الكاتب: علي رضا كميلي

لطالما كانت غالبيّة الحروب منطلقًا للتحوّلات الفكريّة، السياسيّة والأدبيّة والفنيّة أيضًا، وفي عصرنا الحالي، أدّت «فلسطين» هذا الدّور لدرجة أنّ تنامي وأفول التيارات القوميّة، الإسلامويّة والغربيّة في العالم الإسلامي، وخاصّة المنطقة العربيّة، كان تابعًا لمصير الصراع مع الكيان الصهيوني، أو السلام معه. 

تركت هذه الأحداث آثارًا عميقة في نخب العالم الإسلامي، لدرجة أنّ مفكّرًا مثل طه عبدالرّحمن، والذي كان حينها شاعرًا حماسيًّا، خاض بعد الهزيمة المريرة التي تلقّاها العرب في العام 1967 م مجال التفكير الفلسفي، وواجه أسئلة جوهريّة. ونحن نواجه اليوم أيضًا نفس السنخ من «الصّحوة» لدى النّخب، وفي أوساط الأمّة الإسلاميّة، بل وأيضًا لدى بعض سكّان البلاد الغربيّة، وهذه فرصةٌ تاريخيّة. 

في ظلّ هذه الظروف، يجري مجدّدًا التأمّل في فلسفة تأسيس الكيان الصهيوني المؤقّت في منطقتنا، والسبب الذي يدفع الغرب وأمريكا إلى تقديم الدعم الكامل والشامل له. واليوم، يُعاد التركيز على أزمة الحكومات التابعة أو الضعيفة في العالم الإسلامي، كما تُثار أسئلة كثيرة حول مدى فعالية الهيكليّة السياسية العالميّة الحاليّة، بما في ذلك مجلس الأمن، والأمم المتّحدة، ومنظّمات مثل منظّمة التعاون الإسلامي، لدرجة أنّ هذا الأمر كان موضوع حديث العديد من رؤساء جمهوريّات الدول في آخر اجتماع للجمعيّة العامّة. 

ربّما يمكن حصر السؤال الرئيسي في زماننا الحالي بـ«أسلوب العيش الكريم والمستقل». فالانتقال من حقبة الامبراطوريّات الإسلاميّة، ودخول مرحلة التدخّل الاستعماري الغربي العلني بعد الحرب العالميّة الأولى، كان مرحلة مريرة، لكنّها انتهت. ومع انقضاء الوقت، وخاصّة بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، تمّ ترسيخ فكرة «إمكانيّة العودة إلى القوّة والاستقلال» وأُعيدَ إحياء الآمال. 

مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وتبدّل هيكليّة السلطة في العالم، ازدادت التصرّفات الأُحاديّة للغرب، وتم الحديث بصراحة عن ولادة «الشرق الأوسط الجديد». وقد أُسنِدَ تحقيق هذا الهدف إلى أداتين: الأولى كانت كلبهم المسعور، أي الكيان الصهيوني الذي أُنشئ أساسًا لهذا الغرض، والثانية كانت الأداة المخدوعة المتمثّلة في داعش والتكفيريّين، الذين جلبوا ما شهدناه في دول المنطقة، وأضاعوا عمليًّا فرصة الصحوة الإسلاميّة، من خلال إشعال الصراعات الداخليّة في العالم الإسلامي. 

في هذه المرحلة الحساسة، كان من الواضح أنّ أهمّ نقطة للاستقلال الحقيقي في العالم الإسلامي، أي «إيران ما بعد الثورة الإسلاميّة»، أدّت دورًا محوريًّا في إلحاق الهزيمة بهذين المشروعين الخطيرين. استطاعت المقاومة في لبنان وفلسطين إفشال هجمات الكيان الرامية إلى السيطرة على المنطقة، وتغلّبت حركات المقاومة الناشئة في سوريا والعراق واليمن على ظاهرة داعش، مما حال دون إعادة تصميم المنطقة وفق ما يخدم مصالح الغرب. هكذا، أدرك الجميع أنّ قوّة جديدة قد وُلدت في المنطقة، قوّة أبرزت وجودها في هذه الأيام بشكل رسمي، وخاضت ميدان العزّة دفاعًا عن «غزّة المظلومة» بكلّ رجولة وشهامة، رغم كلّ المشكلات وأنواع الضعف، لدرجة أنّها دفعت أعداءها ومنتقديها أيضًا إلى الإشادة بها. 

هذا النموذج الذي تسطع هويّته المستقلّة وقوّته النسبيّة أمام أعين الجميع، يجب أن يتكاثر، وذلك ممكنٌ ومتاح. تؤدي التحولات الفكريّة إلى إنشاء تيارات اجتماعيّة وسياسيّة في نهاية المطاف، وفي عالم ما بعد «طوفان الأقصى»، سيكون مستقبل الأمّة الإسلاميّة محمّلًا بهذه الأحداث في القريب العاجل. وإنّ كلّ الدول التي سعت للخروج من سيطرة القوى العظمى، وتبعيّتها لها، قادرة اليوم على الانضمام إلى هذه السلسلة من الاستقلال، ومنع فرض إرادة القوى العظمى في المنطقة. كما إنّ تخطّي الحرب المصيريّة الحاليّة يقع في الأولويّة الأولى حتمًا، لكن ينبغي التفكير أيضًا في الأفكار التي تؤدّي إلى الوحدة وصناعة الهويّة بين هذه العناصر.  

الفکر الأممي بمنزلة استراتيجيّة كبرى في المرحلة الراهنة، وينبغي أن ينتقل من مستوى الحوارات والمؤتمرات إلى أفكار قابلة للتنفيذ على أرض الواقع. فالعدو الصهيوني، يقدّم عبر توظيفه عناصر تابعة له بلا هويّة وجذور حقيقيّة، بل وحتى لا تملك الأرضيّة اللازمة للتحقق، أفكارًا من قبيل «آي ماك» ليصنع هويّة موحّدة، ويضخّ الأمل في مشاريعه. بينما نحن ودول المنطقة، نملك احتياجات وقواسم مشتركة كثيرة يُمكن أن تتحقّق. «وحدة المصير» هذه حقيقيّة ومترابطة، لدرجة أنّ العواصف الرمليّة في صحارينا أيضًا تٌشكّل أزمة مشتركة في ما بيننا، وتمهّد الأرضيّة لفتح مجالات التعاون المتبادلة. 

اليوم، في إطار العالم الإسلامي، تتوفر البنية التحتية لإنتاج كافة الاحتياجات الأساسية للحياة، مما يضع الأساس لتحقيق «الاستقلال الاقتصادي الإقليمي». کما يمكن أن تتم التبادلات المالية والتجارية من خلال إنشاء عملة موحّدة، أو بنية تحتية مالية مشتركة. ستكون منطقة الطاقة، وحتى وضع السياسات الخاصّة بالطاقة العالميّة، بأيدي المسلمين. إنّ ربط مصالح الدول ببعضها، وتجنّب العداوات والصراعات، يمكن أن يُثمر سريعًا جدًّا، ويعرض لنا الفوائد الماديّة والمعنويّة لهذه الوحدة والتعاون المشترك. 

إنّ ارتقاء مستوى تبادلنا الاقتصادي مع استلام حكومات إسلاميّة زمام الأمور في تركيا والعراق، واندراجهم ضمن شركائنا التجاريّين الخمسة الأوائل، يثبت العلاقة العميقة القائمة بين المصالح الوطنيّة والتوجّهات السياسيّة الخارجيّة للثورة الإسلاميّة. وإنّ تبادلات الطاقة وتصدير التقنيّات والعلوم الهندسيّة إلى الحكومات ذات التوجّهات المشتركة في بعض مناطق أمريكا اللاتينيّة، يؤيّد هذا التطابق، وهذا يعني أنّه يمكن، من خلال سياسة خارجيّة قائمة على أسس فكريّة وتوجّهات مستقلّة، توفير المصالح الاقتصادية والوطنيّة التي تحتاجها البلاد، وتحقيق «المثاليّة الواقعيّة»، بوصفها أمرًا معقولًا وقابلًا للتحقّق. 

لقد حان الوقت لتعريف «المصالح الإقليمية للأمة الإسلامية» بدلًا من المصالح الوطنية أو الشخصية لكل دولة على حدة. فالعديد من الدول الإسلامية التي كانت ضحية للاستعمار؛ أصبحت اليوم قوى ناهضة تقف على أعتاب الاستقلال والتحول. وإنّ الاجتماع الذي انعقد في كوالالمبور قبل عدة سنوات، بمشاركة إيران، تركيا، ماليزيا، قطر، باكستان وغيرها، تناول مواضيع مثل التخلص من هيمنة الدولار، والتبادلات الماليّة القائمة على العملة الوطنيّة، والتعاون في المجالين الاقتصادي والسيبراني، وكشف هذا الاجتماع عن أن الأمة الإسلامية تمتلك إمكانيات هائلة لتشكيل قوة عالمية جديدة ذات توجه موحّد.

وإنّ فهم «وحدة المصير» بعد طوفان الأقصى، وما أعقبه من إظهار العدو لوحشيته الفاضحة في قتل المسلمين، وتجاهله التام لآراء دول المنطقة، أصبح أوضح من ذي قبل. هذا الفهم الجماعي لواقع الأمة الإسلامية بات أكثر أهمية وضرورة، وهو فرصة ثمينة يجب اغتنامها لتحقيق التغيير وإعادة التضامن والوحدة بين الدول الإسلامية، فاغتنم الفرص!