الكاتب: عباس فنيش

 

كل شيئ كان فريداً، المناسبة، المكان، التوقيت، حتى الحضور هذه المرة كان أكثر حيوية رغم ساعات الصيام الطويلة . 

دقائق سيطل من على منصة مشرفة على ضريح الإمام الخميني " قدس سره " ليخاطب العالم في ذكرى رحيله التاسعة والعشرين .

" دماؤنا التي في عروقنا فداء لقائدنا " ، أطل الإمام القائد السيد علي الخامنئي ، لوّح للمحتشدين وأشعّ عليهم بابتسامته ثم بدأ خطابه المفصلي في ظل الأوضاع في المنطقة والعالم إلى أن وصل إلى الختام ، مسكه سيكون لائقاً بالمناسبة والمكان والزمان ، على طريقة " القائد "، تفاجأ الجميع بخطاب باللغة العربية للشباب العرب الغيارى.

يستوقفك الشكل، لماذا باللغة العربية؟ يحضر مباشرة أمامك خطابه بالعربية عام 2011 والذي توجه فيه للشعبين التونسي والمصري، هو أجاب فيه حينئذ عن السبب: "على ساحة العالم الإسلامي اليوم إرهاصات حادثة عظيمة مصيرية كبرى، حادثة تستطيع أن تغيّر معادلات الاستكبار في هذه المنطقة لصالح الإسلام ولصالح الشعوب" 

اللحظة إذاً هي الأصل، كانت تلك أيام ثورات شعوب أراد " القائد " توجيهها لما فيه مصلحة هذه الأمة وعزة الإسلام والمسلمين في وجه المستكبرين، يقودك ذلك إلى الربط بأن الخطاب الموجه للشباب العربي جاء في لحظة مصيرية أيضاً، في توقيت تتشكل فيه صورة جديدة للمنطقة، خلال لحظات سيجيبك " المرشد الأعلى " عن ملامح هذه الصورة .

اختزل المقدمات المطوّلة، ذهب إلى النتيجة، الخطاب مع الشباب لا يحتمل المطولات، هو يعلم ذلك، وجّههم إلى " غد تنعم فيه بلدانكم بالحرية والتقدم والاستقلال"، ولكن : " أعدّوا أنفسكم "، ستجد نفسك مجدداً امام خطاب عام 2011، هاتان الكلمتان تقولان لك أننا امام نتيجة طبيعية للصحوات الإسلامية، نضجت برغم كل الظروف خلال السنوات السبع الماضية ، وبرغم محاولات المصادرة و التسلق و التحريف ، انتهت مرحلة الاستيقاظ والنهوض ، الآن نحن امام مرحلة أكثرعملية، هاكم معالم "أعدوا أنفسكم " هذه : " تحملوا مسؤولية الغاء المعادلة الباطلة التي خلقتها بعض الحكومات العربية لشعوبها " . 

لم يدعو " الإمام " لإسقاط هذه الحكومات، حفظ الحد المانع من تأويلات خطابه، مع معالم إعداد النفس حرص على تأطير المعادلة التي يجب إلغاءها :" اخرجوا من الخضوع للهيمنة الأميركية وعدم اتخاذ موقف حازم وحاسم من العدو الصهيوني الغاصب ، انبذوا المواقف العدائية مع الاخوة والتزلف للأعداء ." 

عنوانان ، لا حاجة للغرق في تفسيرهما ، تجد ان قائد الثورة ربطهما ذاتياً بأطر وضعها مفجر الثورة وصاحب المناسبة : مقارعة الاستكبار و الوحدة الإسلامية .

كيف السبيل ؟ 

هنا زبدة الكلام ، يصوب الامام الخامنئي باتجاهين معنوي ومادي ، يطلب خلق التوازن اللازم بينهما ، وهو الذي ضربه الغرب فجعل من شباب العرب إما غرقى بالمادة او تائهين بلا روح أصيلة ومتعلقين بقشور وتكفير . 

ينفخ فيهم روحاً " كونوا مفعمين بالأمل "، يطالبهم بالخروج من سطوة الحروب بأشكالها الصلبة و الناعمة والمباشرة وغير المباشرة ، قيود المادة يجب ان تكسر ، الأمل هذا هو المحرك يعيدهم إلى اصالة القرآن :" أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها "

هذا الأمل سيكون نورهم الذي يهتدون به ، ستصبح طرقهم أوضح ، فيأتي العنوان الثاني : الإبتكار والعمل ، ستتمهد الظروف للإبتكار ، سيخرجون من التقليد و التقليدية ، و ينبذون ما وجدوا عليه حكامهم و أتباعهم، هذا الابتكار سيسخّر بين أيديهم الوسائل وموادها الأولية ، ستدق بعدها ساعة " العمل " ، في مختلف الميادين يجب ان يكون هذا   " العمل " ، ليس كفعل مادي قائم بذاته ، بل كفعل مادي ببعد معنوي مملوء بالإبتكار يقوده الأمل بالتغيير و صناعة المستقبل ، وهنا سيصبح بإمكانهم صنع ثوبهم الخاص تشكيل هويتهم الذاتية ، هكذا يمهّد القائد الأرضية ليطرح العنوان الثالث المشدد: " بناء شخصياتكم ، اهتموا ببناء شخصياتكم " .

يسدد الامام بهذه التوصية إلى قلب المشروع الغربي الذي يحاول مسح شخصيات الشباب العربي ، تارة بجعلها رخوة او فارغة المضامين ، وتارة أخرى بجذبها الى أفكار تبعية بل تكفيرية ركزت جهدها في الأماكن الخطأ ولتحقيق اهداف شيطانية .

يوضح القائد مباشرة نتائج بناء هذه الشخصية : " المستقبل يكون لكم ان كنتم انتم الذين يبنونه اليوم ، ان بينيتم المستقبل فتنعمه سيعود عليكم ، لانه لا تهابوا هيمنة عالم الكفر وثقوا بوعد الله عز وجل " ، هذه نتيجة طبيعية لهذا المسار ، من له شخصيته القائمة على  الابتكار والعمل ، والمبنية على توازن مادي معنوي لن يسمح لأي استكبار او كفر بالهيمنة ، سيدافع عن إنجازاته ، بل سيكون كل توجهه لكسر هذه الهيمنة متى وجدت ، وسيعرف تمام المعرفة قيمة نبذ التفرقة بين الاخوة وهذا ما يسمى اليوم سيادة الدول واستقلالها ، هذه المعالم و الوسائل هي بداية طريقها .

لكن القائد يذهب أبعد، يريد ان يحمل الشباب العربي هماً أبعد من هم الفرد او الشخص، سيصوب الاتجاه أكثر، سيعطيهم المفتاح الملك لكل ذلك : القدس وفلسطين. 

"الدفاع عن القدس وفلسطين هو خطوة رحبة في هذا الطريق"، ليس شعاراً جماهيرياً، هنا أصل الحكاية ومبتداها ومنتهاها، وارتباط الشباب العربي الغيارى بهذه القضية و الدفاع عنها هو أقصر الطرق لبلوغ تلك الاماني ، هذا ما يعبر عنه القائد:   " الطريق الواضح "، كل العمل و الابتكار والبناء هو من هنا وإليه، هذا هو المعيار، بقدر الاقتراب من القدس سيقترب زمن انكسار قيود الظلم و التبعية في دول هؤلاء الشباب  وبقدر الابتعاد عنها ستكون كل حركتهم مهما تعاظمت شعبيتها : " كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء " ، ليعودوا بالرزوح أكثر وأكثر تحت مظلة الغرب ومشاريعه وقيوده ، سيعيدك ذلك إلى مضامين كلامه دام حفظه عام 2011 : " فلسطين منذ عشرات السنين تشكل أبرز محور في مسائل المنطقة، ومسائل هذه المنطقة متداخلة مترابطة بحيث لا يستطيع أي بلد أوأي شعب أن يتصور مصيره بمعزل عن القضية الفلسطينية. وليس ثمة‌ أكثر من جهتين:‌ إما دعم لفلسطين ونضالها العادل أوالوقوف في الجبهة المقابلة  " 

توجه الامام الخامنئي للشعوب العربية وشبابها مرتين ، في الأولى رسم المسار ، في الثانية بشّر باقتراب فجر التحرر ... والوجهة في المرتين : القدس .