الكاتب: حسين آجرلو

بثّت قناة "i24" بتاريخ 12/8/2025 مقابلة مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو، تحدّث فيها بصراحة عن فكرة «"إسرائيل" الكبرى» واعتبرها مهمّة تاريخية وروحية له. شكّل هذا التصريح الواضح، في الحقيقة، تأكيداً لنظريات أنصار المقاومة الذين يرون أنّ الكيان الصهيوني يسعى إلى التوسّع الجغرافي والأمني، وأنّ هذا التوسّع لا يقتصر على الأراضي المحتلة عام 1948 و1967. يأتي ذلك في وقتٍ لا تزال فيه بعض التيارات والدول العربية وغير العربية تدافع عن فكرة «حل الدولتين» والتطبيع من أجل إرساء الاستقرار في غربي آسيا، معتبرةً أنّ المقاومة تُشكّل عبئاً باهظ الكلفة على المنطقة. غير أنّ الفهم الدقيق لهذه الحقيقة من شأنه أن يقود إلى قراءة أوضح وأعمق لمسار التحوّلات الإقليمية.

تُعدّ فكرة «"إسرائيل" الكبرى» أيديولوجيا محورية، وتؤدّي دورًا تأسيسيًا في نزعة الكيان الصهيوني إلى التوسّع الإقليمي. هذه الفكرة، التي تستند إلى تأويلات دينية وتاريخية مغلوطة لمفهوم "إرتس يسرائيل" (أرض "إسرائيل")، تحدّد بوضوح مجال العمل والجغرافيا التي يستهدفها المشروع التوسّعي. يزعم مروّجو هذه الفكرة، بالاستناد إلى مقاطع من "سفر التكوين" و"سفر العدد" و"سفر التثنية" و"سفر حزقيال"، أحقيّتهم في أرضٍ تمتدّ من النيل إلى الفرات. هذا الإطار الأيديولوجي يمنح إجراءات التوسّع الصهيونية شرعية دينية وتاريخية، ويحوّلها من مجرّد برنامج سياسي إلى "مهمّة هويّاتية" متأصلة في الفكر الصهيوني.

في معظم الأدبيات التي يُنتجها الغرب بل وحتى العالم الإسلامي، جرى السعي لربط فكرة «"إسرائيل" الكبرى» بالتيارات اليمينية المتطرّفة داخل الصهيونية، وكأنها منفصلة عن التيار السياسي الرئيسي الحاكم في الكيان الصهيوني. غير أنّ نظرة أعمق تُظهر بوضوح أنّ هذه الفكرة هي المحرّك الأساسي لقرارات "إسرائيل" الإستراتيجية وإجراءاتها العملية. انطلاقًا من هذا التصوّر، تُبرَّر سياسات مثل النزعة العسكرية، تأسيس الأجهزة الأمنية الواسعة، إنشاء مناطق عازلة أمنية، صياغة نظام أمني إقليمي، التوسّع الاستيطاني، احتكار البُنى التحتية، وفرض السيطرة العسكرية على الأراضي المحتلّة، بل وتُقدَّم هذه السياسات على أنّها خطوات ضرورية ولا غنى عنها في مسار تحقيق ذلك المشروع الصهيوني.

توفّر الأحزاب والحركات الحاملة لهذه الأيديولوجيا، عبر تحويلها إلى سياسة رسمية، الإرادةَ السياسية اللازمة لدفع مشروع التوسّع الصهيوني، وتجسّدها على أرض الواقع في إطار حقائق ديموغرافية وجغرافية يصعب إنكارها. ولا شكّ أنّ هذا الفهم هو الأعمق والأدقّ، بينما ربط فكرة «"إسرائيل" الكبرى» فقط بالتيارات الهامشية والمتطرّفة ليس سوى تحليل سطحي ومضلّل، يتجاهل الحقائق الميدانية والمسار التاريخي للتوسّع الصهيوني. في مثال على ذلك، يقول الإمام الخامنئي في خطابٍ له بتاريخ 27 آذار/مارس 1992: «الصهاينة لا يتخلّون عن أهدافهم؛ فهدف "من النيل إلى الفرات" الذي نطقوا به لم يتراجعوا عنه قط. لا يزال سعيهم هو السيطرة على المنطقة بين النيل والفرات! غير أنّ إستراتيجيتهم تقوم على أن يثبّتوا أقدامهم أولًا بالخداع والمكر، ثم بعد أن ثبتت أقدامهم اندفعوا بالقهر والعدوان والقتل واستخدام القوة والعنف إلى أبعد مدى يقدرون عليه! وما إن يواجهوا مقاومة حقيقيّة - سياسية كانت أو عسكرية - حتى يتوقّفوا قليلًا، ثم يعودوا إلى مسار الخداع والمكر ليخطوا خطوة أخرى إلى الأمام! فإذا خطوا تلك الخطوة، عادوا مجددًا إلى ممارسة القهر والعنف. هذا هو ما دأبوا عليه منذ ستين أو سبعين عامًا إلى اليوم».
 

إجراءات الكيان في سبيل تحقيق نظرية «"إسرائيل" الكبرى»

لقد تحوّلت هذه النظرية، بشكلٍ علني أو خفي، إلى «رؤية إستراتيجية كبرى» تحكم مسار الصهيونية، بحيث باتت توجّه السياسات والإجراءات الأساسية للتيار السياسي والعسكري الحاكم في هذا الكيان؛ ويمكن عدّ النقاط التالية من أبرز مصاديقها:

1. تصريحات المسؤولين الرسميين: إلى جانب نتنياهو، صدرت عن مسؤولين رسميين آخرين مواقف مباشرة وغير مباشرة بشأن «"إسرائيل" الكبرى»، وكان أبرزها ما يتعلّق بدافيد بن غوريون. ففي رسالة وجّهها بن غوريون، مؤسّس الكيان وأوّل رئيسٍ لوزرائه، إلى ابنه عاموس بتاريخ 5 تشرين الأوّل/أكتوبر 1937 عقب مؤتمر «بيل»، يظهر بوضوح أنّ فكرة «"إسرائيل" الكبرى» لم تكن مجرّد هدف هامشي، بل كانت حاضرة منذ البداية في ذهن مهندسي المشروع الصهيوني ومرسِمةً لخريطة طريقهم. كتب بن غوريون في تلك الرسالة: «إنّ إقامة دولة يهودية صغيرة [كما اقترحتها لجنة «بيل»] ليست نهاية الطريق، بل هي مجرّد بداية له... سوف نعزّز قوّتنا، فكلّ ما ازدادت قوّتنا ازدادت معها ملكيتنا للأرض كلّها... لن نتوقّف عن إزالة التقسيم [الحدود] والتوسّع ليشمل كامل فلسطين».

كذلك صرّح «إيهود أولمرت» في 29 آذار/مارس 2006، عقب الانتخابات، بوضوح قائلاً: «منذ آلاف السنين ونحن نحمل في قلوبنا حلم "إسرائيل الكبرى". هذه الأرض ستبقى إلى الأبد، ضمن حدودها التاريخية، حِملًا على أرواحنا. ولن نفصل قلوبنا يومًا عن تلك الأماكن التي كانت مهـد ثقافتنا، وفيها أغلى ذكرياتنا كأمّة».

تُظهر هذه التصريحات أنّ قادة الكيان الصهيوني، على اختلاف اتجاهاتهم السياسية والدينية، يجتمعون جميعًا في النهاية على الاعتقاد بـ«"إسرائيل" الكبرى» باعتبارها الفكرة الكلّية لليهود من أجل بسط الهيمنة على المنطقة. ومن ثمّ، فإنّ الادعاء بـ«"إسرائيل" الكبرى» لا يقتصر على فئة معيّنة داخل الصهاينة، بل يمثّل قناعة راسخة لدى مختلف فئاتهم.

2. خطط الضمّ: إنّ استمرار الاحتلال العسكري للضفّة الغربيّة ومرتفعات الجولان لأكثر من 55 عامًا، والمساعي الرسميّة لضمّهما بصورةٍ قانونيّة، يُشكّل بحدّ ذاته دليلًا واضحًا على هذا الادّعاء. فهذا الاحتلال ليس مسألة أمنيّة مؤقّتة، بل نظام متكامل للسيطرة على الأرض والموارد – ولا سيّما المياه – والبشر، بما يتيح تنفيذ مشروع التوسّع. وقد قدّم يغال آلون، أحد أبرز وزراء "حزب العمل"، مباشرةً بعد حرب 1967، خطّةً لضمّ الضفّة الغربيّة. ووفقًا لهذه الخطة، كان ينبغي أن يُلحَق غور الأردن بشكلٍ دائمٍ بأرض "إسرائيل"، باعتباره «الحدود الأمنية لـ"إسرائيل"». كان هذا الغور، من منظورٍ إستراتيجي، يُعَدّ الخطوة الأولى نحو الشرق، أي باتجاه بلاد ما بين النهرين (العراق الحالي).

3. الإجراءات العسكرية والأمنية: تُعَدّ الإجراءات العسكريّة والأمنيّة ذات البعد الإقليمي – مثل إنشاء أنظمة وترتيبات أمنيّة في حرب 1956 وحرب 1967 من أجل احتلال صحراء سيناء، وكذلك العمليات العسكريّة في سوريا بهدف إنشاء "ممرّ داوود" – من أوضح الخطوات العمليّة في سبيل تحقيق شعار «من النيل إلى الفرات».

4. الاستيطان: يُلاحَظ أنّ مشروع الاستيطان يُتابَع في الكيان الصهيوني كسياسة وطنيّة عابرة للأحزاب. فمع أنّ الأحزاب اليمينيّة هي الأكثر ترويجًا له، إلّا أنّ بناء المستوطنات في الضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة استمرّ على نطاق واسع أيضًا في عهد الحكومات المصنَّفة «يساريّة» أو «وسطيّة» مثل "حزب العمل". على سبيل المثال، بدأت أضخم موجة استيطان بعد حرب 1967 في عهد حكومة ليفي إشكول من "حزب العمل". بل إنّ إسحاق رابين، الذي يُقدَّم "رمزًا للسلام"، كان من المؤسِّسين لبعض المستوطنات الصهيونيّة. هذا كلّه يكشف أنّ الاستيطان هو أداة إستراتيجيّة لتغيير الوقائع الجغرافيّة والديموغرافيّة، ولتقدّم تدريجي نحو تحقيق فكرة «"إسرائيل" الكبرى»، بصرف النظر عن لون الحزب الحاكم.
 

التبعات المتوقعة لفكرة «"إسرائيل" الكبرى»

إنّ فكرة «"إسرائيل" الكبرى»، في حال غياب المواجهة الجادّة وغياب المقاومة الشاملة ضدّها، يمكن أن تُمهِّد الطريق لأزمات وتحدّيات على المستويين الإقليمي والداخلي في الدول الإسلاميّة والعربيّة، ومن أبرزها ما يلي:

1. الإخلال في النظام الإقليمي القائم على الواقع الجيو-سياسي: إنّ تطبيق هذه الفكرة يعني المساس بالحدود الحالية والسيادة الوطنية لعددٍ من الدول، من بينها فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وأجزاء من مصر والسعودية. ومثل هذا الوضع يُدخل المنطقة في دوّامة من انعدام الأمن، ويجرّ الدول المحيطة كإيران وتركيا إلى صراعٍ يتّسم بتدخّلٍ خارجي واسع. كما أنّ تنفيذ هذا المشروع يعني عمليًّا إشعال حرب مدمِّرة بمشاركة مباشرة أو غير مباشرة من جميع دول المنطقة، بل وربما انخراط القوى العالمية الكبرى فيها أيضًا.

2. تفاقم زعزعة الاستقرار: أقلُّ آثارِ تطبيقِ فكرةِ «"إسرائيل" الكبرى» عمليًّا سيكون إضعافُ السيادةِ الوطنيةِ للدولِ المحيطة. إنّ تَدميرَ الحكومات الوطنيةِ واستبدالَها بكياناتٍ تابعةٍ للصهاينةِ يخلُقُ فراغًا هائلًا في السلطة يؤدي إلى اندلاعِ صراعاتٍ داخليةٍ، وتمرداتٍ وحروبٍ عِرقيةٍ وطائفية تُحرَّكُها شبكاتُ القوّةِ ما دونَ الوطنيّة والعابرةُ للحدودِ أيضًا.

3. كارثة إنسانية: يتطلب تنفيذُ هذا المشروعِ تطهيرًا عرقيًا، وتهجيرًا قسريًا، وإبادةً جماعيةً بمقياسٍ أكبر بكثيرٍ ممّا نراه في غزة، مما سيشكّل أعظمَ كارثةٍ إنسانيةٍ منذ الحرب العالمية الثانية. سينطلق سيلٌ هائلٌ من النازحين واللاجئين، وستواجه المنطقة أزمة غيرِ مسبوقة، بل ستمتد إلى أوروبا والعالم.

4. تدميرُ التراثِ الثقافيِّ: سيؤدي هذا المشروعُ إلى تدمير أغنى التراثاتِ الثقافيةِ والحضاراتِ العريقة في المنطقةِ ومحو الهويةِ التاريخيةِ للشعوبِ. ويمكنُ ملاحظةُ دلائلِ هذا الادعاءِ في التزييف المتعمد الذي يمارسه الكيانُ الصهيونيُّ في بيتِ المقدس.
 

في المحصلة، يمكن القول إنّ مواجهة فكرةِ «"إسرائيل" الكبرى» بصفتها مشروعًا توسّعيًا وتهديدًا جديًا لأمنِ واستقرارِ المنطقةِ أمْرٌ ضروريّ. تشكلُ هذه الفكرةُ - التي تؤكدها تصريحاتُ مسؤولينٍ في الكيان الصهيوني - خطرًا يقودُ إلى الإخلال بالنظامِ الإقليميِّ، وتفاقم انعدامِ الاستقرارِ، والتسبب في كارثةٍ إنسانيةٍ، وتدمير التراثِ الثقافيِّ. كما سيؤدي غيابُ ردّ فعلٍ جادٍّ ومقاومةٍ شاملةٍ إلى مواجهاتٍ وتحدّياتٍ كبيرةٍ للدولِ الإسلاميةِ والعربيةِ، تهدّدُ سيادتها الوطنيةَ وتُولّدُ أزماتٍ إنسانيةٍ واجتماعيةٍ واسعةَ النطاقِ على مستوى العالم. لذلك، يتعيّنُ تشكيلُ جبهةٍ موحّدةٍ ووضعُ إستراتيجياتٍ فعّالةٍ لمجابهةِ هذا التهديدِ، حفاظًا على أمنِ وهويةِ دولِ غربِي آسيا والأمّةِ الإسلاميةِ عموماً.

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir