الكاتبة: مريم رضا خليل
تزامن صدور نداء الإمام الخامنئي إلى حجّاج بيت الله الحرام هذا العام مع حدث فريد يصلح أن يكون ظاهرة في علم الاجتماع الديني هو نشيد «سلام فرمانده». واللافت هو اتّساق مضامين النداء والنشيد والنسق بين الموضوعيْن حتى يكاد يكون النشيد نموذجاً تطبيقيّاً لطرح النداء. ولعلّ مفكري العالم، الأعداء منهم قبل الأصدقاء، ممن يشتغلون على التحليل لشخصية قائد الثورة الإسلامية، هم الأقدر على دحض فرضية المصادفة أو العشوائية في القاموس الإداري لهذه الشخصية القيادية. وسواء اعترف هؤلاء أو جحدوا، هم استيقنوا وجود ممارسة عملية متناسقة مع فكر إستراتيجي يتابع أدق التفاصيل في مختلف شؤون الأمة، بدءاً من فن تلاوة القرآن إلى الانتباه إلى القدرات العسكرية، وهي سمات يموضعها بعضهم في خانة البصيرة وفق المبنى الأيديولوجي.
إنّ مقاربة النشيد مع «نداء الحج» تشير إلى توافق المضامين في الأهمية والضرورة والأبعاد، ويمكن التوقف عند هذه الحقائق:
أولاً: تبرز أهمية فريضة الحج البارزة في مزيج الوحدة والروحانية، ما عدّه القائد إكسير حياة الشعوب، وقد ترجم النشيد هذه الأهمية، إذ وحّد مسلمي العالم بمختلف الصنوف واللغات في لوحة معنوية موضوعها غيبي بحت يتعلّق بالأمل الموعود في المخلّص الذي تبشّر به أساساً أديان العالم كلها بغض النظر عن التسمية.
ثانياً: استطاع النشيد أن يعكس كالحج لوحة محكمة في عزّة مسلمي العالم، وأن يبثّ السعادة في القلوب، بما يتمتّع به من قدرة على مخاطبة النفس الإنسانية وإعادة إحياء الأمل في المجتمعات المضطهدة والمقهورة على امتداد المعمورة، حتى غدا ترنيمة الألسن المتصالحة مع ذواتها خارج قيود التطرّف الديني والطائفية السياسية.
ثالثاً: إنّ قوة الوحدة والروحانية في النشيد لديها من القدرة والقابلية ما يؤهلها تماماً كفريضة الحج لتجاوز مصاديق التفرقة الوهمية لدى عدو الأمة من اللسان والعرق واللون والجغرافيا.
رابعاً: كما أنّ الحجّ هو توجّه النفس إلى خالقها والبراءة مما يبعدها عن تكاملها وإنسانيتها ويأسرها بملذات الدنيا الفانية، كذلك النشيد هو دعوة للعودة إلى الأصالة الإنسانية قبل الدينية في رفض الاستسلام والخضوع، والتحرر من هيمنة القوى التي تريد الاستئثار بمقدرات البلدان وشعوبها. بهذا المعنى، مثّل الميرزا كوجاك، المذكور في النشيد، الثائر الإيراني ضد الاستعمار الروسي والبريطاني في النصف الأول من القرن الماضي، واحداً من نماذج ثوار العالم، وأحد روّاد الحركات التحررية فيها.
خامساً: يزوّد النشيد عملية إعادة الإنتاج لمفهوم المواجهة والمقاومة في الجيل الصاعد بزخم ديناميكي متنامٍ. لقد أحبط النشيد مساعي المحور الصهيو-أمريكي في التشويه والتحريض ومحاصرة قضايا الأمة الأساسية، وفي طليعتها قضيّة فلسطين التي ستبقى الكلمة الحرة لألف شيرين أبو عاقلة والبندقية والسكين لآلاف «الأسود المنفردة»، كما أسقط النشيد رهان المحور المعادي على تفكيك حلف المقاومة، فقد جدّد «سلام فرمانده» بنسخته العراقية البيعة بالعهد والوفاء لـ«الحشد الشعبي»، وبالولاء لفتوى المرجعية الرشيدة في مقاومة التهديدات.
سادساً: يتمحور نداء القائد الخامنئي حول مواجهة الأمة الإسلامية مؤامرةَ العدو الهادفة إلى إضعاف الوحدة والروحانية بين الشعوب الإسلامية. وتتكامل رؤية النداء بناء على ما تشكّله الظروف الحالية من عوامل مساعدة في إنجاز المواجهة، من قبيل تيه إجابات الحضارة الغربية المعرفية والعملية والسياسية في مقابل ما يشهده العالم الإسلامي من صحوة وما تمثّله ظاهرة المقاومة من حجة على سائر دول العالم الإسلامي. وقد كشف النشيد أنه حجة في المقاومة إذ إنّ أشكال المواجهة كافة وصورها مطلوبة، ولا سيما في هذا الوقت من الانحدار الثقافي والأخلاقي لـ«الحضارة الغربية». ورغم بدء حركة نسبية في مراجعة الذات ونقدها لدى أدعياء تلك الحضارة، فإن إصرار أسراها الأعمى في منطقتنا على اجترار قاذوراتها، وآخرها الشذوذ الجنسي، باسم الحرية والتمدّن، يزيد مسؤولية الحكومات المسلمة والنخب الدينية والعلمية والمثقفين المستقلين والشباب الباحثين عن الحقيقة باتجاه ضرورة التحلّي بالوعي ومعرفة العدو والاستفادة من الضعف في واقع جبهة العدو وإخفاق أدواته، ومواجهة الاختراق الثقافي أو الحرب الناعمة وأساليبها، وإحباط أهداف العدو وغاياته في القضاء على حركة الوحدة في العالم الإسلامية وفصله عن مسار صحوته وسعادته، كما يحددها القائد الخامنئي.
في خلاصة القول إنّ «سلام فرمانده» يستحق بجدارة أن يضاف إلى لائحة الإنجازات لحلف المقاومة ليس على صعيد إعادة الإنتاج لمفهوم المقاومة في أجيال المستقبل عبر مصاديق النصرة لرفع الظلم وطلب العدل، وإنما في المساهمة أيضاً في جعل المفهوم عابراً للمحددات الوضعية والتأطيرات المادية. وإذا كانت فريضة الحج لها تمثلاتها المتعددة في الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، التي دعا القائد الخامنئي أن يكون عنوانها هذا العام هو مواجهة استهداف العدو وحدة الأمة وروحانيتها، فإنّ النشيد طلبه القائد الخامنئي من الوسط الفني المقاوم كترجمة عملية في هذه المواجهة، وهي تكاد تكون فاتحة المرحلة الجديدة في المعركة المقبلة بين محور أهل الحق وأهل الباطل، وفي ظلّ قيادة تتّسم بالحكمة والفكر الإستراتيجي البعيد المدى.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir