الكاتب: الشيخ علي الجمّال
كثير من المغرضين يسعون إلى إلقاء الشبهات والاستفادة من العصبيّات لتأجيج الناس بعضهم على بعض، وذلك عبر إسعار الفتن ولا سيّما مع وجود وسائل التواصل الاجتماعيّ، حيث صارت مثل هذه الأمور تنتشر كالنار في الهشيم.
ما الهجوم على التصريح الأخير للإمام الخامنئيّ ووصفه الحجّ بأنّه "الفريضة الوحيدة التي يتجلّى فيها الطابع السياسيّ مئة بالمئة" إلّا واحد من هذه الموارد التي يُراد تحريفها عن مضمونها ووجهتها الحقّة خدمةً لمشاريع بعيدة البعد كلّه عن الإسلام.
لمن يعلم أدبيّات الإمام الخامنئيّ، يدرك جيّداً ماذا يقول، وفي مقام البيان لهذا الأمر، من الجيّد مراجعة كلامه السابق للمهتمّ بمعرفة الصواب ومحاكمة هذا القول. سنشير في ما يأتي إلى مجموعة من النقاط المترابطة التي تبيّن النتيجة التي ذكرها.
أوّلاً - السياسة بمعنى التحايل والخداع والكذب على الرأي العامّ ليست ممّا ينشده الإسلام، وإنّما السياسة تعني الإدارة الصائبة للمجتمع وهي من الدين.[1]
هذا كلام للإمام الخامنئي قاله في عام 2002 م. في عام 2016 م، وضّح المعنى الحقيقيّ للسياسة فقال: السياسة هي النظر إلى الحركة العامّة للمجتمع، إلى أين نتّجه حاليّاً؟ هل نتحرّك نحو الأهداف المطلوبة أو أنّنا ابتعدنا وانحرفنا عنها؟[2]
هنا وضّح الإمام الخامنئيّ الإدارة الصائبة للمجتمع التي كان قد ذكرها وأنّها سؤال أين نحن؟ وذلك في سبيل تقييم حركتنا بوصفنا مجتمعاً على نحو صحيح.
ثانياً – ما لا يخفى على أحدٍ أنّ هناك مجموعة من العبادات هي عبادات فرديّة كالصلاة اليوميّة والصوم وغيرها، وهناك عباداتٌ أخرى طابعها اجتماعيّ كصلاة الجمعة والحجّ؛ إذ إنّ اجتماع المؤمنين مأخوذ في هذا النوع من العبادات وهي ليست فرديّة؛ حتّى الصلاة اليوميّة عندما تُقام جماعةً يُلحَظ فيها جنبة اجتماعيّة غير تلك الجنبة الفرديّة التي كانت متحقّقة فيما لو أدّى المكلّف صلاته فرادى.
في فريضة الحجّ يقول تعالى: ]وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ[ [3]، ويظهر جليّاً في هذه الآية أنّ المخاطب بهذه الفريضة هو الناس ليأتوا جماعاتٍ.
ثالثاً – أليس اجتماع الناس بالحجّ وأداء هذه الفريضة نموذجاً عن المجتمع الإسلاميّ في البلدان الإسلاميّة جميعها؟ بالتالي هو المكان المناسب لمعرفة الحركة العامّة للمجتمع، وهو المكان المناسب لنقيّم حركتنا بوصفنا مجتمعاً إسلاميّاً وأنّه هل نسير نحو الأهداف المطلوبة أم لا؟
أليست الوحدة الإسلاميّة[4] التي تتجلّى في الحجّ، والتي هي مصداقٌ لقوله تعالى: ]وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[ [5]، مصداقاً حيّاً للامتثال لتعاليم الإسلام وشاخصاً على أنّنا نسير في المسار الصحيح؟
أليس الدفاع عن المظلوم معياراً آخر لحياة الأمّة وسيرها على الطريق الصحيح؟
ألا يقول تعالى: ]أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ[ [6]؟ وبالتالي أليست البراءة من المشركين فريضة إسلاميّة[7] يريدها الله تعالى؟ ماذا لو نظرنا إلى سياق الآية القرآنيّة الكريمة ووجدنا أنّ الله تعالى أورد هذا الكلام بعد قوله: ]وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ[ [8]؟
رابعاً – إذا أتينا إلى أفعال الحجّ من طوافٍ وسعي ورجمٍ وغيرها من الأعمال، ألا تعكس هذه الأعمال الوحدة الإسلاميّة وذلك بالتوجّه إلى الإله الواحد في قبلته الواحدة وعند نبيّه الواحد -؟ ألا تعكس هذه الأعمال الدفاع عن المظلوم الذي حاول الشيطان أن يغويه ونتبرّأ إلى الله تعالى من هذا الشيطان ونرجمه؟ أليس الطواف والسعيّ في تلك البقعة التي لا زرع فيها والذهاب إليها الذي هو امتثال لأوامر الله تعالى إخلاصاً له وتقرّباً منه هي براءة من المشركين الذين كانوا يضعون أصنامهم على ظهر هذه الكعبة؟ أليس تكرار الحاجّ للتلبية والتأمّل فيها أنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبّيك، أليس هذا براءة من المشركين؟ هذه الصرخة التاريخيّة والدائمة ألا تشمل كلّ شرك؟ تارة يكون الصنم هبل واللات والعزّى وأخواتها التي كانت سائدة في الجاهليّة، ولكن قد يكون لها مصاديق كثيرة: فصنم النفس والذات والكبر والشهوة، وصنم التسلّط والخنوع للسلطة، وصنم الاستكبار العالميّ، وصنم التكاسل وانعدام المسؤوليّة، والأصنام كلها التي تذلّ النفس البشريّة الكريمة[9] ونحطّها، هذه كلّها مصداقٌ للشرك، وبالتالي إنّ الحاجّ في تلبيته يتبرّأ منها.
خامساً – هل يوجد عبادة أخرى غير الحجّ يمكن أن تجمع الناس وتعكس الإدارة الصائبة للمجتمع الإسلاميّ، والقدرة على تشخيص الاقتراب من الأهداف أم لا؟
بعد بيان هذه النقاط، نستنج أنّ:
لذا لا يمكن أن نجد تفصيلاً من تفاصيل الحجّ لا يظهر فيه البُعد التوحيديّ الذي يعدّ الكفر بالطاغوت أحد مقوّماته؛ وبالتالي إنّ هذا الأمر السياسيّ موجودٌ في كلّ تفصيل من تفاصيل الحجّ.
من فهم هذه الأمور، كيف لشخصٍ ألّا يقول إنّ الحجّ هو عبادة سياسيّة مئة بالمئة؟
نعم، إنّ الحجّ الخالي من مضمونه التوحيديّ الذي يحرّك الإنسان للتوجّه إلى الإله الواحد والكفر بالطاغوت، هو مجرّد مظاهر شكليّة خالية المضمون، فهل يُعقَل أن يصدر مثل هذا الأمر عن الله تعالى الحكيم؟ هل هذا الأمر يصدق عليه أنّه عبادة؟ لماذا هذا العذاب وهذه المشقّة إن كان الهدف من هذا الحجّ هو الاستعراض فقط؟ أو كان الهدف منه هو ذكر الله تعالى والحالة المعنويّة التي تربط الإنسان بربّه؟
لذا إنّ المتدبّر المنصف سيصل إلى حقيقة أنّ عبادة الحجّ التي هي واحدة من أعظم الفرائض التي فرضها الله جلّ وعلا على عباده وأمر الناس أن يأتوا من أقاصي الأرض ]يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ[ [11]، ليجتمعوا في أيّام مشخّصة ومعيّنة ]وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ[ [12]، هي عبادة سياسيّة محضة تكون مجسّاً دقيقاً مشيراً إلى مدى حركة هذه الأمّة نحو أهدافها الحقيقيّة واستقامتها في سيرها.
[1] في لقاء مع أعضاء لجان صلاة الجمعة في البلاد في ذكرى إقامة أوّل صلاة للجمعة بطهران بتاريخ 05-05-1381 ه. ش/ 16 جمادى الأولى 1423 ه.ق.
[2] كلمة الإمام الخامنئيّ في لقائه أئمّة مساجد محافظة طهران بتاريخ 21-08-2016 م.
[3] سورة الحج، الآية 27.
[4] راجع: كلمة الإمام الخامنئي في لقائه القائمين على شؤون الحجّ بتاريخ 03-07-2019.
[5] سورة آل عمران، الآية 103.
[6] سورة التوبة، الآية 3.
[7] راجع: كلمة الإمام الخامنئي في لقائه القائمين على شؤون الحجّ بتاريخ 03-07-2019.
[8] سورة التوبة، الآية 3.
[9] راجع: نداء الإمام السيّد عليّ الخامنئيّ لحجّاج بيت الله الحرام بتاريخ 23-09-2015.
[10] سورة البقرة، الآية 256.
[11] سورة الحج، الآية 27.
[12] سورة الحج، الآية 28.