الكاتب: الشيخ جابر مسلماني
بتكثيفٍ وكلمات مفتوحة على ما تحمله من مضامين دينية روحيّة فكرية وثورية جدد سماحة الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) البيعة المقدسة لروح سماحة الإمام الخميني العظيم ووصيته الإلهية الخالدة وعهد خطابه الرباني في الثورة والجمهورية الإسلامية، وذلك في الحرم المقدس لمرقد مؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام روح الله الموسوي الخميني (قده) في الذكرى الثالثة والثلاثين للعروج النوراني المهيب.
ومما قاله سماحته في خطابه: إن الإمام الخميني هو روحُ الجمهورية الإسلامية وإمامها في الأمس والحاضر والمستقبل.
مما لا شك فيه أن إحصاء بركات الثورة الخمينية أمرٌ متعالٍ على التناول والتحقق، ذلك أنها ثورة من نسيجٍ مختلف عما شهدته ميادين الثورات الحديثة الكبرى في العالم وعن محركاتها المعرفية وعناصر تكونها وإنتاجها وآفاقها.
إنها ثورة إلهية سيادية بكل ما يعنيه هذا التوصيف من إحالات الى المرجعية الإلهية في منظومة الفكر والوعي والفعل الخميني، وفي منعطف زمني عالمي بالغ الدقة والخطورة والحساسية وتحديداً في دائرتي الاختيار والاختبار الثوريين.
لقد فاجأ الإمام الخميني بخطابه السياسي العالم كله من أقصاه إلى أقصاه وهز شباك الميدان العالمي بقوة وشموخ واقتدار ونفاذ الى عقل قادته ومؤسسات تفكيره ونخبه العالية، لم يكن يتصور أحد شرقاً وغرباً إمكانية حدوث هذا الزلزال العالمي الذي فتح أبوابا جديدة بعد توهم إحكام غلق الأبواب الفكرية والسياسة لقيادة العالم على قواعد وضوابط ومرجعيات أخرى.
حدث لم يمر في دائرة خيال أحد لا في أشد الأحلام رعباً ولا في أجملها تمنياً ورجاءً وتضرعا، كان ذلك خارج المُفكّر فيه، وما كان خارج المفكر فيه بات مرجعية الفكر والفعل الثوريين هنا ومن أوسع أبواب الممكنات وعبر الخطاب الخميني ومنظومته القيادية.
في اللحظة التي كان يطبق فيها تيارا الرأسمالية والاشتراكية بأبعادهما العلمانية وجزء أساسي كبير منهما كان قائما على إقصاء الدين والروحانية وقذفهما في الحد الأدنى الى المربعات الخلفية المغلقة عند الشعوب والمجتمعات، دوى صوت الإمام الخميني (قده): بلى إن الدين قادر على إدارة الشعوب، بلى إن الدين جزء لا يتجزأ بمعنوياته وروحانيته وأخلاقه وقيمه من فطرة المجتمعات والشعوب، وإن العودة الى الذات ضرورة وواجب لا يمكن تجاوزه ، كما إنه من البديهيات الأولى أن تقوم السياسة على القواعد القرآنية والإسلامية، وقد كان ومن أوسع الأبواب وأعرقها.
كان لإطلالة الإمام الخميني(قده) على المسرح العالمي جاذبية لم يشهدها العالم بمختلف شعوبه ومجتمعاته من قبل، جاذبية حفرت عميقاً في وعي تلك الشعوب والجماعات الإنسانية وعملت على استحضار تصوراتها التاريخية للروحانية التي ترتدي العمامة والعباءة وتحمل بين أضلاعها وفي قلبها وصايا الأنبياء(ع) وتعاليمهم وكلماتهم وتجاربهم التاريخية في إطار معاصر يشكل الوعي بالزمن أهم قواعده وأسسه في عملية الترجمة والتحقيق للفاعلية الثورية وعبر خطاب مدروس متين دقيق وجذاب.
وفي هذا الإطار لا بد من مقاربة المصطلحات المعرفية التي استعملها سماحة الإمام في سياق خطابه الإسلامي وملاحظة المرجعية الإسلامية لتلك المعارف والمصطلحات، فلم يستنسخ الخطاب الخميني أي مفردة من مفردات السياسة مع المحددات المعرفية لها من خارج إطار منظومة الإسلام المعرفية ومرافق منظومته القيمية الاصطلاحية.
ذكر سماحة الإمام الخامنئي (دام ظله) في خطاب ذكرى الرحيل الأليم أن الجوهر الأساس للقيام الخميني يكمن في أنه كان لله.
لقد كان قياماً لله وبالله، من محراب الله بمداراته الواسعة الى كافة الجبهات، بإرادة الله وكلماته ومن خلال القرآن الكريم ووصايا الرسول الأعظم (ص) وأهل بيته(ع) ومن خلال أرضية الإسلام نفسه ومرتكزات خطابه.
إن القيام لله بإخلاص يشتغل في دوائر العبادة الروحية والسياسية والاجتماعية والدولية وعلى صعيد الأفكار تلبية لدعوة الفقه والنص، بما يتجاوز مجرد العبادة الفردية، لذلك نجد أن قيام سماحة الإمام لله تمظهر في كافة الميادين ففي كل ميدان رفع الإمام للإسلام راية لا تنكسر وما زالت ترفرف بمبادئها وقيمها الى لحظتنا هذه.
ومن أهم الميادين التي قام فيها لله وأعلى كلمة الله فيها هو ميدان إنتاج الدولة وصياغتها على أسس الله وبيناته ورفض التهجين والاستعارة والتلفيق.
من هنا نجد وبوضوح أننا لو أردنا الاختصار النظري والعملي للثورة الإسلامية وللجمهورية الإسلامية بوصفهما قائمتين على قاعدة واحدة أو مضمون مصطلح واحد لوجدناه في مصطلح السيادة الشعبية الدينية، ذلك المصطلح الإسلامي الخالص من أي خلط مع أي منظومة أخرى، إنه مصطلح إسلاميٌ قراح نابع من قواعد القرآن الكريم ومن قلب النظرية الإسلامية في الحكم وإدارة المجتمع والدولة، وهو ما نجده في البنية التركيبية لمفردتي الجمهورية الإسلامية معا كتوصيف لجوهر وآلية الحكم في النظام الإسلامي الإيراني.
إن معنى وصف الإسلامية في مفردتي الجمهورية الإسلامية أن نظام الحكم يقوم على قواعد الإسلام العقدية والتشريعية بما في ذلك من قيم أخلاقية ومعنوية وروحية، على هذا الأساس تقوم الدولة ويقوم فعل القيادة والمجتمع في الدولة.
ومعنى مفردة الجمهورية أن الشرعية الفعلية لمؤسسات الحكم في الفضاء الإسلامي الاجتماعي والسياسي تقوم على أساس إرادة الناس وهو جوهر معنى البيعة وجوهر العقد الديني والسياسي في الإسلام.
وهذا ما نلاحظ ترجمته بوضوح في دستور الجمهورية الإسلامية الذي يقوم في مجمل بنيته القانونية على ثنائية المرجعيتين الدينية والشعبية.
ولا يمكن للقارئ في أوراق الثورة الإسلامية وسياقات خطابها الفكري السيادي إلا الوقوف عند الاستفتاء الذي أمر سماحة الإمام الخميني(قده) بإجرائه لتحديد الهوية الدستورية للدولة والحكم المرتقب، وقد قال الاجتماع الإيراني كلمته في صناديق الانتخاب وكانت النتيجة أنه يريد تقرير مساره ومصيره على أساس الحكومة الإسلامية ومرجعيتها القرآنية، ومما لا شك فيه أن لإجراء هذا الاستفتاء دلالاته في طبيعة قراءة المنظومة القيادية الفقهية في شخصية الإمام الخميني(قده) ، هو القائد الذي أسقط الشاه للتو ومن ورائه كل طواغيت الأرض والممسك باللحظة الثورية ، في لحظة الانتصار هذه يطلب من الناس أن يحددوا هم طبيعة الحكم الجديد في إيران.
وهذا هو في العمق معنى السيادة الشعبية، ومن هنا بالذات ومن هذه الأرض الفكرية انبثق مصطلح السيادة الشعبية الدينية.
لذلك نجد سماحة الإمام الخامنئي (دام ظله) يشدد على أصالة المصطلح الإسلامي في هذه القاعدة الثلاثية رافضاً القول بأنها توليفية استعارية من فضاءات فكرية غربية.
ومن الجدير ذكره هنا أن الإمام الخميني (قده) رفض إضافة مفردة الديمقراطية إلى مفردتي الجمهورية والإسلامية أثناء النقاشات التي جرت حول كيفية توصيف الدولة آنذاك وأصر فقط على المفردتين الأصيلتين وهما الجمهورية الإسلامية، وهذا يصب تماماً في طبيعة نحت المصطلح وإدارته من خلال المنظومة الفكرية الإسلاميّة ذاتها.
ومن أعظم المحطات التي تعبّر بوضوح عن القيام لله في سياق النداءات الإسلامية موقف سماحته من القضية الفلسطينية، فلسطين أضخم قضية عرفها التاريخ على الإطلاق، فلسطين ليست مجرد بيت تم احتلاله من قبل العدو الإسرائيلي والمنظومة الدولية التي غطت ذلك وأيدته وشرعته، هو احتلال دولة بكاملها وشطبها وتغيير هويتها وطرد شعبها منها وإبداله بشعب آخر تم إحضاره من دول العالم، كيان محتل قام على أنقاض دولة تم تدميرها وشعب سلبت أرضه وكافة حقوقه الإنسانية والدولية.
هنا قام الإمام الخميني لله، ورفع العلم الفلسطيني المظلوم مكان العلم الإسرائيلي بما يمثله من احتلال واستلاب في السفارة الإسرائيلية التي أغلقتها الثورة في طهران، وأعلن الجمعة الأخيرة من شهر رمضان يوماً للقدس، اليوم الذي تحول الى بركان تتصاعد حممه الى التحرير الموعود وهو قادم بلا ريب.
وأجاز سماحته الصرف من أموال الخمس الشرعي لدعم القضية الفلسطينية من أجل إعلاء كلمتها ومساندتها، كما باتت الجمهورية الإسلامية اليوم وعلى خطاه(قده) وبقيادة سماحة الإمام الخامنئي (دام ظله) قلعة خطاب وإنجاز تحرير الشعوب المظلومة كافة وخصوصاً الشعب الفلسطيني، كما أن المقاومة في لبنان بعمقها العميق ومحوريتها الإستراتيجية وإنجازاتها المذهلة، وتموضعها الإلهي وأهدافها المقدسة هي فرع من شجرة القيام الخميني لله.
في العمق إن الصراع اليوم يدور حول فلسطين، من يسقط على الطريق يسقط على الطريق الى فلسطين ومن يرتفع جبينه يرتفع على الطريق إلى فلسطين، فلسطين مختبر القيم والمبادئ الإنسانية والمباني السياسية العالمية ومختبر إرادة الأنظمة والشعوب.
نعم لقد أدخل الإمام الخميني (قده) مفردة المقاومة بكل حمولتها الروحية والتاريخية والثورية الى القاموس السياسي العالمي، وأطاح بكل الجدر التي تم تثبيتها بين الشعوب المظلومة وأهدافها، لقد غير الثوابت التي تم إرساؤها وإقناع الشعوب بها، وخلاصة شعاره العملاني الحي المتوثب الثوري يكمن في مقولته الشهيرة التي غيرت مجرى التاريخ، بلى إنكم قادرون.
وفي الحصاد، إن كل المشاريع الاستكبارية في غرب آسيا إنما فشلت وتحطمت وتكسرت بفعل الثورة الخمينية والجمهورية الإسلامية وخطابها واستراتيجية التحرير التي تقودها تحت مظلة سماحة الإمام الخامنئي (حفظه الله) وقيادته الحكيمة.
ومن المعلوم أن من أراد معرفة ما يجري في العالم من حوله وخصوصاً في منطقتنا، إنما يتم ذلك من خلال رصد خطابات سماحة الإمام القائد، من هناك يمكن الحصول على الحقيقة كما هي، وعلى ثوابت الصراع مع قوى الهيمنة والاستكبار وخطاب المقاومة في أبلغ صوره وتشكّلاته.
كل ذلك من خلال ثوابت الإسلام الأصيل التي رفع لواءها سماحة الإمام الخميني (قده) ومن هنا فهو إمام الأمس والحاضر والمستقبل وهو روح الجمهورية الإسلامية وقلبها النوراني النابض.
يومان لا يمكن تجاوزها في الذاكرة الجمعية، يوم استقبال الإمام الخميني (قده) قادماً من باريس ويوم وداعه الأخير في رحلته الملكوتية، ومن أراد قراءة شرعية الثورة وجمهوريتها الأبية اليوم فليحدق باليوم الثالث، يوم وداع أشتر الجمهورية الإسلامية الشهيد الحاج قاسم سليماني رضوان الله عليه الى مثواه الأخير، والإرادة السيادية الشعبية الدينية تجلت في الأيام الثلاثة بأبهى صورها وتمظهراتها ورسائلها.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir