي محمد وزيري اليزدي، مؤسس مكتبة وزيري الكبيرة.
[5]. من جملتها الآية 43 من سورة البقرة.
[6]. حافظ الشيرازي، الغزليات، الغزل 374.
[7]. صحيفة الإمام، ج. 1، ص. 87، كلمة في جمع طلاب الحوزات والتجار والكّسّبة، 5/11/1962.
[8]. صحيفة الإمام، ج. 21، ص. 137، رسالة إلى الشيخ مهدي كرّوبي (المشرف على مؤسسة «شهيد الثورة الإسلامية»)، 19/9/1988.
[9]. روبرت إرنست هايزر (جنرال في القوة الجوية الأمريكية).
[10]. مسيرات 11 شباط/فبراير في ذكرى انتصار الثورة الإسلامية.
[11]. صحيفة الإمام، ج. 14، ص. 376، كلمة في جمع من نواب «مجلس الشورى الإسلامي»، 27/5/1981.
[12]. انهيار مبنى في آبادان حيث فارق على إثره عددٌ من المواطنين الحياة وجُرح عددٌ آخر.