بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. و الصلاة و السلام على سيدنا و نبينا أبي القاسم المصطفى محمّد و على آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين. سيما بقية الله في الأرضين. قال الله تبارك و تعالى: ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً و مبشراً و نذيراً. و داعياً إلى الله بإذنه و سراجاً منيراً. و بشّر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً. و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم و توكّل على الله و كفى بالله وكيلا).
أشعر بالسرور و أحمد الله تعالى على أن وفقني بعد انقطاع أقصر من الانقطاعات السابقة، للالتقاء بکم أيها الأصدقاء الأعزاء و الإخوة و الأخوات الكرام، و المسؤولون الكبار في نظام الجمهورية الإسلامية و حاملو عبء المهمة و المسؤولية العظیمة في هذا الزمان، و أن سنحت لي الفرصة سأتحدث عن بعض القضايا التي اعتقد أنها مفیدة إن شاء الله تعالى.
كما أشكر سماحة السيد خاتمي - رئيس جمهوريتنا العزيز - فقد كان حدیثه حدیثاً جیداً. ما بيّنه حول عزم الحكومة و المسؤولين على متابعة و مكافحة التفرقة و الفقر و الفساد و حل مشاكل الشعب الاقتصادية، من الأمور المهمة للغاية حقيقة. أسأل الله تعالى أن يوفق المسؤولين في المجالات المختلفة للقيام بواجباتهم و بلوغ أهدافهم؛ لا سیما القطاعات الاقتصادیة، وزارة الاقتصاد و المالیة، البنک المرکزی، و مؤسسة الإدارة و التخطيط و المؤسسات التابعة لها، و أسأل الله تعالى أن يوفقهم جميعاً. إنها فرصة استثنائیة بین أیدینا.
ما كتبته اليوم هو أن هذه المجموعة التي تضمّنا - و التي تتكون من المسؤولين الكبار للقطاعات و المؤسسات المهمة و الرئيسية في الجمهورية الإسلامية، قد أتيحت لها فرصة فريدة كي نتمكن من تحقيق الأهداف الإلهية و الإسلامية في جزء مهم من العالم. أعني إيران العظيمة و العزيزة. لكن فرصة الوصول إلى السلطة التي سنحت لكم اليوم أيها الحضور في القطاعات المختلفة، تختلف عن الوصول إلى السلطة في الأعراف السياسية العالمية. هم لا يزعمون هناك أنهم يريدون تحقيق الفلاح و الصلاح و التقدم للبشرية و ما شابه ذلک و لا يزعمون أنهم يريدون منح السعادة للإنسان. المراكز الثقافية و السياسية في العالم قد تصرح رسمياً بأنها تعارض المجتمعات القائمة على أساس العقيدة و الدين و الفكر الأصيل. من الواضح عندما لم يكن الأصل قائماً على أساس الفكر المنظم و المدوّن، فإن الأهداف ستكون تابعة للأحداث و التطورات العالمية و الميول الشعبية و الفئوية أيضاً، لهذا لا يمكن لأحد أن يدعي بأنه يهدف إلى تحقيق المبادئ السامية التي تحتاج إليها البشرية، هم لا يدعون ذلك أيضا. لكن الأمر يختلف بالنسبة لنا، لأننا ندعي ذلك. إن مسؤولي النظام دخلوا هذه الساحة راجين أن يتمكنوا من تحقيق جزء من الأهداف الإلهية التي يؤمنون بها على الصعيد العملي. مثل هذه الفرصة لم تتح منذ صدر الإسلام و إلى الآن. فهي فرصة استثنائية و فريدة جداً. ينبغي علينا أن نغتنم هذه الفرصة أینما کنا - سواء في السلطات الثلاث أو كافة الأقسام الإدارية الأخرى في البلد - و أن نعمل علی تحقيق الأهداف و المبادئ الإسلامية ما بوسع مسؤولي إدارة أمور البلد و قدراتهم، و هي في الحقیقة قدرات كبيرة. لهذا هناك واجبات تقع على عاتقنا. فما هي هذه الواجبات؟ لقد كتبت بعض النقاط في هذا المجال و طبعاً لا أريد أن أخوض في التفاصيل و الجزئيات، بل سوف استعرضها كقائمة من العناوين.
علينا مسؤوليات عامة، سواء أكان ذلك بصفتنا دولة و حكومة أو كأشخاص مسلمين. و لكن لهذه الواجبات أساس فكري. هذه هي خصوصية الفكر الإسلامي و العقيدة الإسلامية و الدينية. عندما نناقش قضايا من قبيل الحرية، أو الانتخاب و إرادة الشعب في المجتمع، أو أية واحدة من السياسات العامة، فلا بد أن نعلم بأن لكل منها أساس. لو تساءلنا لماذا يحق للناس التصويت؟ فلا بد من وجود دلیل فكري و منطقي، ليكون السبب واضحاً. كل ما يشكل الخطوط الرئيسية للبرامج في مجال التخطيط، يتصل مباشرة برافد الفكر الإسلامي و وجهة النظر الإسلامية و البصیرة الإسلامية التي تمثل إيماننا و عقيدتنا و ديننا، و نقوم نحن بأداء وظائفنا و واجباتنا على أساس توضیح هذا المفهوم. فما هي هذه الأسس الفکریة؟ باختصار شدید علينا أن نبدأ من هنا، أي من الخطوط الرئيسية للبصیرة الإسلامیة و وجهة نظرها حول الكائنات و العالم و الإنسان. هذا لا یتوقف علی دین الإسلام فحسب، بل جمیع الأدیان، إن لم تکن محرّفة، تتمتع بهذه البصیرة في أصولها و جذورها. و دین الإسلام لم یحرّف و إنما يستند علی مصادر موثقة، في حین يمكن أن تخلو سائر الأديان من مثل هذه المميزات.
المنظومة المعرفية هذه التي نستمد منها الخطوط الرئيسية لمنهجنا و واجباتنا - أي النظرة الكونية و الفكرية الإسلامية - لها فصول متعددة، و جمیعها مؤثرة في سلوك المرء فرداً كان أو حكومة، و اكتفي هنا بعرض خمس من أكثر هذه النقاط أهمية.
إحدى هذه النقاط هي التوحيد. التوحيد يعني الإيمان بأن هذا التركيب المعقد و المدهش و المنظم للكائنات و عالم الخلقة، من مجرات و أفلاك و حفر سماوية عظيمة و كرات لا عدّ لها و لا حساب و ملايين المنظومات الشمسية إلى خلايا البدن الصغيرة و ذرات المواد الكيماوية - تلك التي تتميز بنظام دقيق في هذا التركيب العظيم و المتنوع المعقد الذي تم استنباط آلاف القوانين منه. فعندما یکون النظام خاضعاً للقانون الدقيق فسيستمد منه قوانین تکوینیة لا تقبل الخطأ - نابعة من فکر و تدبیر و قدرة و لم تخلق بالصدفة. كل إنسان عاقل و فكر سلیم و خال من الریب و التردد، و بعید عن اتخاذ القرارات السریعة، یقبل ذلک. النقطة التالية هي أن هذا الفكر و هذا التدبير و هذه القدرة العظيمة اللامتناهية و التي لا توصف، و التي أبدعت هذا التركيب العجيب و المعقد، ليس الصنم الفلاني من صنع الإنسان و لا بشراً محدوداً يدعي الألوهية أو شخصية رمزية أو أسطورية، و إنما هي ذات الواحد الأحد المقتدر الأزلي الذي تسميه الأديان إلهاً و يعرف بآثاره. فإذن إثبات هذه القدرة و الإرادة و الدقة الموجودة وراء هذه الهندسة العظيمة و المعقدة و إثبات أن ذلك المهندس المنقطع النظير و الذي لا يوصف، لا يشبه تلك الأشياء الصغيرة التافهة المستعملة التي يصنعها الإنسان بنفسه أو على صورته و التي تتسم بصفة الزوال كصانعها، بل (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عمّا يشركون).
كافة الأديان مشترکة في هذا الجانب من النظرة الكونية، سواء الأديان القديمة، أو الإبراهيمية، أو ما قبل الإبراهيمية، و حتى تلك الأديان الهندوسية المشوبة بالشرك الموجودة حالياً. الذي ينظر إلى الفيدا، فإنه يجد فيها عرفاً توحيدياً خالصاً تزخر به كلمات الفيدا، مما يدل على أنها تنبع من مصدر شفاف و زلال. لهذا فإن التوحيد هو الركن الرئيسي لفكر و نظرة و انطباع هذا الإسلام الذي نريد أن نقيم هذه الحكومة و هذا النظام على أساسه.
الركن الثاني، هو تكريم الإنسان، أو يمكن أن نسميه محورية الإنسان. طبعاً محورية الإنسان في الفكر الإسلامي تختلف تماماً عن محورية الإنسان في أوربا في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر الميلادي. فهذا شيء، و ذلك شيء آخر ذلك يسمى أيضاً محورية الإنسان. إنهما يتشابهان في الاسم فقط. إذن محورية الإنسان في الإسلام، ليست محورية الإنسان في أوربا على الإطلاق، فهي شيء آخر. (ألم تروا أن الله سخّر لكم ما في السموات و ما في الأرض).(3) من يقرأ القرآن و نهج البلاغة و المصنفات الدينية، فإنه سيشعر جيداً بهذا الانطباع الذي يوحي بأن كل هذا الكون و هذا الوجود الواسع يقوم على أساس محورية الإنسان كما يرى الإسلام. هذه هي محورية الإنسان. لقد جاء في الكثير من الآيات، أن الله تعالى سخّر لكم الشمس و القمر و البحر، و لكن هناك آيتان في القرآن الكريم توضحان هذا التعبير الذي ذکرته. أي (سخّر لكم ما في السموات و ما في الأرض ) (4). فما المراد بالتسخير؟ يعني أنكم الآن مسخرون بالفعل للسموات و الأرض و ليس بوسعكم التأثير عليهما. لكن بالقوة فإنكم خلقتم بشكل و خلقت عوالم الوجود و الكائنات بشكل آخر. بحيث تكون مسخرة لكم. فما معنى مسخّرة؟ أي في قبضة أيديكم و بوسعكم الاستفادة منها بأحسن وجه. هذا يدل على أن هذا المخلوق الذي سخّر الله له السموات و الأرض و الكواكب و الشمس و القمر، لا بد أن يكون عزيزاً و مكرماً جداً من حيث الخلقة الإلهية، و هو ما جاء في قوله تعالى (و لقد كرمنا بني آدم)(5). فهذا التكريم الذي جاء في القرآن هو تكريم يشمل مرحلة التشريع كما يشمل مرحلة التكوين، التكريم التكويني و التكريم التشريعي بتلك الأمور التي عينتها الحكومة الإسلامية و النظام الإسلامي للإنسان، أي إن الأسس هي أسس إنسانية تماماً.
النقطة الثالثة من النقاط الرئيسية و الأساسية في الرؤية الإسلامية هي قضية استمرار الحياة بعد الموت. أي إن الحياة لا تنتهي بالموت. هذا المعنى يعد من الأصول الفكرية في الإسلام بل و في كافة الأديان الإلهية و له تأثير كبير. كما ذکرت، فإن كافة هذه الأصول الفكرية تؤثر في تنظيم العلاقات الاجتماعية و ترسيخ أسس الحكومة الإسلامية و في إدارة المجتمع و العالم. نحن سندخل مرحلة جديدة بعد الموت. الإنسان لا يفني، بل ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أخرى، ثم تقوم في تلك المرحلة القيامة و يوم الدين و الحساب و غيرها من هذه الأمور.
النقطة الرابعة من النقاط الرئيسية في هذه النظرة الكونية، هي عبارة عن تلك الموهبة اللامحدودة للإنسان في توفير كل ما يحتاج إليه المؤمن من أجل الوصول إلى الرقي. لدى الإنسان موهبة تساعده على الوصول إلى ذروة كمال حياة الممكنات و هو ما لا تتمتع به سائر الكائنات و معنى أحسن تقويم في الآية الشريفة (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) لیس المراد منه التناسق بين الرأس و القلب و العين و البدن مثلاً. فهذا لا يقتصر هذا على الإنسان، بل يتميز به كل حيوان أيضاً. في أحسن تقويم يعني خلقنا الإنسان في أحسن مقياس، أي ذلك المقياس الذي لا يقف عند حد أو نهاية في نموه. فهو يذهب في عالم الوجود إلى حيث لا يوجد ما هو أبعد منه، أي إنه يستطيع أن يفوق مرتبة الملائكة و الكائنات العالية و غيرها. عندما تريد البشرية أن تطوي هذا المسير، فلا يمكن ذلك إلّا باستخدام إمكانيات عالم المادة. و هذا من المسلمات، و لهذا يقول (خلق لكم ما في الأرض جميعاً)، لذلك فإن حركة التعالي و التكامل الإنساني ليست في فراغ، بل عن طريق استخدام الإمكانيات المادية، أي يسيران معاً. بمعنى أن ازدهار الإنسان مواز لازدهار عالم المادة و عالم الطبيعة، حيث يؤثر أحدهما في ازدهار الآخر و يؤدي إلى تحولات مدهشة.
النقطة الأخيرة التي أريد أن أذكرها في هذا المجال من الفكر الإسلامي، هي أن الإسلام و الرؤية الإسلامية، ترى أن العالم يسير نحو حاكمية الحق و الصلاح لا محالة، و لا مساومة فی ذلك. كما أشرت سابقاً - و الآن لا يمكنني أن أبين ذلك سوى عن طريق الإشارة، لأن المقام لا يحتمل التفصيل - فإن كافة الأنبياء و الأولياء قد جاءوا ليقودوا الإنسان نحو هذا الطریق الرئیسي، عندما یطأوون هذا الطریق، سيظهر جمیع مواهبهم، و قد قام الأنبياء و الأولياء بهدایة الضالين دوماً إلی هذا الطریق و صدّهم عن سبل الضلال و منعهم من الطرق الوعرة من الصحاري و الجبال و الودیان. لكن البشرية لم تصل بعد إلى هذا الصراط المستقيم، و سیتحقق ذلک في زمن الإمام المهدي المنتظر أرواحنا فداه. كافة هذه المشاعر و المحاولات تبذل على أساس هذه الرؤية التي تقول بأن نهاية هذا العالم هي انتصار الصلاح و لربما كان ذلك عاجلاً، أو آجلاً و لكنه حادث لا بد منه. و سيقهر الصلاح الفساد في نهاية المطاف و ستتغلب قوى الخير على الشر، هذه هي نقطة من نقاط الرؤية الإسلامية التي لا ريب فيها على الإطلاق.
على هذا الأساس، فإن ذلك يؤدي إلى نتائج عملية و إلى مسؤوليات تقع على عاتق الذين يؤمنون بهذه الأسس. لا فرق في ذلك بين أن تكون الحكومة إسلامية و زمام الأمور و السيادة في أيدي أهل الحق أو أن تكون الحكومة غير الإسلامية - افترضوا أن تكون حكومة كالحكومة الطاغوتية البائدة أو كحال الإنسان الذي يعيش بين الكفار - فهذه المسؤوليات التي سأشير إليها تقع على عاتق كل إنسان في كلتا الحالتين. فما هي المسؤوليات التي تترتب على تلك الرؤية. لقد كتبت نقاطاً عدة سأبينها لكم هنا.
الواجب الأول هو الإقرار بالعبودية و الطاعة لله تعالى. لأن العالم له مالك و خالق و مدبر و نُعتبر نحن جزءاً من أجزاء هذا العالم، فلا بد على الإنسان أن يطيع. طاعة الإنسان تعني تناسقه مع الحركة العامة للوجود و العالم. لأن جميع العالم (يسبح له ما في السموات و الأرض).(8) (قالتا أتينا طائعين).(9) فالسموات و الأرض و ذرات العالم كلها تلبي الدعوة و الأمر الإلهي تسير وفقاً للقوانين التي وضعها الله تعالى في الوجود. لو اتبع الإنسان القوانين و الواجبات الشرعية و الدينية التي علّمها الدين، فإنه ستحرك على نسق هذه الحركة الوجودية، لهذا سيكون تقدمه أكثر يسراً و اصطدامه بالعالم أقل و سيكون هو و العالم أقرب من السعادة و الصلاح و الفلاح. طبعاً المقصود بعبودية الله هو معناها الواسع الكامل، لأننا قلنا بأن التوحيد هو الإيمان بوجود الله و هو أيضاً نفي ألوهية و عظمة الأصنام و الأوثان المصنوعة و الناس الذين يدعون الألوهية و الذين لا يصرحون بذلك، لكنهم يمارسونه في أعمالهم. فإذن على الصعيد العملي، هناك واجبان، الأول امتثال أمر الله تعالى و عبودية خالق العالم و الثاني، الامتناع عن طاعة أنداد الله و كل من يريد أن يفرض حكمه على الإنسان في مواجهة سلطان الله. إن ذهن الإنسان ينصرف على الفور إلى تلك القوى المادية و الاستكبارية التي تمثل مصاديق ذلك بالطبع، لكن له مصداق أبرز و هو هوى نفوسنا. فشرط التوحيد هو عدم طاعة هوى النفس حيث أن هوى النفس هو أخوف ما يخيف و سأشير إلى ذلك لاحقاً.
الواجب الثاني هو أن يسعى الإنسان لتحقيق الرقي لنفسه و للآخرين. سواء في المجال العلمي أو الفكري أو الروحي أو الأخلاقي أو الاجتماعي أو السياسي - أي رقي المجتمع - أو في المجال الاقتصادي، أي تحقيق الرفاهية في حياة الناس. يجب على الجميع أن يسعوا لتحقيق هذه الأمور. أعني تقدم العلم و تطوره للجميع، و سيادة الأفكار السليمة الصحيحة، و الرقي الروحي و المعنوي، و الخلق الكريم و مكارم الأخلاق، و التقدم الاجتماعي البشري - و لا يقتصر هذا على الأبعاد المعنوية و العلمية و الأخلاقية للفرد فحسب، بل ينبغي أخذ المجتمع بنظر الاعتبار أيضاً - و تقدم الشؤون الاقتصادية و الرفاهية للإنسان، و ينبغي عليهم أن يوفروا للناس وسائل الرفاهية و الاستفادة من إمكانيات الحياة أكثر فأكثر. هذا هو الواجب الذي يقع على عاتق الجميع، و لا يقتصر على حكومة أو سلطة بل هو واجب يترتّب حتى في عصر الحكومات غیر التوحیدیة.
الواجب الثالث هو تفضيل الفلاح الأخروي على المصالح الدنيوية، لو تعارض أحدهما مع الآخر. فهذا أيضاً من الواجبات العملية على كل من يؤمن بتلك الرؤية العالمية، فلو وجدنا أحياناً أن المنفعة الدنيوية تتصادم مع الأهداف الأخروية، فإنه يجب على الإنسان أن يبذل قصارى جهده لجعل هذه المنفعة الدنيوية متناسقة مع الأهداف الأخروية. لكن إذا لا يتساو الأمران أحياناً، فعلى المرء أن یغمض عینه عن إحدى المصالح - سواء أكانت مادية أو سلطة أو منصب أو شهرة و غيرها - أو أن يرتكب إثماً يؤدي إلى الوزر الأخروي. شرط الإيمان بتلك النظرة هو أن على الإنسان أن يفضل الجانب الأخروي أي أن يتغاض عن تلك المصلحة و لا يرتكب ذلك الإثم. هذا واجب يقع على عاتق كل مسلم. كما أن على الإنسان أن يبرمج نشاطاته بحيث لا تتنافى مع الجهود الدنيوية العظيمة التي يبذلها في الحياة الدنيا و أن لا تکون متنافیة أیضاً مع الفلاح الأخروي و لامع الواجبات التي یمکن أن يؤدي عدم أدائها إلى الوزر الأخروي للإنسان.
الواجب الرابع هو ضرورة الجد و السعي و الكفاح. أحد الواجبات الرئيسية التي تقع على عاتق كل إنسان - سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي متمثلاً في الحكومة أو السلطة - هو الجهاد، أي عليه أن يسعى دائماً و يجتنب الكسل و البطالة و اللامبالاة. فأحياناً ينشغل المرء بأحد الأعمال لكنه لا يشعر بالمسؤولية إزاء واجباته الأساسية و يقول: لا شأن لنا في ذلک. هكذا هي الانحرافات الناتجة عن هوى النفس. يجب على الإنسان عدم الخضوع لها. بل لا بد من مكافحة كسله و بطالته، و أن يبذل مساعيه و يتعرض للخطر في هذا السبيل. فهذه هي إحدى الواجبات. طبعاً يجب أن يكون هذا الجهاد، جهاداً في سبيل الله و هو ما سأبينه في النقطة التالية.
الواجب الخامس و الأخير، هو الثقة بالنصر في كل الظروف، لكن بشرط أن يكون هناك الجهاد في سبيل الله، أي إنه لا يحق له أن يقنط، لأن النصر بانتظاره بالتأكيد. أما تلك الحالات التي لم يكن النصر فيها حليفه، فلأن الجهاد لم يكن في سبيل الله. أو لربما لم يكن ثمة جهاد في الأصل. فما هو شرط الجهاد في سبيل الله؟ هو أن يؤمن الإنسان بسبيل الله و أن يعرفه، لذلك يمكن له أن يجاهد في سبيله.
هذه الواجبات تقع على عاتق الإنسان بصفته فرداً و على عاتق جماعة بصفتها حكومة. و كما قلت فإن ذلك لا يتعلق بمرحلة السلطة فقط و هذه الواجبات لا تقع علينا، لأن الحكومة الآن بيد جماعة من المؤمنين بالله و الإسلام، بل هي واجبات دائمية، حتى عندما لا يكون زمام الأمور بيد هذه الجماعة، بل بيد الأعداء و الطاغوت و المفسدين في الأرض. حتى في تلك الأحوال كان البعض يقوم بها و البعض الآخر لا يقوم بها مع اختلاف درجات و مستويات الأداء. أما الآن فهذه الواجبات تقع على عاتق كافة المسلمين، مع تفاوت في تحمل الواجبات بالطبع. لقد كان الواجب الرئيسي على كافة الأنبياء و الأولياء و الأئمة هو تبيين هذه الواجبات للناس سواء بالجهاد و إستلام الحكم و الإدارة بهذا الشكل أو حينما يعجزون عن استلام الحكم. لقد جاهد الجميع و قاوموا ( و كأین من نبي قاتل معه ربيون كثير)(10).
الحرب و الكفاح السياسي و مواجهة الأعداء، لم تکن بدایته من الإسلام، كلّا. بل كان في عهد الأنبياء السابقين أيضاً، أي في عهد الأنبياء العظام الإلهيين منذ زمن إبراهيم و فيما بعد و لربما كان كذلك قبل إبراهيم عليه السلام و هو ما لا علم لي به. لهذا، فإن هذه الواجبات هي الواجبات التي يدعونا إليها الأنبياء. و لكن هذه المسؤولية تعتبر أکبر عظمة في دولة الحق و عندما تكون زمام الأمور بيد عباد الله، و المؤمنين بالله و سبيله. فلماذا؟ لأنه لا يمكن المقارنة بين إمكانياتكم كجزء من هذه الحكومة الآن و إمكانيات شخص مثلكم في عهد حكومة الطاغوت في أحسن أحوالها. لنفترض أن هذا القمع و هذا الکبت و التضليل من قبل وسائل الإعلام لم يكن موجوداً في حكومة الطاغوت، و أنهم كانوا يمنحون الإمكانيات دون معارضة كبيرة، و لا يمارسون ضدكم أساليب القوة و العسف. فإن الوضع الحالي - أي الوضع القائم للدولة الإسلامية - يبقى أفضل ألف مرة ربّما من أحسن الأحوال التي يمكن للإنسان فيها أن يقوم بنشر و متابعة و تحقيق المبادئ الإلهية في عهد الطاغوت. فإذن ينبغي تقدير كل ذلك.
إقامة هذه الحكومة الإلهية و الإسلامية لهو من أصعب الأمور. ما حدث الآن، أي تمکنکم من تحقيق هذه الأهداف، لم يكن بالأمر اليسير. إنه لا بد من وجود مئات الظروف و تحقيق مئات الأوضاع و تناسقه مع بعضها البعض لیکون هناک حدث کالثورة الإسلامية. ليس من الممكن أن يقع حدث كهذا في أي زمان أو مكان أو في أي ظروف في أي بلد. كلّا. لقد تضافرت أحداث کثیرة و التحمت إحداها بالأخری في تاريخنا و في ظروفنا المعيشية و جماهيرنا و علاقاتنا الاجتماعية و عقائدنا و في وضع حكومتنا و في وضعنا الجغرافي و في العلاقات الاقتصادية و السياسية الدولية، حتى تمهّدت الظروف لقيام الثورة الإسلامية و انتصارها و هذه الظروف لا تتوفر بسهولة. إنه لمن المستبعد جدّاً أن تجتمع كل هذه الظروف حتى يقع مثل هذا الحدث. طبعاً هذا لا يعني أنه من المستحيل حدوث مثل هذا الأمر - فهو ممكن بالتأكيد في جميع الأمكنة لو توفرت الظروف - و لكن على كل حال توفرت هذه الظروف في بلدنا و وقع هذا الحدث و تعتبر هذه الظاهرة من الظواهر الثمينة و العريقة و العجيبة جداً، فلا بد من تقديرها.
نحن نريد إقامة ذلك النظام و تلك التنظيمات و تلك الحكومات التي يمكن من خلالها تحقيق هذه الأهداف. هذا ما يتطلب مشواراً طويلاً و صعباً تمثل الثورة الإسلامية نقطة بدايته.
عندما نتحدث عن الثورة، طبعاً لا نريد بها أن نؤکد علی المواجهات و الاضطرابات و الفوضى و غيرها، خلافاً لتلك الانطباعات التي نلاحظها عند البعض ممن يشعرون بالسرور لتلاعبهم بكلمة الثورة في البعض من كتاباتهم! هم أحياناً يريدون تصوير الثورة على أنها أعمال الشغب و الإضطرابات و الفوضى، ثم يقولون بأننا لا نريد الثورة، أي إن الثورة أمر سلبي! هذه أفکار خاطئة حول الثورة. فالثورة تعني التغيير الأساسي. طبعاً في أغلب الأحيان فإنه لا يمكن القيام بهذا التغيير الأساسي بدون تحديات صعبة و بلا ممارسة الضغوط، لكن هذا لا يعني أن الثورة لا بد أن تصحبها الاضطرابات و أعمال الشغب و غيرها. كلّا. و في الوقت ذاته، لا يمكن إطلاق اسم الثورة على كل شغب و اضطرابات و فوضی عامة أو جماهيرية، و لا على أي تحول. بل إن الثورة تعني تبديل الأسس الخاطئة إلی أسس صحيحة. هذه هي الخطوة الأولى. عندما تحققت الثورة، فسرعان ما سیتحقق بعده النظام الإسلامي. النظام الإسلامي أي تطبيق مشروع هندسي و شكل إسلامي عام في مكان ما. و ذلك كما حدث في بلدنا من إسقاط نظام ملكي استبدادي و فردي و وراثي و عميل و استبداله بنظام ديني شعبي متق بهذه الصورة التي أختارها له الدستور، أي النظام الإسلامي. و أما بعد قيام النظام الإسلامي فيأتي دور تشكيل الحكومة الإسلامية بمعناها الحقيقي، أو بتعبير أوضح، إيجاد نظام حكم و سياسة على النسق الإسلامي. لأن هذا غير متوفر منذ اللحظة الأولى، فلا بد من العمل على توفيره و تحقيقه تدريجياً. على المسؤولين و الحكام أن يكونوا متناسقين مع تلك المقررات و الشروط التي تتعلق بشخص مسؤول في الحكومة الإسلامية، أو أن يتم انتخاب أشخاص من هذا الطراز - إن كانوا - أو أن يعملوا على تكميل نقائصهم و يحركوا أنفسهم نحو الرقي. هذه هي المرحلة الثالثة التي نعبّر عنها بإقامة الحكومة الإسلامية. إذا قام النظام الإسلامي، فينبغي أن تكون الحكومة إسلامية. أي الحكومة بمعناها العام، و ليس بمعنى مجلس الوزراء فقط، بل بمعنى السلطات الثلاث و المسؤولين، و القائد و الجميع. المرحلة الرابعة - التي تأتي بعدها - هي البلد الإسلامي. فإذا ما أصبحت الحكومة إسلامية بکل معنى الكلمة، فإن البلد سيصبح إسلامياً بالمعنى الحقيقي للكلمة و سوف تتكرّس العدالة و يتم القضاء على التفرقة و التغلب على الفقر شیئاً فشیئاً، و تتحقق العزة الحقيقية لذلك الشعب و يحقق ذلك البلد المزيد من التطور على نطاق العلاقات الدولية. هذا هو البلد الإسلامي. إذا تجاوزنا هذه المرحلة، فإن المرحلة التالية هي مرحلة العالم الإسلامي. إذ يمكن إقامة عالم إسلامي من خلال البلد الإسلامي. إذا لم یتوفر النموذج، فمن الممكن خلق نماذج أخرى في العالم علی غراره.
ففي أي مرحلة نحن الآن؟ إننا في المرحلة الثالثة، و لم نصل بعد لمرحلة البلد الإسلامي و لا يمكن لأحد أن يدعي بأن بلدنا بلد إسلامي. نحن صممنا نظاماً إسلامياً ثم قمنا بتطبیقه - و كلمة ( نحن ) تعني أولئك الذين قاموا بذلك - لدينا الآن نظام إسلامي مبادئه واضحة كما أن أسس الحكومة واضحة هنا. من الواضح كيف يجب أن يكون المسؤولون و ما هي واجبات السلطات الثلاث و ما الذي يجب على الحكومة القيام به، لكننا لا نستطيع أن ندعي بأننا بلد إسلامي، فما زال لدينا الكثير من النقائص، ينبغي علينا أن نبني أنفسنا و أن نتقدم إلى الأمام. علينا أن نربّي أنفسنا. طبعاً إذا ما كان هناك إمام معصوم يأخذ بزمام الأمور كأمير المؤمنين بحيث يكون قوله و فعله و سلوكه أسوة، فإن عمل مسؤولي الحكومة سيكون أكثر سهولة، لأن لديهم الوصفة الكاملة التي تحتوي جميعها على الهداية. و لكن عندما يكون شخص مثلي على رأس الحكومة، فإن الأمور ستكون أكثر صعوبة بالنسبة للمسؤولين. لكن ثوابهم سيكون أكثر أيضاً. إذا ما تمكنوا من مواصلة هذا الطريق، فإن أجرهم سيكون عظيماً. فليبذل كل منكم جهده لتطبيق مسؤولياتكم وفق النموذج الإسلامي. أي إن دينكم و تقواكم و اهتمامكم بأمور الناس و مراعاتكم للأحكام الشرعية و رعايتكم لبيت المال و اجتناب الأنانية و حب النفس و محاباة الأصدقاء و الأقارب و الابتعاد عن الكسل و البطالة و عن حب الشهوات و سواها، يجب أن يكون وفقاً لنموذج الإسلام. يمكن لكل واحد منكم أن يقوم بواجباته في هذه المجالات و يتقدم و يبني نفسه، طبعاً أجركم أكبر من الذي كان يقوم بهذا العمل في عهد أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام بالتأكيد، لأنه كان يُنظر إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام و هو كان نموذجاً كاملاً، لكنكم ليس عندكم مثل هذا الشخص الذي يمكنكم رؤيته و احتذاء حذوه. القوانین في متناول أيدينا جميعاً و اليوم ثمة واجبات تقع على عاتق كل واحد منا.
ما هو الخطر الرئیسي؟ للإجابة علی هذا السؤال أقرأ لكم رواية. يقول: إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان اتّباع الهوى و طول الأمل .(11) إن أخطر الأخطار اثنان: اتباع الهوى و النفس. لا تعجبوا من إن أكبر الأخطار هو هوى النفس الکامن في قلوبنا، إن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك (12) إن أعدى الأعداء هو النفس، التي بين جنبيك، و تلك الأنانية التي تريد كل شيء لنفسها. هنا يقول عن لسان النبي: إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان اتباع الهوى و طول الأمل فأما اتباع الهوى فيصدّ عن الحق (13). فأغلبية هذه الضلالات هو اتباع الهوى. طبعاً نحن نصوغ لأنفسنا آلاف التبريرات، لكي ننحرف عن سبيل الله و أن يكون حديثنا و سلوكنا غير ما عيّنه لنا الدين و الشرع. ميزة هوى النفس هي أن يضلّكم عن سبيل الله الذي يحتاج إلى الجهاد. و أما طول الأمل فينسي الآخرة. طول الأمل يعني الآمال البعيدة و الشخصية، من قبيل ابذل جهدك لتشييد منزلك على الطراز الفلاني، أو أن تصل إلى المنصب الفلاني، أو أن تلاحظ هذا و ذاك و تخلق لنفسك آلاف المصاعب لتصبح ثریاً و تقوم بممارسة نشاط اقتصادي. فطول الأمل هذا - أي تلك الآمال التي لا تقف عند حد، و لا نهاية لها - تقف أمام عين الإنسان صفاً و تختلق له أهدافاً تافهة و تجعل منها آمالاً عظيمة في نظر الإنسان. ميزة هذه الأهداف هو ينسي الآخرة (14)، حيث يظل الإنسان دوماً في شغل شاغل من هذه الأهداف التافهة، فيموت قلبه و لا يبقي لديه وقت أو رغبة في الدعاء أو الإنابة أو التضرع.
ما أريد أن أقوله في ختام حديثي اليوم هو أن أفضل شيء يمكننا أن نجعله معياراً لنا اليوم من أجل إصلاح أخلاقنا و أفعالنا و تصرفاتنا - أي مسؤولي البلد - هو الديمقراطية الدينية التي أشرنا إليها مراراً و تكررت كثيراً. لا ينبغي أن يتبادر الخطأ إلى الأذهان، فهذه الديمقراطية الدينية ليس لها علاقة أبداً بأصول الديمقراطية الغربية، بل إنها شيء آخر. النقطة الأولى هي أن الديمقراطية الدينية ليست شيئين، ليس الأمر أننا نستورد الديمقراطية من الغرب ثم نلصقها بالدين حتى نحصل على مجموعة متكاملة. كلّا، فنفس هذه الديمقراطية تتعلق بالدين أيضاً. هناك وجهان للديمقراطية كما أشرت إليها في جلسة أخرى لبعض المسؤولين. فالوجه الأول للديمقراطية هو أن تتم إقامة النظام وفقاً لرأي الشعب و رؤيته، أي أن يختار الناس النظام و الحكومة و النواب و المسؤولين الكبار، سواء أكان ذلك الانتخاب مباشراً أو غير مباشر و هو ما يدعيه الغرب، و إن كان هذا الادعاء لا أساس له من الصحة هناك. هناك البعض يغضبون عندما نكرر دوماً إن ادعاء الديمقراطية في الغرب هو ادعاء غير صحيح. يظنون بأنه كلام متعصب، و الحال أن الأمر ليس كذلك، فهذا ليس كلامنا، كما أنه ليس من العصبیة في شيء، و ليس نابعاً من عدم الوعي، بل إنه يستند إلى آراء و نظريات و أبحاث و نماذج كبار الأدباء في الغرب. فهم أنفسهم يصرحون بهذا الأمر، أجل هم لا يصرحون به في الإعلام العام و أمام الرأي العام، بل إنهم في مثل هذه الحالات يتحدثون عن صوت الشعب و أن كل ما عندهم قائم على أساس إرادة الشعب و لكن هذا ليس أمراً واقعاً. هم يعترفون بهذا المعنى على مستويات مختلفة، و هو موجود في كتاباتهم و لقد لاحظنا الكثير من هذه الاعترافات، و تلاحظون الیوم هذا النموذج في الولايات المتحدة الأمريكية، فهذه هي الديمقراطية هناك! نحن لا ندعي ذلك، فما يتعلق بأصوات الشعب ليس سوى قسم من قسمي الديمقراطية الدينية، فلا بد من الانتخاب. على الشعب أن یمارس إراداته بوعي و أن یتخذ قراره حتى يتم أداء التكليف الشرعي فيما يخصه، إذ لا يكون هناك تكليف بدون المعرفة و الوعي و الإرادة.
الوجه الآخر للدميقراطية هو: بعد أن اختارنا الشعب، ستقع على عاتقنا مسؤوليات جدية و حقيقیة. لقد جمع بعض الأصدقاء هذه الروايات من نهج البلاغة و غيره من الكتب و طبعاً لا مجال لقراءتها جميعاً، ساكتفي بقراءة اثنتين أو ثلاث منها. و إياك و المن على رعيتك بإحسانك أو التزيّد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك فإن المن يبطل الإحسان و التزيّد يذهب بنور الحق و الخلف يوجب المقت عند الله و الناس.(15). يقول: إذا أخلفتم فإن ذلك وعودكم، يوجب مقت الله و الناس (16). و الله تعالى يقول ( كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) و مع أن هذا الكلام وجّهه أمير المؤمنين لمالك الأشتر، لكنه خطاب لنا أيضاً.
النقطة الثانية من هذه الواجبات تتعلق بالديمقراطية الدينية: أنصف الله و انصف الناس من نفسك و من خاصة أهلك و من لك فيه هوى من رعيتك (18). أي ما عبر عنه أصدقاؤنا المستنيرون بمحاباة الأصدقاء، أي مراعاة الناس و مراعاة الله عند التعامل مع الأصدقاء و الأقرباء و الأصحاب. أي أن لا تعطي امتيازات خاصة فهذا ما ینافي الديمقراطية. و كل من يفعل ذلك، قد يؤدي فعله إلى الفساد الذي أشار إليه السيد رئيس الجمهورية. أجل، ينبغي مكافحة مظاهر الفساد هذه. أيها الإخوة و الأخوات الأعزاء! ما دام هذا الفساد موجوداً بين مسؤولي البلد، فلن تكون هناك إمكانية العمل و التقدم، مهما كان. هذه فجوات و حفر لا يمكن ملؤها مهما أفرغتم فيها من جهد و إنجازات، بل إن إنجازكم سيذهب هدراً. فإذن لا بد من معالجة هذه الأمور. هذا هو قول أمير المؤمنين من لك فيه هوى من رعيتك يعني تجنب منح الامتيازات الخاصة لأصحابك و أقربائك و من تحبهم، لا بد من المساواة بين الجميع في الاستفادة من الامتیازات. إذا كان هناك امتياز، يجب أن يمنح للجميع. فإذا ما تقرر أن تكون هناك قرعة، أو سقف محدد فلا ينبغي ترجيح أحد على آخر.
النقطة الثالثة و هذه أيضاً من علامات الديمقراطية الدينية و لكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق و أعمها في العدل و أجمعها لرضي الرعية (19) أنا و انتم مخاطبون بهذا. فإذا كان أحدكم وزيراً أو نائباً في البرلمان أو مسؤولاً في القوات المسلحة أو في القيادة، أو في السلطة القضائية أو في أي مكان آخر، فاعلموا أن ما تقومون به لا ينبغي أن يكون محاباة لأصحاب الثراء و السلطة، هؤلاء الذين يعبر عنهم في كلام أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام بـ الخاصة . ثم يقول: فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة (20) ثم يقول: و إن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة . (21)
الديمقراطية الدينية لا تتمثل في مجرد أن يقوم المرء بالدعايات و إثارة الضجيج و إجراء الانتخابات و فرز الأصوات، ثم ينتهي كل شيء و لا تكون له علاقة مع الجماهير! عندما تتحقق المرحلة الأولى يأتي دور المرحلة الثانية، أي مرحلة تلبية الحاجيات. ثم يقول أمير المؤمنين حول هذه المجموعات الخاصة: لا تقولن إني مؤمّر آمر فأطاع (22) هذه الجملة أيضاً من ضمن رسالته إلى مالك الأشتر. و يقول: فإن ذلك ادغال في القلب (23) أي أن ذلك يفسد قلبك؟ و هذه هي الحقيقة. ثم يذكر أمير المؤمنين مميزات أخرى: و تقرب من الفتن ، (24) هذا يقرب غضب الناس منك. عندما تتحدث هكذا، و تقول أنا، أنا، و تريد كل شيء لك و لا تشعر بمسؤوليتك فإن هذا يغضب الناس دوماً.
أيها الأعزاء! إننا في شهر رمضان، إنها أيام و ساعات مباركة.على الجميع أن يغتنموا هذه الأيام و الساعات. الاستفادة الحقيقية من هذه الساعات و الأيام و الليالي هي أن نسأل الله و نبذل جهودنا أيضاً كي نتمكن من العمل كمسؤولين إسلاميين حقيقيين و مؤمنين أينما كنا. هذا ما يجب أن يكون و هو شيء لا بد منه، أي لا يمكن لنا أن نتحمل على الإطلاق أن ينتشر هذا الفساد بيننا، كلا، يجب أن يتم القيام بتلك الأمور و على الجميع مسؤولية ذلك. لا بد من بذل المساعي و تحقيق هذه الإصلاحات. إن الخطوة الأولى في الإصلاح هي إصلاح ذاتنا، أي يجب على مسؤولي النظام أن يتخلوا جميعاً عما يمكن أن يكون فيهم من أساليب و سلوكيات و أخلاقيات و تصرفات غير إسلامية و یخلصوا أنفسهم منها. فإذا تم القيام بهذا العمل، فستتقدم الأمور.
اسألوا الله و ادعوه في شهر رمضان المبارك أن يعيننا على اجتياز هذه المرحلة، و أن تكون المرحلة التالية هي مرحلة إقامة البلد الإسلامي إن شاء الله، و سيتحقق بفضل الله ذلك النموذج الذي لم يكن الأعداء يريدون تحققه أبداً.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الهوامش:
-1 سورة الأحزاب: الآية 45 - 48
2 - سورة الحشر: الآية 23
3 - سورة لقمان: الآية 20
4 - سورة الجاثية: الآية 13
5- سورة الإسراء: الآية 70
6 - سورة التين: الآية 4
7 - سورة البقره: الآية 29
8 - سورة الحشر: الآية 24
9 - سورة فصلت: الآية 11
10 - سورة آل عمران: الآية 146
11 - الخصال: ص51
12- بحارالانوار، ج 70، ص36
13 - الخصال: ص51
14 - الخصال: ص51
15 - نهج‏البلاغة، الرسالة 53
16 - نهج‏البلاغة،الرسالة 53
17 - سورة الصف:الآية 3
18 - نهج‏البلاغة، الرسالة 53
19 - نهج‏البلاغة، الرسالة 53
20 - تحف‏العقول، ص 128
21 - تحف‏العقول،ص 127
22) تحف‏العقول، ص127
23) تحف‏العقول،ص 127
24) تحف‏العقول، ص 127