عانت الليبرالية والشيوعية من إخفاقات وأزمات تاريخية. لماذا حدث هذا؟
إن الإخفاق الذي عانت منه الشيوعية مرتبط أساساً بهزيمة الاتحاد السوفييتي في لعبة القوة في وجه الولايات المتحدة وحلفائها. مشكلة الشيوعية أنها تعرضت لهزيمة في تجربتها المثالية المفترضة، أي الاتحاد السوفييتي، وهذا يشتمل على أزمة فكرية بطبيعة الحال، ولكن لا يمكن نسف الأطروحة الفكرية الشيوعية كلها لأنها أخفقت في نموذجها الواقعي. هذه الهزيمة ربما هي أشد وقعاً من الإخفاق الفكري. واليوم مع أزمة الليبرالية تعود بعض النظريات الماركسية لتحاول أن تثبت مشروعيتها وتقدم طرحاً بديلاً. ويساعد في ذلك نسبياً صعود الصين بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، مع أنها تتبع نمط رأسمالية الدولة.
أما الليبرالية، فهي تمر بأزمة تاريخية تجعلها تصارع بشدة للتكيف، ولكن ذلك لا ينفي أنها لا تزال عميقة الحضور في مجالات الفكر والمؤسسات والممارسات لاستنادها إلى رافعة رأسمالية وتكنولوجية هائلة. إن أزمة الليبرالية أساساً هي في خضوعها لقوى السوق والتكنولوجيا التي عززت تباين الثروة واللامساواة داخل الغرب نفسه. هذا التباين حفّز حركة مضادة لليبرالية داخل الطبقة الوسطى الغربية التي لا تزال تتراجع حصتها من الدخل الوطني منذ الثمانينيات تقريباً. وهذا يفسر جزءاً مهماً من صعود تيارات يمينية وشعبوية في أوروبا وأمريكا. الجانب الثاني الأساسي في أزمة الليبرالية يتمثل في إخفاق النظام الدولي الأمريكي، إذ تنتشر مطالبات بالحمائية والقومية وسباقات التسلّح، بالتزامن مع هلع أمريكي مما وصل إليه الصعود الصيني وعودة لعبة القوى الكبرى وصعود أقطاب إقليمية متمردة.
بناء على ما تقدّم يمكن القول: هناك شيء من فراغ على مستوى النظريات الكبرى أو فراغ أيديولوجي قادر على تقديم إجابات عن مشكلات النظام العالمي الحالية. في هذا الفراغ، تحاول الصين أن تقدم نموذجها البديل وتصارع الليبرالية لإجراء عملية تصحيح ذاتية قبل فوات الأوان، وفي الوقت عينه، تنهض ثقافات وحضارات وأفكار بثقة أكبر لتقدّم رؤية بديلة تُلهم بالتحديد المسحوقين والمهمشين داخل هذا النظام، وهنا تبرز جلياً تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران سواء القومية أو بحضورها في حلف المقاومة داخل ما كان أعتى قلاع الهيمنة الأمريكية حول العالم، أي غربي آسيا.
تتحدث وسائل الإعلام الغربية عن أوضاع «الديمقراطيات الغربية» وأن هذه الديمقراطيات صارت في حالة تأهب. في رأيكم، ما الأسباب والعوامل لأفول الديمقراطية الغربية، الأمر الذي يعترف به الغربيون أنفسهم؟
تتعدد أسباب أفول الديمقراطيات الغربية وتراجع الديمقراطية نفسها في الغرب وأبرزها هيمنة قوى السوق الرأسمالية المعولمة (الشركات المالية والتكنولوجية) التي طوعت الدولة والنخبة في الغرب من أجل احتكار تراكم الثروة، وظهور نوع من الأوليغارشية الناتجة من تحالف النخبة السياسية والمالية، يختبئ خلف عملية ديمقراطية شكلية، والهيمنة وقدرة توظيف التكنولوجيا والثقافة والأكاديميا على يد الأوليغارشية للسيطرة على الرأي العام بحد أدنى من الإكراه، ما يضيق المجال العام أمام الأفكار والقيم البديلة، وسخط الطبقة الوسطى نتيجة تراجع الأجور الحقيقية منذ عقود مع بلوغ تركّز الثروة معدلات قياسية، والأزمة في العدالة الاجتماعية التي لم تعرها الديمقراطيات الليبرالية أهمية كبيرة ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي حين تراجعت دولة الرعاية الاجتماعية مع تخفيض مستمر على الضرائب التي تمس الأغنياء، وصعود للاتجاهات اليمينية والشعوبية التي تحمّل النخبة الغربية ومشروع العولمة مسؤولية الأزمة، فيما تدّعي النخب الشعبوية القومية أنها تمثّل الشعب والكتلة الصامتة مقابل المؤسسات السياسية التي فقدت مشروعيتها بالانحراف نحو المصالح الخاصة، في حين أن التيارات اليمينية تدعو لسياسات تمييزية ضد المواطنين المجنسين أو الأجانب المقيمين، وليس أخيراً ظهور إمكانية عالية للتلاعب بالناخبين عبر استغلال البيانات الكبرى للمواطنين، وأخيراً صعود الصين بصفتها نموذجاً ناجحاً غير ديمقراطي، ما قوّض الربط الحتمي بين الديمقراطية والنجاح السياسي.
عندما شاهدتْ نخب العالم الإسلامي أوضاع الدول الغربية وأفول حضارتها، توصلوا إلى نظرة جديدة هي الصحوة الإسلامية. في أيّ المجالات برزت هذه الصحوة في مواجهة الحضارة الغربية؟
إن الاستجابة لهذه التحولات داخل العالم الإسلامي لم تكن متماثلة لكنها تشترك إلى حد ما بأشكال من العودة إلى و/أو تأكيد الهوية الدينية ومحاولة امتلاك نفوذ أكبر في المجال السياسي وتحقيق مشروعات عابرة للحدود الوطنية. من ضمن هذه الاستجابات ما نسميه الصحوة الإسلامية في اتجاه عام بدأ يتعزز منذ سبعينيات القرن الماضي واكتسب زخماً من نشأة جمهورية إيران الإسلامية ودورها ثم نجاحات قوى المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق بعد 2000. ما يميز الصحوة الإسلامية عن سواها من الاستجابات داخل العالم الإسلامي نزعتها إلى بناء مشروع حضاري إسلامي مستقل عن الهيمنة الغربية ومواجهتها بصفتها العائق الأكبر أمام صعود العالم الإسلامي. وعلى تماس مع هذه الصحوة اتجاهاتٌ إسلامية تنسج مصالح مشتركة معها في مجالات وتتنافس في مجالات أخرى ومنها تركيا وتنظيم «الإخوان المسلمون»، ولذا يمكن النظر إليها على أنها تعبّر بأجزاء ما عن هذه الصحوة. مقابل ذلك دفعت أزمة الهيمنة الغربية في المنطقة إلى ظهور حركات إرهابية بدعم وتحفيز أمريكي وإقليمي لإشعال حروب مذهبية داخل العالم الإسلامي وتحطم إرادته السياسية.
إن أزمة المشروع الغربي في المنطقة والنظام العالمي عموماً تدفع قوى العالم الإسلامي أولاً إلى تأكيد هويتها الإسلامية في جزء أساسي من مشروعيتها السياسية، مع إضافة عناصر أخرى مثل القومية، وثانياً إلى إعادة تشكيل علاقاتها مع منظومة الهيمنة على واحدة من هذه الأشكال الثلاثة: 1- الانخراط أعمق في مشروع المقاومة والاستقلال الوطني في وجه أمريكا والكيان الإسرائيلي 2- تأكيد مشروع استقلالي لكن دون الصدام مع الغرب بل بعلاقة براغماتية معه 3- البقاء داخل المعسكر الغربي مع تبني مفهوم «تنويع الخيارات» والانفتاح على دول متنافسة مع الغرب مثل الصين وروسيا تحديداً.
عرّف قائد الثورة الإسلامية المقاومة ظاهرةً تشكلت نتيجة الصحوة الإسلامية والوعي الذاتي للأمة الإسلامية. ما رأيكم في هذا الشأن، وما الوضع الحالي لحلف المقاومة في أماكن مختلفة، وما المصاديق البارزة التي يمكن ذكرها لتعزيز ذلك؟
تحوّل حلف المقاومة إلى متغير أساسي في السياسة الإقليمية وموازينها بعد عقود من اختلال التوازن لمصلحة الولايات المتحدة وكيان العدو الإسرائيلي، كما أنه اليوم يمتد على جغرافيا إقليمية واسعة وله حواضن اجتماعية متنوعة ولديه القدرة على الاستفادة من تحولات واسعة في النظام الدولي. يمكن إيجاز الأهداف والجهود الحالية لحلف المقاومة ضمن الآتي:
في ختام هذه النقطة، تنبغي الإشارة إلى تحديات جديدة تواجه مشروع المقاومة مرتبطة بتبني الأمريكيين إستراتيجية مواجهة تقوم على الأدوات الاقتصادية والسياسية والإعلامية بالدرجة الأولى. وعلى هذا الأساس، تحتاج قوى المقاومة لتعزيز قدرتها البشرية والمعرفية والمؤسساتية مشروعاتٍ اقتصادية وتنموية وبينية قادرة على توليد مداخيل إضافية ولا سيما للفئات والمناطق المهمشة، وتطوير الكفاءات التكنولوجية وبناها التحتية ودمجها في الاقتصاد، وكذلك ابتداع مبادرات اقتصادية مرنة أمام العقوبات وابتكار تكتيكات للتهرب منها.
ما فتئت الأمة الإسلامية تواجه منذ زمن طويل ممارسات الاستكبار العالمي في إزالة الروحانيات وتفكيك الوحدة. في مجال إزالة الروحانيات، يسعى الغرب إلى الترويج لنمط الحياة الغربية، وكذلك تحاول أمريكا والغرب إبطال جهود الأمة الإسلامية باستخدام الإمبراطورية الإعلامية والحرب الناعمة. ما الأمثلة المهمة في ميدان الحرب الناعمة والمعركة الإعلامية للغرب ضد جهود الأمة الإسلامية؟
عزز الأمريكيون اهتمامهم بالمعركة على الوعي وذلك من ضمن ما يسمونه أدوات «المنطقة الرمادية» التي تشمل أيضاً العقوبات الاقتصادية والخنق المالي والحرب بالوكالة والنشاط الأمني والعمل السايبراني والقوة الناعمة. إن المأزق الذي تعاني منه واشنطن جعلها بحاجة إلى أدوات تترك تأثيراً سريعاً في أعدائها، وهذه ميزة تفتقدها القوة الناعمة، ولذا يجري التركيز المكثف على الحرب الإدراكية-المعرفية التي تشتمل على التضليل المعلوماتي كثيراً. ومن أبرز القضايا، في هذا المجال الإعلامي، التي يعمل عليها الأمريكيون:
بالنظر إلى القضايا التي طُرحت في الأسئلة السابقة بشأن أوضاع الحضارة الغربية وجبهة الاستكبار ومشروعها لمواجهة التوجه في العالم الإسلامي من أجل الحفاظ على الروحانية والوحدة الإسلامية، وكذلك كون البيئة لجبهة المقاومة مواتية لمواجهة مشاريع الاستكبار، كيف تقيّمون الطريق أمام الأمة الإسلامية في هذا المسار، وما الإجراءات التي على الشعوب الإسلامية اتخاذها لتجاوز العقبات والمشكلات على الطريق؟
إن وجود المشكلات والعقبات أمام أي أهداف ومشاريع أمر لا بد منه، بل إن أعظم الطاقات البشرية قد تفجّرت تاريخياً تحت وطأة الحاجة إلى حل مشكلة أو تجاوز عقبة. ومشروع المقاومة في المنطقة يخوض مواجهة غير متوازنة أبداً من الناحية المادية ولذلك هو يواجه تحديات متواصلة وعليه أن يجهد للتقدم بالاشتباك والتعامل مع التحديات وليس بالهرب منها أو تجاهلها، وهذا ما اعتاد قادة المقاومة التعبير عنه بمقولة «تحويل التهديد إلى فرصة». إن مسؤولية تجاوز العقبات هي في الأساس مرهونة بالنخب في المجالات كافة أكثر من الشعوب. فالنخب المنضوية في مشروع الاستقلال والتحرر مسؤوليتها أن تواجه واقعها بنظرة معمقة وشجاعة مع خيال سياسي يجعلها تنظر إلى الواقع الحالي بعين مستقبلية.
ومن التحديات التي على هذه النخب الاشتباك معها وكيفية ذلك:
[1] أكاديمي متخصص في العلاقات الدولية، ومحاضر في الجامعة اللبنانية، ومدير الدراسات الإستراتيجية في «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق»، ومتخصص في الشؤون الإقليمية والسياسة الخارجية والقوة الناعمة. كتابه الأخير الصادر عام 2020 كان بعنوان ما بعد القتال: حرب القوة الناعمة بين أميركا وحزب الله.