شدّد قائد الثورة الإسلامية، الإمام الخامنئي، في لقائه مع القائمين على شؤون الحج في تاريخ 4/5/2025، على البعد السياسي لفريضة الحج. طبعًا، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها سماحته عن هذا الموضوع؛ إذ أشار إلى هذا البعد مرارًا على مدى الأعوام الماضية في مناسبات متنوعة تناولَ فيها قضايا الحج. لقي هذا التصريح أصداء واسعة في شبكات التواصل الاجتماعي باللغة العربية، فسعى بعضهم إلى معارضته بالاستناد إلى أدلة ما، ولكن من الطبيعي ألّا يكون الردّ على أولئك الذين يعترضون بدوافع سياسية أو بعناوين طائفية مكرّرة قد رُدّ عليها سابقًا أمرًا ذا أهمية أو يستحق الرد.
لكن، قد يظن بعض الأشخاص على نحو صادق وبسبب الشبهات أن عدّ الحج فريضة ذات طابع سياسي يتعارض مع بعض آيات «القرآن الكريم» أو مع البعد الروحي لهذه العبادة. على سبيل المثال، استشهد بعضهم بهذه الآية الكريمة للرد على كلام الإمام الخامنئي: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة، 197)، وعدّوا الخوض في المسائل السياسية مصداق «الجدال في الحج». لكن ينبغي أولًا الانتباه إلى أنّ المقصود من «المسائل السياسية» هنا ليس الجدالات الحزبية اليومية أو المناكفات الفئوية، بل المقصود تناول القضايا الكبرى والمصيرية للأمة الإسلامية، كقضية فلسطين وما يُرتكب من ظلمٍ سافر بحقّ الشعب المظلوم في غزّة. إنّ التغافل عن مثل هذه القضايا لا يتعارض مع روح الإسلام فحسب، بل يتناقض حتى مع جوهر الإسلام نفسه، فضلًا عن فريضة الحج![1]
أما بشأن معنى «الجدال» في الآية، فقد وقع اختلاف كبير بين المفسّرين؛ ففسّر الطبري الجدال بـ«المراء» والجدال اللفظي المألوف الذي يُفضي إلى أذى الأخ المؤمن وإغضابه. أما ابن عاشور، أحد كبار مفسري أهل السنّة المعاصرين، فيقول في تفسيره القيم: «واختُلف في المراد بالجدال هنا؛ فقيل السباب والمغاضبة، وقيل تجادل العرب في اختلافهم في الموقف؛ إذ كان بعضهم يقف في عرفة وبعضهم يقف في جمع، ورُوي هذا عن مالك. واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهيّ عنه... واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهيّ عنه؛ فالمنهي عنه هو ما يجرّ إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحجّ»[2].
يتّضح من ذلك أن المنهي عنه هو الجدال المؤذي والمُهين والمدمّر، لا الحوار أو النقد أو قول الحقّ في القضايا الإسلامية. من جهة أخرى، إنّ ما قصده الإمام الخامنئي من وصف الحج بأنه عبادة سياسية قد ورد بوضوح في خطابه وخطاب الإمام الخميني الراحل (قده) من قبل؛ كالتركيز على وحدة الأمة الإسلامية ونصرة الشعب الفلسطيني المظلوم والمسلمين المضطهدين، والبراءة من أعداء الإسلام.
حسنًا، كيف يمكننا العثور على هذا المعنى في «القرآن الكريم»؟
إنّ «القرآن» يعدّ مقارعة الطاغوت من المبادئ الأساسية في دعوة الأنبياء: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل، 36). في مدرسة التوحيد، لا تتحقّق عبادة الله إلّا بالبراءة من الطاغوت؛ فالعبودية الحقة لله تُلازمها مواجهة مظاهر الظلم والطغيان. لذا، إنّ السكوت عن الظلم والجور مع ادّعاء التوحيد هو تناقض واضح.
من جهة أخرى، إنّ الحج الذي هو من سنّة نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) يجب أن يعكس مواقفه (عليه السلام) ومسيرته، وقد قدّمه «القرآن» نموذجًا يُحتذى به للمؤمنين: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (الممتحنة، 4)؛ ففي هذه الآية، تكمن أسوة إبراهيم في تبرّيه من المشركين ومظاهر الشرك.
الأوضح من ذلك كله ما جاء في سورة التوبة، حيث وردت البراءة في موسم الحج بصيغة برنامج سياسي-عبادي واضح وصريح: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التوبة، 3)؛ فلا معنى لأن تكون هذه البراءة قد حدثت لمرة واحدة وانتهى أمرها؛ إذ لو كان الحج مجرد عبادة فردية وروحية، لما وُجد في صلبه إعلان بهذا الوضوح والصراحة في الموقف السياسي والاجتماعي.
إنّ ما أكّده الإمام الخامنئي (وقبله الإمام الخميني قدّه) هو أمر نابع من صلب المعارف القرآنية: الحج تركيبة من عبادة فردية واجتماع عظيم للأمة الإسلامية، مناسبة للذكر والوحدة والتضامن وإعلان الموقف من الباطل والطاغوت. هذا هو المعنى الذي يجعل الحج متصلًا بأفقه الإلهي، لا أن يكون مجرد سفرة للزيارة أو سفرة فردية، بل تجليًا للعبودية في ميدان الاجتماع والسياسة الإلهية.
[1] ورد في مصادر الشيعة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: «مَنْ أَصْبَحَ لاَ يَهْتَمُّ بِأُمُورِ اَلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ سَمِعَ رَجُلًا يُنَادِي يَا لَلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ» (الكافي، ط الإسلامية، ج. 2، ص 164). كما قد ورد هذا المضمون أيضًا في مصادر أهل السنّة، ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن جُرير بن عبد الله البَجلي، قال: «بايعتُ النبي (ص) على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم»؛ وهو يدلّ على أهمية النصح والخير للمسلمين كأحد الفرائض الإسلامية.
[2] «التحرير والتنوير»، الطاهر بن عاشور، ج. 2، ص. 230.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir