بسم الله الرحمن الرحيم،
والحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّدٍ، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، [ولا] سيّما بقيّة الله في الأرضين.
أرحّب بالإخوة والأخوات الأعزاء جميعهم الذين ملأوا اليوم أجواء هذه الحسينية بمشاعرهم التوحيدية المخلصة والمفعمة بالمحبة، وخاصة الإخوة والأخوات الذين جاؤوا من بعض المدن الأخرى.[1]
تجري اليوم أحداث مهمة في منطقتنا التي تُعد واحدة من أكثر المناطق حساسية في العالم، يجب فهم هذه الأحداث على نحو صحيح، وكذلك يجب أن نأخذ منها دروساً وعبراً. الرأي العام في البلاد مشغول بهذه المسائل أيضاً؛ يطرح أسئلة، ولديه آراء وتعليقات؛ لذا من الضروري أن تُعالَج الإبهامات. لا أهدفُ إلى تحليل قضايا سوريا اليوم - فهناك مَن يحللون - ولكن هدفي اليوم هو «التبيين والترسیم». أقصد من «التبيين» أن نشرح ما حدث وما قد يُحاوَل إخفاؤه عن الأعين بالقدر الذي نستطيع أن نراه ونفهمه. أما «الترسيم»، فيعني أن أرسّم وأشرح أثناء حديثي اليوم معالم وضعنا وحركتنا وحركة المنطقة ومستقبلها وفقاً لفهمنا. هذه هي المحصّلة والخلاصة لما سأعرضه اليوم، إن شاء الله.
بدايةً، لا شكّ في أنّ ما حدث في سوريا هو نتاج خطّة أمريكيّة وصهيونيّة مشتركة. نعم، هناك دورٌ واضحٌ لإحدى الدول الجارة لسورية وهي لعبَته وتلعبه الآن أيضاً، وهذا ما يراه الجميع، ولكنّ أولئك هم السبب الأساسي. المتآمر الرئيسي والمخطّط الأساسي وغرفة التحكّم الأساسيّة موجودة في أمريكا والكيان الصهيوني. لدينا قرائن على ذلك، وهذه القرائن لا تُبقي للمرء أيّ مجال للشكّ والتردّد. كانت إحدى القرائن على ذلك هي سلوكهم تجاه هذه الحادثة. حدثت في دولة ما حرب - حتى وإن لم تكن متفقاً مع حكومة تلك الدولة -، وتناحرت مجموعتان؛ وهذه الأحداث تحدث في كل مكان، لكن لماذا تتدخلون؟ وفقاً للأخبار التي وصلت، استهدف الكيان الصهيوني أكثر من ثلاثمئة نقطة في سوريا! لماذا؟ إنْ لم تكن لكم علاقة بهذه الحادثة، وإنْ لم يكن المخطط لهذه الحادثة مرتبطاً بكم، إذاً فاجلسوا وتفرّجوا [فقط]. تتقاتل مجموعتان مع بعضهما بعضاً؛ فما هو سبب تدخّلكم في الحرب وقصف أكثر من ثلاثمئة نقطة؟ الأمريكيون أنفسهم أعلنوا - طبعاً حتى يوم أمس، وربما قد تكون الأعداد قد ارتفعت بعد ذلك - أنهم هم أيضاً قصفوا 75 نقطة! بعض هذه النقاط التي قصفوها هي منشآت بنى تحية في سوريا؛ أماكن لا يمكن بناؤها بسهولة وتستنزف جهداً كبيراً من أيّ دولة. أن تبني المطارات والمراكز البحثية وتربّي العلماء، فهذه ليست أعمالاً سهلة. لماذا دخل الكيان الصهيوني وأمريكا في هذه القضية وأصبحوا طرفاً في الحرب وبدؤوا في قصف البلاد؟ قصف ثلاثمئة أو أربعمئة نقطة ليس أمراً بسيطاً!
بالإضافة إلى ذلك، احتل الكيان الصهيوني أراضيَ سورية؛ وصلت دباباته إلى مشارف دمشق. منطقة الجولان، التي كانت لدمشق، كانت تحت سيطرتهم لسنوات، والآن بدؤوا في احتلال مناطق أخرى أيضاً. أمريكا وأوروبا والدول التي تُبدي حساسية تجاه هذه الأمور في دول أخرى، تكون حساسة حتى لمتر واحد أو مترين، لم تكتفِ بالصمت ولا الاعتراض، بل تعاونت أيضاً. هذه الفِعلة فِعلتهم. بالإضافة إلى ذلك، القرينة الأخرى هي أنه في الأيام الأخيرة كان من المفترض أن تُرسَل بعض المساعدات إلى الشعب السوري أو إلى أهالي منطقة معينة في سوريا، مثلاً كانت المنطقة المحيطة بالسيدة زينب (ع) بحاجة إلى الإمكانات والأفراد والقوات، وكان من المفترض أن تُرسَل من هنا، ولكن الطائرات الصهيونية والأمريكية أغلقت المسار بالكامل. انتشرت طائرات "إف-15" في السماء، ومنعت أي طائرة من المرور. طبعاً، أبدى أحد طيّاري طائراتنا شجاعةً ومخاطرةً، وذهب ليهبط، ولكن كان من الضروري أن تُتخذ إجراءات أكثر، وكان لا بدّ أن يُبذلَ أكثر من ذلك؛ ولكنّهم صدّوه. إذا لم تكونوا أصحاب القضية في هذا الأمر، وإذا لم تكونوا أنتم مَن تحاربون سوريا باسم إحدى الجماعات الإرهابية أو المسلّحة مثلاً، وإذا لم تكونوا مَن يقف خلفهم، فلماذا تؤدون هذه الأفعال كلها؟ لماذا تتدخلون؟ لماذا تقدّمون العون؟ لماذا تمنعون المساعدة عن الشعب السوري؟
من المؤكد أنّ هؤلاء المهاجمين الذين قلت إنّ لدى كلٍّ منهم غايته، وتختلف أهدافهم بعضها عن بعض، يسعون إلى احتلال الأراضي من شمالي سوريا أو جنوبها، وتسعى أمريكا إلى تثبيت موطئ قدمها في المنطقة؛ هذه هي أهدافهم، وسيَثبُتُ، مع مرور الوقت، أنّهم لن يحقّقوا أيّاً من هذه الأهداف، إن شاء الله. سوف تتحرّر المناطق المحتلّة من سوريا على أيدي الشباب السوريّين الغيارى؛ لا تشكّوا في أنّ هذا الأمر سيحدث. لن يثبت لأمريكا موطئ قدم أيضاً، وبتوفيقٍ من الله وحولٍ منه وقوّة، ستطرد جبهة المقاومة أمريكا من المنطقة. لقد ذكرت جبهة المقاومة، وأود أن أتحدث ببضع نقاط عن جبهة المقاومة. عناصر الاستكبار فرحون بعد هذه الأحداث في سوريا، وهم يُعبّرون عن فرحهم ظنّاً منهم أنّ جبهة المقاومة باتت ضعيفة مع سقوط الحكومة السوريّة التي كانت تؤيّد المقاومة. يُبدون فرحهم ويقولون إنّ جبهة المقاومة ضَعُفَت. هؤلاء واقعون في خطأ فادح. أولئك الذين يظنّون أنّ جبهة المقاومة ضَعُفَت بسبب هذه الأمور، لا يملكون فهماً صحيحاً للمقاومة وجبهة المقاومة، ولا يعرفون أساساً ما تعنيه جبهة المقاومة. جبهة المقاومة ليست مجرّد عتاد مادّي لتنكسر أو تنهار أو تزول. المقاومة إيمان، وفكر، وقرارٌ قلبي وحاسم. المقاومة مدرسةٌ، وهي مدرسةٌ عقديّة. إنّها ما يؤمن به عددٌ من الناس، وليست اتفاقاً عارضاً، ولا يقتصر الأمر على عدم ضعفها بممارسة الضغوط، بل ستغدو أكثر قوّة. أفراد جبهة المقاومة وعناصرها، تتعزّز دوافعهم مع رؤيتهم الخبائث، وإنّ رقعة جبهة المقاومة تزداد اتّساعاً.
هي تزداد صلابة بقدر فرضكم الضغوط، وتتعزّز دوافعها بقدر ارتكابكم الجرائم، وتتّسع أكثر بقدر قتالكم ضدّها، وأقولها لكم: سوف يشمل نطاق المقاومة المنطقة بأسرها، أكثر من السّابق، بحول الله وقوّته. هكذا هي المقاومة. عندما يرون جرائم العدو الوحشية، فإنّ أولئك الذين كانوا في شكٍّ بشأن ضرورة المقاومة من عدمها، يخرجون من الشكّ، ويدركون أنه لا سبيل للإنسان لمواصلة طريقه سوى أن يتصدّى للمستبدّ والظالم والمتغطرس؛ لا بدّ أن يصمد، ويقاوم. هذا معنى المقاومة.
انظروا إلى «حزب الله» في لبنان، انظروا إلى «حماس»، انظروا إلى «الجهاد»[2]، انظروا إلى القوى الفلسطينية المناضلة؛ لقد تعرّضوا لذاك الكم من الضغوط. هل كانت المصيبة التي حلّت بـ«حزب الله» مزحة؟ هل كان فقد «حزب الله» لشخص مثل السيد حسن نصر الله أمراً هيّناً؟ لكن بعد ذلك ازدادت هجمات «حزب الله» وقوته وقبضته المُحكمة عن ذي قبل؛ وهذا ما فهمه العدو واعترف به. ظنّوا أنهم الآن بعد أن وجهوا ضربة، يمكنهم دخول أراضي لبنان ودفع «حزب الله» إلى الوراء، مثلاً إلى نهر الليطاني، ثم التقدم للأمام؛ ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك. وقف «حزب الله» بكل قوة؛ فعل ما جعلهم هم أنفسهم يأتون ويطالبون بوقف إطلاق النار! هذه هي المقاومة.
انظروا إلى غزة! ها قد مرّ عام وبضعة أشهر وهم مستمرون بقصف غزة وقتلوا الشخصيات البارزة فيها، مثل يحيى السنوار، وأوقعوا هذه الضربات؛ ومع ذلك، بقي الناس صامدين. كانوا يظنون أنهم سيضعون الشعب تحت الضغط ليقفوا ضد «حماس» ويثوروا عليها؛ لكن حدث العكس؛ أصبح الناس أكثر تأييداً لـ«حماس». و«الجهاد» كذلك، وبقية الفصائل الفلسطينية أيضاً على المنوال نفسه. هذه هي المقاومة، وهذه هي جبهة المقاومة: تزداد صلابة بقدر فرضكم الضغوط، وتتعزّز دوافعها بقدر ارتكابكم الجرائم، وتتّسع أكثر بقدر قتالكم ضدّها، وأقولها لكم: سوف يشمل نطاق المقاومة المنطقة بأسرها، أكثر من السّابق، بحول الله وقوّته. ذلك المُحلّل الجاهل وغير العارف بمعنى المقاومة يظنّ أنّ المقاومة ضَعُفَت، وأنّ إيران الإسلاميّة ستَضعُف أيضاً، وأنا أقول لكم إنّ إيران القويّة مقتدرة وستغدو مقتدرة أكثر، بحول الله وقوّته، وبإذن الله تعالى.
أود أن أذكر نقطة أخرى عن المقاومة. أولاً، فلنشرح ما معنى المقاومة أساساً. المقاومة تعني الوقوف في وجه هيمنة أمريكا وأيّ قوة مهيمنة أخرى؛ هذا هو معنى المقاومة. المقاومة تعني النضال ضد التبعية لهذه القوى [المستكبرة]؛ المقاومة تعني ألّا تصير الشعوب عبيداً لقوى متسلطة كأمريكا وأمثالها؛ هذا هو معنى المقاومة. هذا المعنى من المقاومة متجذر في عقيدة شعوب المنطقة. لا أتحدّث عن الحكومات؛ بل الشعوب هي التي تُولي اهتماماً بالمقاومة؛ المقاومة متجذرة في إيمان الشعوب وعقيدتها. هل رأيتم ماذا فعلت شعوب المنطقة من أجل [نصرة] غزة؟ أولئك الذين لا يتحدثون لغتهم، ولا زاروا منطقتهم، ولا يعرفونهم شخصياً، وقفوا في أنحاء هذه المنطقة كلها - بل في معظم أنحاء العالم - ضد الكيان الصهيوني وأيّدوا أهالي غزة. هذه هي العقيدة المشتركة بين شعوب المنطقة، وهذا هو السبب الحقيقي أيضاً.
التفتوا، الآن وقد مرّ حوالى 75 عاماً على غصب فلسطين؛ عادةً، الحادثة التي حدثت منذ 75 عاماً كان من المفترض أن تَخفُت تدريجياً، وأن تُنسى من أذهان الأفراد وتخمد شعلتها. لكن اليوم، وقوف شعوب المنطقة والفلسطينيين أنفسهم من أجل قضية فلسطين، ربما أصبح أكبر عشر مرات مما كان عليه في بداية الأمر؛ إنه يشتدّ بدلاً من أن يخفُت. هذه هي خصوصية العقيدة المشتركة والعامة، وهذا سيستمر بالتأكيد.
التماشي مع الكيان الصهيوني هو خط أحمر بالنسبة إلى الشعوب، ولا شأن لي بالحكومات؛ فهي تقول شيئاً آخر. إذا سألتم الشعوب، سترون أنها معارضة؛ الغالبية الساحقة من الشعوب تعارضها. طبعاً، الكيان الصهيوني يرتكب الجرائم، لكن الجرائم لا تجلب النصر لأحد؛ لا جرائم الكيان الصهيوني في لبنان، ولا جرائمه في غزة، ولا في الضفة الغربية حيث تناضله الفصائل الفلسطينية. تُرتكب هناك جرائم كثيرة، ولكن الجرائم لا تحقق النصر لأحد. هذه سنّة إلهية، واليوم نرى هذه التجربة التاريخية تحدث أمام أعيننا في غزة ولبنان.
حسناً، يُطرح هنا سؤال: هل كنّا موجودين في سوريا أثناء هذه الأعوام، مع هذا الوصف الذي قدّمناه عن القضايا السوريّة؟ أم لا؟ بطبيعة الحال، يعلم الجميع أن الإجابة هي نعم. شهداء الدفاع عن العتبات دليلٌ واضحٌ على أنّنا كنّا حاضرين. لكن كيف؟ هذا يحتاج إلى توضيح. النقطة المهمّة هي أنّ الجميع يعرفون بوجودنا، والجميع شيّعوا الشهداء، لكن هناك نقاط عدّة لا يعرفها غالبية النّاس، أو لا يعرفها كثيرون من شبابنا على الأقل. نحن قدّمنا المساعدة للحكومة السوريّة، ولكن قبل أن نقدّم الدّعم للحكومة السوريّة، قدّمت لنا الحكومة السوريّة مساعدة مصيريّة في مرحلة حسّاسة. هذا ما لا يعرفه غالبية النّاس. أثناء مدة الحرب، وفي خضمّ مرحلة «الدفاع المقدّس»، عندما كان الجميع يعملون لمصلحة صدّام وضدّنا، أقدمت الحكومة السوريّة على خطوة عظيمة وحاسمة لمصلحتنا وضدّ صدّام، وكانت أنّها قطعت خطّ الأنابيب الذي كان ينقل النّفط من هناك إلى البحر الأبيض المتوسّط وأوروبا، وكان عائد النفط يدخل إلى جيب صدّام. أحدث ذلك ضجّة كبيرة في العالم. لقد منعت تدفّق النّفط الذي كان مخصّصاً لصدّام.
كم كانت كميّة النفط التي تمرّ من هناك؟ مليون برميل يوميّاً. كان يُنقل مليون برميل نفط يوميّاً عبر هذا الخطّ إلى البحر الأبيض المتوسّط. حتّى إنّ الحكومة السوريّة نفسها كانت تستفيد ماديّاً من عبور النفط عبر هذا المسار، وكما هو مصطلح، كانت تربح من «ترانزيت» هذا النفط، وتجني الأموال مقابل ذلك، وهي غضّت النظر عن ذاك المال. طبعاً، حصلت على مقابل ذلك منّا، أي إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة لم تترك هذه الخدمة من دون مقابل. إذاً، هم ساعدونا أوّلاً. هذا أوّلاً.
لكن في قضيّة فتنة «داعش». «داعش» يعني قنبلة زعزعة الأمن. «داعش» كان يعني زعزعة أمن العراق، وسوريا، والمنطقة، ثمّ الوصول إلى النقطة الرئيسيّة والهدف النهائي، أي جمهوريّة إيران الإسلاميّة، فيُزعزع أمن جمهوريّة إيران الإسلاميّة. كان هذا الهدف الرئيسي والنهائي؛ هذا معنى «داعش». لقد حضرنا، وحضرت قوّاتنا أيضاً في العراق، وفي سوريا أيضاً، لسببين: السّبب الأوّل كان صون حرمة العتبات المقدّسة. لأنّ أولئك المنسلخين عن الأمور الروحانيّة والبعيدين عن الدين والإيمان كانوا يعادون العتبات المقدّسة، وكانت غايتهم التدمير، وقد دمّروا فعلاً، ولاحظتم في سامرّاء أنّهم أزالوا بمساعدة الأمريكيّين القبّة المطهّرة في سامرّاء، ودمّروها، ثمّ أرادوا لاحقاً تكرار هذا الأمر في النجف، وكربلاء، والكاظمية، ودمشق. كان هذا هدف «داعش». حسناً، من الواضح أنّ ذاك الشاب المؤمن الغيور والمحبّ لأهل البيت (ع) لا يرضخ أبداً لمثل هذا الأمر، ولن يسمح به. هذا السبب الأوّل. السّبب الآخر كان قضيّة الأمن. لقد أدرك المسؤولون سريعاً وفي الوقت المناسب، أنّه إذا لم يجرِ التصدّي لزعزعة الأمن في هذه الأماكن، فإنّها ستسري إلى هنا وتزعزع الأمن في أرجاء بلدنا الكبير. لم تكن زعزعة الأمن الناتجة من فتنة «داعش» أمراً عاديّاً، وأنتم تتذكّرون النماذج جميعها التي حدثت؛ [إن كان] في حادثة «شاهتشراغ»[3] أو حادثة «كرمان»[4] أو حادثة «مجلس الشورى»[5] وأمثالها، وحيثما استطاعوا ارتكبوا مثل هذه الكوارث. كان مقرّراً أن يأتي [داعش] هذا إلى هنا. قال أمير المؤمنين (ع): «مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا»[6]؛ لا تدَعوهم يصلوا إلى دياركم. لذلك، انطلقت قواتنا، وذهب أبرز قادتنا؛ ذهب شهيدنا العزيز سليماني ورفاقه وزملاؤه، ونظّموا الشباب في العراق، وسوريا أيضاً، بدايةً في العراق ثمّ في سوريا، وسلّحوا شبابهم، فتصدّوا لداعش، وقصموا ظهره واستطاعوا التغلّب عليه. حسناً، كان حضورنا في تلك القضيّة على هذا النّحو.
التفتوا إلى هذه القضيّة: كان هذا شكل حضورنا العسكري في سوريا، وفي العراق كذلك. لم يكن بمعنى أن نأخذ جيوشنا – جيشنا وحرسنا الثوري - إلى هناك لتحلّ محلّ جيش ذاك البلد. أن يقاتل جيشنا. لا، لا معنى لهذا الأمر. هذا ليس منطقيّاً، ولا يقبله الرأي العام [أيضاً]، بأن ينهض جيشٌ من هنا ويُقاتل بدل جيشهم. لا، القتال بعُهدة جيش ذاك البلد نفسه. كان العمل الذي يمكن أن تؤدّيه قواتنا، وأدّته، هو العمل الاستشاري. ما المقصود بالاستشاري؟ يعني تأسيس المقرّات المهمّة المركزيّة والرئيسيّة، وتحديد الإستراتيجيّات والتكتيكات، وخوض ميدان القتال في الحالات الضروريّة. لكن الأهمّ من ذلك كلّه كان تعبئة شباب تلك المنطقة نفسها، وطبعاً، ذهب كثيرون من شبابنا، ومن التعبويّين لدينا، بلهفة وشوقٍ وإصرار.
لم نكن نوافق أيضاً. كانوا يطلبون منّي – أنا العبد – مرّات عدة، ويسألون، ويكتبون، ويبعثون الرسائل، ويتوسّلون أن اسمحوا لنا بالذهاب إلى سوريا لنتصدّى للعدو. طبعاً، لم يكن ذلك مناسباً، أي لم تكن حينها تُرتأى مصلحةٌ في ذلك، ولكنّهم كانوا يذهبون. كانوا يذهبون عبر الطرق المتعدّدة – وأنتم مطّلعون عليها؛ بعض قصصهم معروفة – واستُشهد بعضهم، وعاد آخرون أيضاً سالمين، بحمد الله. كان أساس العمل هو العمل الاستشاري. كان حضورنا في تلك الأماكن حضوراً استشاريّاً. في بعض الحالات النادرة كان حضور قواتنا ضروريّاً، وكانت غالبيّة قواتنا أيضاً من القوّات المتطوّعة والتعبويّة، إلى جانب القوّات المتواجدة هناك. درّب الشهيد سليماني في سوريا مجموعة مكوّنة من عدّة آلاف من الأشخاص، ومن شبابهم أنفسهم، وسلّحهم، ونظّمهم، وأعدّهم، فصمدوا. طبعاً، لاحقاً تسبّب البعض منهم أنفسهم، المسؤولون العسكريّون نفسهم في ذاك البلد، في المشكلات والمعوّقات، وغضّوا الطرف – للأسف – عمّا كان يصبّ في مصلحتهم.
بعد أن خمدت فتنة «داعش»، عاد جزءٌ من القوّات، بينما بقيَ جزءٌ آخر هناك. بقيَ جزءٌ من تلك القوات التي ذهبت إلى هناك، وكانوا حاضرين في خضمّ هذه الأحداث أيضاً، لكن كما أسلفتُ القول، ينبغي للجيش أن يخوض الحرب الرئيسيّة. قوّات التعبئة التي جاءت من مكانٍ آخر تكون قادرةً على القتال إلى جانب جيش ذاك البلد؛ فإذا أبدى جيش ذاك البلد ضعفاً، لا يكون في مقدور هذا التعبويّ فعل أيّ شيء، وهذا ما حدث للأسف. عندما تتراجع روح الصمود والمقاومة، هكذا تكون النتيجة. هذه المصائب التي تنزل على سوريا اليوم – يعلم الله حتّى متى ستستمرّ، ومتى سيهبّ شباب سوريا، إن شاء الله، إلى الميدان ليوقفوها – هي نتيجة مكامن الضعف هذه التي برزت هناك.
شعب إيران يتباهى بجيشه وحرسه الثوري، ويفخر بهم. ففي قضيّة لبنان، وقضيّة «حزب الله»، وجّه كبار المسؤولين في القوّات المسلّحة والمنظّمات المسلّحة، الرّسائل إليّ بأنّنا لا نطيق التحمّل، اسمحوا لنا بالذهاب. قارنوا هذا مع ذاك الجيش الذي لا يطيق التحمّل، ويلوذ بالفرار! هكذا كان جيشنا في عهد نظام الطاغوت، للأسف. فهم لم يصمدوا ولم يتصدّوا لهجوم الأعداء والأجانب في شتّى الحروب، ومنهم الحرب العالميّة الثانية. في ذاك اليوم، تقدّم العدوّ وسيطر على طهران نفسها. لم يصمدوا. عندما لا يصمدون، تكون النتيجة على هذا النّحو. ينبغي المقاومة والاستفادة من القوّة التي وهبها الله.
نحن كنّا مستعدّين في هذه الظروف القاسية أيضاً، وقد جاؤوا إليّ كذلك، وقالوا: إنّنا أعددنا الإمكانات الضروريّة كلّها للسوريّين، ونحن مستعدّون للذهاب. كان المجال الجوي محظوراً، والطرق البرية مقطوعة، إذْ أغلق الكيان الصهيوني وأمريكا أيضاً سماء سوريا، وسدّوا المنافذ البريّة؛ لم تكن هناك إمكانيّة؛ هكذا كانت الأمور. لو أنّ الدوافع في ذاك البلد بقيت على ما كانت عليه، واستطاعوا أن تكون لهم كلمتهم في مقابل العدو، لما استطاع العدوّ أن يحظر سماءهم، ويسدّ منافذهم البريّة أيضاً. كان من الممكن تقديم العون لهم. حسناً، كانت هذه صورة إجماليّة.
هناك نقاط عدّة أخرى يجب أن أذكرها. النقطة الأولى هي أن الجميع يجب أن يعلموا أنّ الأمور لن تبقى على هذا النّحو؛ أن تأتي مجموعة إلى دمشق أو أماكن أخرى، يفرحون، ويرقصون، ويعتدون على بيوت الناس، ويقصف الكيان الصهيوني أيضاً، ويُحضر الدبابات والمدافع؛ لن تبقى الأمور على هذه الحال. سوف ينهض الشباب السوريّون الغيارى حتماً، وسيصمدون، ويضحّون، ويتكبّدون الخسائر أيضاً، ولكنّهم سيتغلّبون على هذا الوضع. كما أنّ شباب العراق الغيارى فعلوا ذلك. لقد استطاع شباب العراق الغيارى، بفضل مساعدة شهيدنا العزيز [الحاج قاسم سليماني] وتوجيهاته وقيادته وتنظيمه، دحر العدوّ من الأزقّة والشوارع، وطرده من بيوتهم. وإلّا، فإنّ الأمريكيّين كانوا يقدمون على هذه الممارسات أيضاً في العراق؛ كانوا يكسرون أبواب البيوت، ويطرحون الرّجل صاحب المنزل أرضاً أمام زوجته وأطفاله، ويدوسون وجهه على الأرض ويضغطون عليه بجزماتهم! هذا حدث في العراق أيضاً، لكنّهم صمدوا، وقاموا، وبذل شهيدنا العزيز أيضاً إمكاناته كلّها في هذا السّبيل. هؤلاء سيفعلون الشيء نفسه أيضاً. طبعاً، قد يستغرق الأمر وقتاً، وقد يطول أيضاً، لكنّ النتيجة مؤكّدة وحتميّة.
الموضوع الثاني هو أنّ حادثة سوريا تحمل لنا – لكلّ فردٍ منّا ولمسؤولينا – الدروس والعِبَر أيضاً. يجب أن نستلهم الدروس. أحد الدروس هو قضيّة «الغفلة» هذه؛ الغفلة عن العدو. نعم، لقد تحرّك العدوّ بسرعة في هذه الحادثة، لكن كان ينبغي لهؤلاء أن يعرفوا قبل الحادثة أنّ هذا العدوّ سيتحرّك، وسينفّذ تحرّكه بسرعة. نحن كنّا قد قدّمنا العون لهؤلاء، وجهازنا الاستخباراتي كان قد نقل قبل أشهر، تقارير تحذيريّة إلى المسؤولين في سوريا.
طبعاً، أنا لا أعرف إن كانت هذه [التقارير] وصلت إلى أيدي كبار المسؤولين هناك، أم لا، ضاعت في الوسط، لكن مسؤولينا الاستخباراتيّين أخبروهم. منذ متى؟ منذ آب، وأيلول، وتشرين الأوّل. قدّموا التقارير على نحو متتال. يجب اجتناب الغفلة عن العدوّ، وينبغي عدم استصغار العدوّ، وكذلك عدم الوثوق بتبسّم العدوّ. أحياناً يتحدّث العدوّ مع الإنسان بلحنٍ حسن، وبابتسامة، ولكنّه يحمل الخنجر وراء ظهره، ويتربّص الفرصة المناسبة.
نقطة أخرى هي أنّ جبهة المقاومة يجب ألّا تغترّ بالانتصارات، وألّا تيأس من الهزائم. النّصر والهزيمة موجودان دائماً، وهكذا هي الحياة الشخصيّة للبشر أيضاً: فيها النجاح، وفيها الفشل. وهكذا هي حياة الجماعات كذلك: فيها النجاح، وفيها الفشل. يوماً ما تكون جهةٌ في السلطة، وفي يومٍ آخر تُعزل عنها. هكذا هو حال الحكومات والدول أيضاً. هناك صعودٌ وهبوطٌ في الحياة، وليس في مقدور الإنسان أن يتجنّب الهبوط والسقوط. ما يعدّ ضروريّاً هو ألّا نغترّ حين نكون في القمّة، لأنّ الغرور يجلب الجهل، والغرور نفسه يجعل الإنسان غافلاً. عندما نهبط، أو نواجه فشلاً في مكانٍ ما، يجب ألّا نكتئب وتنكسر قلوبنا ويصيبنا اليأس.
الجمهوريّة الإسلاميّة، وعلى مدى هذه الأعوام الأربعين ونيّف، واجهت أحداثاً كُبرى وقاسية. أحداثاً كُبرى! لم يشهد الشباب ذلك اليوم. في طهران هذه نفسها، كان أهالي طهران جالسين في بيوتهم، وكانت مقاتلة ميغ 25 التي صنّعها الاتحاد السوفيتي والتابعة لصدّام تأتي إلى هنا وتحلّق فوق رؤوسنا، ولو تصرّفت برقيّ، لم تكن تقصفنا. لكنّها كانت تُرهب، كانت تبثّ الرّعب! ولم يكن في مقدورنا أيضاً فعل أيّ شيء، فلم نكن نملك الدفاع الجوّي، ولا الإمكانات. لقد واجهنا هذه الأمور. ذات يومٍ كان الجميع جالسين في مدينة طهران هذه، في بيوتهم، وفجأة جاءت طائرات صدّام إلى هنا، وقصفت طهران. قصفوا المطار وأماكن أخرى. أنا شخصيّاً كنت في ذلك اليوم في أحد المصانع القريبة من مطار طهران، وكنت ألقي كلمة. حدث ضجيج، فنهضنا وألقينا نظرة من النافذة، وشاهدت بنفسي الطائرات العراقيّة وهي تهبط وتلقي قنابلها على المطار، ثمّ غادرت. لقد شاهدنا هذه الأمور. الجمهوريّة الإسلاميّة واجهت هذه الأحداث المتنوّعة والمريرة، ولكنّها لم تفقد توازنها في خضمّ هذه الأحداث لو للحظة واحدة.
يجب ألّا يبدر الارتباك عن المؤمن. أحياناً يكون خطر الارتباك أكبر من خطر الحادثة نفسها. الارتباك يعني أن ينظر الإنسان، ويتوصّل إلى هذا الشعور بأنّه عاجزٌ عن فعل أيّ شيء، فيستسلم! هذا هو الارتباك. إذاً، «الغرور» عند تحقيق التقدّم والنجاحات سمّ، و«الارتباك» عند مواجهة الفشل والمشكلات سمّ. يجب أن نحذر هذين الأمرين. يقول القرآن الكريم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)} (النصر). اشكر الله، ولا تغتر! «وَاسْتَغْفِرْهُ»؛ استغفر على التقصيرات التي ارتكبتها!
ثمة بعض الأشخاص طبعاً يركّزون جهودهم على بثّ الخوف في قلوب الناس، وهذا يجب ألّا يحدث. الآن، يفعل بعض الأشخاص ذلك من الخارج، مثل القنوات التلفزيونيّة، والإذاعات، والصحف الأجنبيّة التي تتحدّث إلى النّاس باللغة الفارسيّة، إذ يقدّمون الأحداث بطريقة تهدف إلى تخويف الناس وزعزعة معنويّاتهم. التعامل مع ذلك يتطلّب أسلوباً مختلفاً، ولكن يجب ألّا يفعل أحدٌ هذا الأمر في الداخل. إذا تحدّث أحدٌ في الداخل عبر تحليل أو كلامٍ بما يحمل معنى بثّ الخوف في قلوب الناس، فهذا يُعدّ جريمة، ويجب متابعتها.
المتيقّن هو أنّ الشعب الإيراني متأهّبٌ للعمل. طبعاً من الواضح أنّ الحضور في أيّ نقطة يحتاج إلى مؤازرة حكومة ذاك البلد وموافقتها. نحن حين حضرنا في العراق أيضاً، طلبت الحكومة العراقيّة منّا ذلك. في سوريا عندما حضرنا، طلبت الحكومة السوريّة منا ذلك؛ استطعنا الذهاب بناء على طلبها وموافقتها. إذا لم يطلبوا، فمن الطبيعي أنّ الطريق مغلقة، ولن تتوافر الإمكانيّة لتقديم المساعدة لهم. لكنّ الله المتعالي سيساعد، إن شاء الله، وستُجتثّ جذور الصهيونيّة والعناصر الغربيّة الخبيثة من هذه المنطقة، بفضل الله.
والسّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته
[1] إثر تحرّك الجماعات المعارضة السورية وسيطرتها على مختلف المدن والمناطق في سوريا وتوجهها نحو دمشق، التي حدثت دون تدخّل أو مقاومة من الجيش السوري، سقطت الحكومة السورية وخرج بشار الأسد (رئيس جمهورية هذا البلد) من سوريا. عُقد هذا اللقاء بهدف تشريح الأوضاع في المنطقة وجبهة المقاومة.
[2] «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين».
[3] شنَّ تنظيم «داعش» هجموماً إرهابيّاً على مرقد السيد أحمد بن موسى (عليه السلام) في 26/10/2022، وأطلق النار على الزوار والخدام، ما أسفر عن استشهاد ثلاثة عشر شخصاً وإصابة ثلاثين آخرين.
[4] فجَّر إرهابيون في 3/1/2024، أثناء مراسم الذكرى الرابعة لاستشهاد الشهيد القائد قاسم سليماني (قائد قوة القدس في حرس الثورة الإسلامية) قنبلتين وسط الحشود، ما أسفر عن استشهاد ما يقرب من مئة شخص وإصابة عدد آخر من الزوار قرب روضة شهداء كرمان.
[5] هاجم عدد من أعضاء تنظيم «داعش» في 7/6/2017، مبنى «مجلس الشورى الإسلامي» الموجود في ميدان بهارستان بطهران، ما أسفر عن استشهاد وإصابة عدد من المواطنين والموظفين.
[6] نهج البلاغة، الخطبة 27.