كنتُ قد اتَّفقتُ معَ أصدقائي أن ندخلَ قبلَ الجميعِ حتى يتسنَّى لنا تسجيلَ الملاحظاتِ منذُ البدايةِ لكنَّ الأمورَ لم تجرِ مجرى توقعاتي فقد أصابتني الدَّهشةُ لمّا رأيتُ فورَ وصولي أنَّ الصُّفوفَ قد امتدّتْ للخارجِ قبلَ أن نصلَ و أنَّ الكثيرينَ قبلنا قد سبقونا بالدُّخولِ ، فقلتُ في نفسي لا بأسَ عليكَ فهذهِ الصُّفوفُ الممتدَّةُ هنا لن تَجِدَ لها مثيلاً في تاريخِنا المعاصرِ  . لمْ تكُنْ صفوفاً فحسب ، بل كانتْ لوحةً تملؤها ألوانُ العشقِ والمحبَّةِ والسَّكينةِ . ها أنا الآنَ أنظرُ إلى الهدوءِ الذي يغمرُ وجوهَهم و هم يتبادلونَ الأحاديثَ الشيِّقةِ مبتسمينَ لبعضِهم البعضَ . هناكَ من هو في وسطِ الصفِّ يرفعُ يدَه مُسلِّماً على صديقٍ قديمٍ له يراهُ في آخرِ الصَّفِ . وإذا دقَّقتَ في هذهِ اللوحةِ فإنكَ ستجدُ في تفاصيلِها جمالَ اللِّباسِ العربيِّ الأخَّاذِ وتراثاً يزخرُ بالأصالةِ الإسلاميةِ العريقةِ، فما أجملَ أن ترى في مكانٍ واحدٍ أجيالاً متعددةً لكنَّها تحملُ فكراً واحداً مشتركاً. شيوخٌ تلبسُ لباسَ العشائرِ العربيةِ وشبابٌ يمزجُ بينَ العهدينِ؛ اعتزازاً بالقديمِ وتأقلماً مع الجديدِ. لكنْ من هم هؤلاءِ؟ ولماذا وأينَ  يجتمعونَ هكذا؟ ولماذا يغلبُ على لباسِهم اللونُ الأسودُ؟ ولماذا التَّرقُّبُ يظهرُ على وجوههم؟ اليومَ يوجدُ لقاءٌ تاريخيٌّ يترقَّبُه الجميعُ بفارغِ الصبرِ لأنَّ فيهِ أسراراً لا يفهمُها إلا العاشقونَ. هؤلاء الرجالُ إن كانوا يفتخرونَ بشيءٍ في حياتِهم فإنهم يفتخرونَ بأنَّهم خُدَّامٌ للحسينِ بن علي (ع) وأنَّهم أصحابُ مواكبَ خدمةٍ لزائري الحسين (ع) في ذكرى الأربعينِ من كلِّ عامٍ. إنَّني ألحظُ على وجوهِهم الرغبةَ في الحصولِ على "أربعين" مختلفٍ جداً في هذا العامِ. اليومَ سيلتقي أصحابُ المواكبِ وخُدَّامُ الأربعينِ بالسيدِ القائد علي الخامنئي مؤمِّلينَ من كلامِه كلَّ الخيرِ ومتفائلين جداً بالحصولِ على أربعينٍ متفاوتٍ هذه المرَّة.

لقد قالَ لي أصدقائي أنّه يجبُ عليَّ أن أُسرعَ في الدُّخولِ بدلاً من التحديقِ المستمرِ في صفوفِ الحاضرينَ، فالمكانُ يُمكنُ أن يمتلأ بأسرعَ مما أتصوَّرُ، فما كانَ مِنِّي إلا أن عبرتُ الصُّفوفَ نحو الداخلِ فإذا بي أرى مَضيفاً صغيراً وقد التمَّ عليه الزائرونَ. نعم، هذا المضيفُ يُوزِّعُ الشَّايَ العراقِيَّ -المليءَ بالسُكَّرِ والفاقعَ اللونِ سواداً - ما أفرحَ الزوَّارَ الكرامَ أشدَّ الفرحِ وأضفى عليهم طابعَ الوطنِ.

 

لقاء أصحاب المواكب الحسينية العراقيين

 

ولمّا دخلنا الصالةَ الرئيسيةَ حيث الكلمةُ المرتقبةُ، وجدنا الكثيرَ من الحاضرينَ قد توزَّعوا في أماكنِهم. وكانوا قد قُسِّموا إلى مجموعاتٍ يرأسُ كلُّ مجموعةٍ بعضُ الأفرادِ الذينَ يُنظِّمونَ حركةَ الزائرينَ. لقد ذهبَ عن بالي أن أُخبركم بعددِ زائرينا الأفاضلِ وها أنا أخبركم فقد كان عددُهم يفوق الألفَ شخصٍ، ولكن لا ننسى أنَّ هؤلاءِ أصحابُ مواكبَ وممثلو عشائرَ؛ إذن فيمكننا القولُ أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يُمثِّلُ ألفاً أو ألفينِ بل و أكثرَ. لقد كانتْ الصالةُ – بل الحُسينيّةُ – مُتَّشِحَةً بالسوادِ حزنا على سيِّدِ الشهداءِ (ع). إذا نظرتَ جيداً سوف ترى أنَّ الضيوفَ قد توزَّعوا في الحسينيةِ على شكلِ كتائبَ قتاليةٍ كلُّها تترقبُ قدومَ قائدِها العامَّ وتنتظرُ بشغفٍ تعاليماتِه. كانتْ المِنصَّةُ المتواضعةُ للقائدِ العظيمِ تتقدَّمُ الحسينيةَ وعن يمينِها وعن شمالِها مجموعتانِ امتدَّتا من أولِ الحسينيةِ حتى آخرِها. وأمَّا منتصفُ الحسينيةِ وهو القسمُ الأكبرُ فقد امتلأ بأكبرِ المجموعاتِ عدداً وأشدِّها حماساً. الكلُّ قد اتَّخذَ مكانَه بانتظارِ قدومِ منْ لا يُطيقونَ انتظارَه. إنَّه حفيدُ أهلِ البيتِ (ع) وحاملُ رايتِهم المباركةِ وهو الإمامُ السيِّدُ الخامنئي (دام ظله). لقد وجدتُ لي مكاناً مناسباً – ولله الحمد – لكني كنتُ ألحظُ أنَّ الوفودَ مازالتْ تتقاطرُ على الحسينيةِ وأنَّ المكانَ بدأ يكتظُّ بالفعلِ، والآن وقد أخذتُ لي مكاناً مميَّزاً بينهم بدأتُ بالتأملِ في وجوهِهم جيداً؛ استطعتُ أن أرى تلكَ الروحَ الشامخةَ المملوءةَ بالعزمِ الراسخِ واليقينِ القاطعِ في الوصولِ للغايةِ وهي تحقيقُ رضا أهل البيت(ع) عن طريقِ خدمتِهم. وبينما كنتُ أسرحُ في أفكاري سَمعتُ أصواتَ ترحيبٍ قد تعالتْ من جهةِ الأمامِ. لدينا ضيفٌ خاصُّ إنَّه الشيخ خالدِ الملا رئيس جماعة علماء العراق وها هو الآن بينَ إخوتِه من الشيعةِ خالقاً لنا نموذجاً عملياً من نماذجِ الوحدةِ الإسلاميةِ.

من يعرف الإخوةَ العراقيينَ جيداً يعرف أنّه متى ما جمعْتَهم في مكانٍ واحدٍ فسوفَ يبدؤن بالتعبيرِ عن ما في مشاعرِهم بالشعاراتِ الحماسيَّةِ والهتافاتِ الجماعيَّةِ، إنَّهم شعبٌ يملكُ طاقةَ التعبيرِ عن نفسِه وعقائدِه . فما مرَّ إلا قليلٌ على جلوسِنا حتى ارتفعت الأصواتُ بالشعاراتِ والتلبياتِ والصلواتِ وقد نالتْ أمريكا – عليها ما عليها – النصيبَ الأكبرَ من أمنياتِ الموتِ الموجَّهةِ لطغاةِ العالمِ من لَهاةِ أحرارِها. ثم توالت الشعاراتُ تلو الأخرى فبينَ مردِّدٍ "لبيك يا حسين ولبيك يا عباس ولبيك يا زينب " و آخرُ يُردِّدُ اللطميةَ المعروفةَ لدى العراقيين و التي تفاعلَ معها الحاضرونَ بصورة كبيرةٍ "تنتصب محكمه كبرى للبشر بالآخره شافع الأمه محمد والمحامي حيدره" وقامَ بعدها شخصٌ آخرٌ وردَّدَ اللطميةَ المعروفةَ للملا ياسين الرميثي (ره):

 يـاحـسين بـضمايرنا .. صـحنا بـيك أمـنا

لا صـــيـــحـــة عــــواطــــف هــــــــاي

لا دعـــــــــــــــوه ومـــــــجـــــــرد راي

هــذي مــن مـبـادئنا .. صـحـنا بـيك أمـنا

هذه القصيدةُ المعروفةُ كانت رداً على منعِ الطَّاغيةِ صدَّامَ لزيارةِ الأربعينِ لذلك أخذت أثرَها البالغَ في نفوسِ أصحابِ المواكبِ الذين تفاعلوا معها تفاعلاً شديداً لدرجةِ أنَّ أحدَهم قامَ في وسطِ الحسينيةِ ليُنظِّمَ عمليةَ اللطمِ للحضورِ وقد لفتَ نظري حينها طفلٌ واقفٌ بكلِّ براءته لاطماً متفاعلاً وعليه سيماءُ الهاشميين. ثم رأيتُ أنَّ المجلس قد اكتظَّ اكتظاظاً شديداً في حينِ أنَّ البعضَ ما زال يتوافدُ على المجلسِ، فقامت مجموعةٌ تتوسلُ من الجميعِ أن ينهضوا ويتقدموا قليلاً للأمامِ حتى يكونَ هنالكَ مجالٌ أكثرَ لمن لم يجدوا مكاناً حتى الآنَ، فنهضَ الجميعُ متقدمينَ قليلاً إلا أن ذلك لم يكن مفيداً جداً كما رأيتُ وجلسنا قليلاً نستمعُ مجدداً للهتافاتِ الحماسيةِ  وإذا بالجميعِ يُفاجأُ بدخولِ الإمامِ الخامنئي (دام ظله) مرةً واحدة ومن دونِ إعلامٍ مُسبقٍ، فنهضَ الجميعُ دونَ أن يملكوا مشاعرَهم وبدؤوا بالتكبيرِ و التهليلِ وإطلاقِ الشعاراتِ الولائيةِ التي تَنمُّ عن ذوبانٍ خاصٍ في مقامِ الولايةِ ولم يكونوا ليجلسوا لولا أن تداركَ الموقفَ قارئُ القرآنِ الذي افتتحَ مجلسَنا بقول الله تعالى من سورةِ فصِّلت"إِنَّ الَّذينَ قالوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ استَقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلّا تَخافوا وَلا تَحزَنوا وَأَبشِروا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنتُم توعَدونَ" ثمَّ أتبعها بقوله تعالى من سورة الفجرِ  "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي“. المشهدُ الآنَ أنَّ القُرآنَ يُتلى والأسماعَ منتبهةٌ والعيونَ تتبادلُ النظراتِ بينَ المحبينَ في لحظاتِ تأمُّلٍ من نوعٍ لا يمكنني شرحُه، فالمجلسُ كانَ بحرَ سكينةٍ وطمأنينةٍ آنذاكَ. وما إن انتهى القارئ من قراءتِه حتى نظرَ له السيدُ القائدُ وتشكَّرَ منه لحُسنِ تلاوتهِ.

قام عِرِّيفُ المجلسِ وهو الأستاذ أحمد نجف بعدها بصورةٍ رسميةٍ لكي يفتتحَ المجلسَ ويدعوَ المشاركينَ للتقدُّمِ للمنصَّةِ الرئيسيةِ. فبدأ كلامَهُ بشعرٍ فارسيٍّ بسيطٍ رحَّبَ به بسماحةِ الإمامِ الخامنئي وطلبَ منهُ أن يُحوِّلَ الإجراءَ بأكملهِ للّغةِ العربيةِ ثم أنطلقَ لسانُه بكلِّ فصاحةٍ وسلاسةٍ يقرأ من الشعرِّ ما غلبَ الحماسُ عليهِ ويبدعُ في إلقائِه جاذباً الحاضرينَ إليهِ والقائدُ ينظرُ للتفاعلِ العربيِّ في المجلسِ. ها هو الآن يطلبُ من سماحةِ الشيخِ أحمد مروي – سادن العتبةِ الرضويةِ المباركةِ– أنْ يتقدَّمَ ليُلقي كلمتَه التي تضمنتْ بالطَّبعِ الحديثَ حولَ برنامجِ استضافةِ أصحابِ المواكبِ في الجمهوريةِ الإسلاميةِ في ايران ابتداءاً من حضورِهم في مدينةِ مشهدَ عندَ الإمامِ الرضا (ع) ومن ثمَّ زيارتهم لأخته كريمةِ أهل البيت(ع) فاطمة المعصومةِ في مدينةِ قم المقدسة وانتهاءا بحضورِهم في طهرانَ في محضرِ الإمام الخامنئي. وفي هذه الأثناءِ و قبلَ وصولِ الشيخِ أحمد مروي للمنصَّةِ اغتنمَ أحدُ الشبابِ الفُرصةَ وبدأَ بإلقاءِ أبياتِ شعرٍ ولائيةٍ يمدحُ قائلا فيها (باللهجة العراقية):

شما اعاين الهيبه بوجهك انته تصير

الشجاعة البيك ترهب نفتخر بيها

أنته الخامنائي و شيخ هذا الكون

الشيوخ تبين بنگة محاچیها

ابتسامت وجهک آیه احتاجت الترتیل

یلمست چفک اموات تحییها

عدوک ما یزامط الآن یعرف بیک

مثل عباس شدوه العرکه تشد بیها

یا عرگ الهواشم من یطگ برکان

طگتک بالگصص ما یوم تخطیها

 

وكانَ ينظرُ إليهِ بتمعًّنٍ وتركيزِ استماعٍ ثم بعد أن أكملَ ارتجالَه رفعَ القائدُ يدَهُ له وشكرَ له جميلَ كلامِهِ. وأما كلمةُ الشيخِ المروي فقد تضمَّنت أرقاماً حول عدد المشاركينَ و تقسيماتِهم:

1-عددُ كلِّ المشاركينَ هو 1200 شخص ( ممثلو 800 موكب و 400 شخص من نشطاءِ الأربعين )

2-هناك 20 موكباً لإخواننا أهلِ السنة

3-هناك 5 مواكب للمسيحين

4-هناك 30 موكبا لعوائل الشهداء

5-هناك 40 موكبا للأكراد

6- و عدد محدود من المواكب تتبع المذهب الصوفي

 

الشيخ أحمد مروي

 

وكلُّ هذه المجموعاتِ بمختلفِ انتماءاتها تجتمع اليومَ تخليداً لذكرى الحسينِ عليه السلامُ. وبعد انتهاءِ كلمةِ الشيخِ المروي أيضاً قام آخرونَ وأطلقوا شعاراتٍ ولائية أخرى كان أبرزها الهوسةَ العراقيةَ التي ختمتها حركةُ الأيدي بقولِ "نخدمك يبن الزهره نخدمك" بينما يتقدم السيد جواد الأعرجي من أصحاب المواكبِ في النجفِ الأشرفِ وقد أطلق خطابَه ارتجالاً وكان مليئا بالحماسِ الشديدِ حتى أحسستُ أنَّه أصيبَ بهبوطٍ في الضَّغط ِمن شدّةِ انغماسهِ في نصِّه الارتجالي فقد أبدع تمجيداً لأهل البيتِ (ع) وتحقيراً لأعدائهم وتعهُّدا على المضيّ في خدمتِهم كما أنَّه تبادلَ الأحاديثَ مباشرةً مع السيدِ القائدِ فكانت حالةُ الضمائرِ في خطابِه تأخذُ منحى المُخاطبِ كقولِه "في محضرِكَ ، جدك رسول الله و غيره" مُفعِماً كلامَه بحجمٍ هائلٍ من عباراتِ الثباتِ على المبدأِ ورفضِ الذلّةِ والعارِ، وقد خصَّ هنا طاغوتَ العصرِ أمريكا. وما إن انتهى السيِّدُ الأعرجي قامَ عِدَّةٌ من أماكنَ مختلفةٍ في القاعةِ وبدؤوا الارتجالَ في ذاتِ الوقتِ وكانَ من بينهم شابٌ تضمَّنَ كلامُه الشعريُّ هذه العبارةَ  "يظل على راسي الخامنائي" و ما إن انتهى رأيتُ بسمةَ القائدِ وتحيتَه موجهةً له .

 

السيد جواد الأعرجي

 

وجاءَ بعدها دورُ السيِّدِ هاشمِ الياسري صاحبِ أحدِ مواكبِ الأربعينِ وقد كانَ من أولئكَ الذين يجيدونَ لعبةَ الإختصارِ وفنَّ الحديثِ السهلِ الممتنعِ إذ قرأ نصَّه بكل بساطةٍ وعلى بديهةٍ منه توحي أنَّه في الثماثينَ من عمرِه وكان من ضمن ما قاله أنَّ هذا التشرُّفَ بالخدمةِ قد تورَّثوها أباً عن جدٍ. وأنَّ المفاجأةَ الكبرى في حديثه كانتْ أنَّه قد قالَ مباشرةً للسيدِ القائدِ أنَّنا سوف نُشرِكُكَ في الأجرِ و الثوابِ لموكبِنا.

 

السيد هاشم الياسري

 

و مما يجدرُ بي ذكرُه أنَّ عِرِّيفَ حفلِنا هذا قد استشهدَ بعدَ أن انتهى السيد الياسري مِن كلمتِه ببعضِ أبياتٍ من الشِّعرِ للأستاذِ جاسمِ الصحيح إذ يقولُ:

حملتُ جنازةَ عقلــــــي معـــــــي

وجئتك فـــــــي عاشق ٍلا يعـــــــي

أُحِسُّك مـيزانَ مــــــــــا أدعيـــــــه

إذا كان في اللهِ مـــــــا أدعــــــــي

أقيسُ بحبِّكَ حجـــــــمَ اليقيـــــــن

فحبك فيمــــــــا أرى مرجعـــــــي

خلعتُ الأساطيرَ عنـــِّــــــي سـوى

أساطيـــرَ عشقِك لــــم أخلــــــــــعِ

هنا لبَّت الريـــــحُ داعـــــــــــي النفيرِ

وحجَّت إلــــــــى الجثثِ الصُّــــــرعِ

فما أبصرتْ مبـــــــدعاً كالـــــحسين

يخــــــطُّ الحيــــــاةَ بــــــلا أصــــبعِ

ولا عاشقاً كـــأبـــــي فــــــــــــاضلٍ

يجيـــــــــدُ العـــــــناقَ بــــــــلا أذرعِ

وهنا أتى دورُ الحاجِ عبدالحسين عبود من أصحابِ مواكبَ الأربعينِ الذي قبل أن يصلَ إلى المنصةِ بدأَ الآخرونَ بإطلاقِ الشعاراتِ لحينِ وصوله وكانَ أبرزُهم حينها عالمُ دينٍ ألقى قصيدةً باللغة الفصحى المحكمةِ ثم أردفها بقوله "سيدي سرْ بنا ونحن جنودُكَ وسنكونُ رصاصةً تمتدُّ لصدورِ الأعداء". الحاج عبود لم يتمالك هو الآخرُ مشاعرَه أيضا فقام يقولُ للسيدِ القائدِ أثناءَ كلمتِه القصيرةِ "اسمح لي أن أقول لك سيدي و حبيب قلبي" وقد كرَّرها مِراراً. وضِمنَ كلمتِه قالَ عبارةً قد ركزتَ في ذهني بشدَّةٍ "فنعم العليان أنتما" ويقصدُ بها السيد علي الخامنئي وآية الله السيد علي السيستاني لما كان لهما من دورٍ بارزٍ في وأدِ الفتنِ عن العالمِ الإسلامي خصوصاً فتنةَ داعشَ.

 

السيد عبدالحسين عبود

 

وكالعادةِ فورَ انتهاءِ حديثِه أخذتِ الجماهيرُ الحاضرةُ بإطلاقِ الشعاراتِ المُناصرةِ وهي شيءٌ مهما قلتُ لكم لن أبلغَ في وصفِه الدقَّةَ ولن أنالَ من إيضاحِه نصيباً حيث ارتفعت الأيدي مردِّدين "لبيكَ يا علي ..لبيك يا ولي". وفي هذه الأثناء قامَ رجلٌ يلبسُ غترةً خضراءَ وهي علامةُ السادةِ من سلالةِ النبي (ص) وهو السيد حاتم المدامغة الذي بدوره قرأ أبياتَ شعرٍ بسيطةً إهداءً لشخصِ السيدِ القائدِ نيابةً عن قبائلِ السادةِ من بني هاشم. وأما الشاعر الذي كان الحاضرونَ في انتظارِه فهو الشاعرُ الحسيني السيد سعيد الصافي الذي قرأ على مسامعِنا شعراً جميلاً ضد التفرقةِ والعنصريةِ وتأييداً لحركاتِ المقاومةِ  وطلباً لتحريرِ القدسِ ، ولكن قبلَ أن أضعَ لكم نصَّ قصيدتِه هنا أتذكَّرُ أنَّنا قُمنا بترديدِ قصيدةٍ معروفةٍ لدى العراقيينَ كثيراً قبلَ أن يصلَ السيدُ الصافي إلى المنصةِ وقد تفاعلوا معها تفاعلاً عجيباً وكانت بالشكلِ التالي "زينب يا غريبه ..الله شمصيبه ...وجهك يا زينب وين ..مذبوح اخوج حسين ... و الجثة سليبه ...الله شمصيبه" وهي ترجع للرادود المرحوم الملا عبدالرضا النجفي.

 

السيد سعيد الصافي

 

و أما نصُّ قصيدةِ الأستاذ السيد الصافي فقد كانتْ كالتالي:

يا دعات التفرقة و العنصريه

 احنه غير التقوى ما عدنه فرق بين العباد

وهذا دستور الرسالة الأحمديه

المسلم المنصف اخو لنه

امنين ما يحمل هويه

احنه ضد العنصريه

وضد اليريدون نرجع للعصور الجاهليه

احنه يجمعنه الحسين

والحسين انتفض ضد الطائفيه

وكربلاء التضحيه عنوان كل مسلم غيور

والرجال الترفض الذله الأبيه

احنه ويه العرب ما عدنه عداء

العداء العدنه وي خط آل اميه

ومن قضايانا المهمه

عدنه تحرير القدس اول قضيه

احنه يجمعنه الحسين

واحنه نستلهمم عزمنه من ضحايه الغاضريه

واللي گالو انتم اتمنعون حرية النساء

وضد قوانين الثقافة العالميه

احنه عدنه المرأه في حكم الشريعه

تقتدي ابسيرة العفة الفاطميه

وبالجهاد  انريد منها

تحمل الروح الصبوره الزينبيه

واحنه مو ضد الثقافة

احنه اهل العلم والقرآن عدنه يبين احكام الحياة الدنيويه

وهاى دولتنه ابتطورها دليل

عن ثقافتنه اوعينه وفخر قدرتنه العظيمه العسكريه

وكلشي گالو ضدنه و احنه امسامحين

گالو علينه مجوس ورافضيه

رافضيه و نرفص الذل و الهوان

وما نمد اچفوفنه ونصافح اچفوف اليهود الخيبريه

احنه اولاد الصميده و من علي ائورثنه آيات الشجاعة الحيدريه

ومثل ما فرّق علي ابسيفه الاحزاب

احنه فرّقنه الاحزاب الداعشيه

واحنه يجمعنه الحسين

وعدنه قوه و عدنه جيش و مرجعيه

والله واعدنه ابنصره و احنه منتظرين ثورتنه العظيم المهدويه

وقد لاقت قصيدتُه استحساناً واضحاً من السيدِ القائدِ ومن الجمهورِ طبعاً الذينَ كانوا يطلقونَ الشعاراتِ أثناءِ إلقائِه النصَّ تفاعلاً مع مضامينه. والآنَ حانَ دورُ اللطميةِ المنتظرةِ بصوتِ الرادودِ القديرِ الذي عاشَ عمرَه في رثاءِ أهل البيتِ عليه السلام وهو الحاج أبو بشير النجفي الذي قرأ لنا لطميةً حول الوحدةِ الإسلاميةِ وكانت مضامينُها عاليةً وقد تفاعلَ الجمهورُ معها كثيراً، ولفت نظري التأمُّلُ العجيبُ للسيدِ القائدِ أثناءَ اللطميةِ وإصغائِه السمعَ بشغفٍ واضحٍ وكانت من ضمنِ العباراتِ في نصِّه قوله "أهلا بكم يا إخوتي في العراق" و أيضا مخاطباً السيدَ القائدَ قائلاً "إمضِ بنا يا قائدَ المسلمين" ثم كانت المفاجأةُ أنَّه كانَ أولَ شخصٍ بينَ الحضورِ ينالُ توفيقَ تقبيلِ يدِ السيدِ القائدِ مباشرةً بعدَ انتهاء ِلطميتِه.

 

أبوبشير النجفي

 

وفي نظري المتواضع فقد كانتْ أروعُ فقراتِ الحفل هي الفقرةُ الأخيرةُ التي فاجئتني بالفعلِ وكانت في محلِّها ووقتِها، إذ قام الخطيبُ الحسيني ذو الصوتِ الشجي وصاحبُ النبرةِ والعَبرةِ السيد عمار الموسوي قارئاً لنا مجلسَ نعيٍ كاملٍ وأعني بالكاملِ تمامَ معنى الكلمةِ إذ بدأ بالطريقةِ العربيةِ في القراءةِ "صلى الله عليك يا سيدي ويا مولاي يا أبا عبدالله ..غريب يا مظلوم كربلاء" و قرأ بعدها أبياتَ الرثاءِ ثم حاضرَ قليلاَ وبعدها عادَ للرثاءِ مجددا وكانت المصيبةُ التي يذكرها هي مصيبةُ السيدةِ زينب(ع) وختم مجلسَه بالدعاءِ ورفعِ الأيدي ابتهالا إلى الله عز وجل وبهذا ربما يكونُ هذا أولُّ مجلسِ نعيٍ خاصٍ يستمعُ فيه السيد القائدُ إلى الأطوارِ الحسينيةِ العربيةِ عن قُربٍ. الذي أتذكره جيداً بل الذي عشته أنَّ هذا المجلسَ كان مباركاً جداً فيا ليتكم كنتم حاضرين لترونَ كيف كانَ القائدُ يبكي ويتأثر وهو يستمعُ للنعي العربي وكيف أنَّ الحاضرينَ كانوا يردِّدونَ مع الخطيبِ الحسينيِّ في محضرِ السيدِ القائدِ كما لو أنَّهم كانوا جالسين في مجلسٍ عربيٍ في العراقِ أو في لبنان أو سوريا وأي بلد عربي. وبهذا يكونُ حفلُنا الرائعُ قد تضمَّنَ كلَّ أنواعِ الفنِّ الحسيني من خطابةٍ وشعرٍ ورثاءٍ وارتجالٍ ورجزٍ ولطمٍ وبكاءٍ ودعاءٍ وغيره .

 

السيد عمار الموسوي

 

وقد بقيتْ لنا فقرةٌ واحدةٌ كانَ الجميعُ في انتظارِها وهي كلمةُ السيدِ القائدِ الذي اجتمعَت القلوبُ باسمِ الحسين(ع) في محبتِه ومودتِه والولاءِ له . إنَّها الكلمةُ التي ستغيِّرُ مسارَ الأربعين وستُعطي مُحفِّزاً إلهياً للعملِ في مجالِ خدمةِ سيدِ الشهداء. لكنِّي بالطبعِ دعوني أولاً أخبرُكم عمَّا حدثَ أثناءَ كلمتهِ وبعدها ثمَّ أعودُ لمضامينِ خطابِه المباركِ. ما إن بدأ القائدُ بالكلامِ حتى ارتفعتِ الأصواتُ قائلةً "إلهي إلهي حتى ظهور المهدي احفظ لنا الخامنئي" ثم ما إن مضى في خطابِه ابتداءاً حتى أُرهفتِ الأسماعُ طاعةً لجميلِ صوتِه وضياءِ وجهِه. ها هم اليومَ ينظرونَ عن كثبٍ  إلى قائدٍ إسلامي عظيمٍ تفخرُ به الأمةُ جمعاءَ ويأخذونَ منه التعليماتِ مباشرةً، إنَّه حفيدٌ من أحفادٍ عليٍ عليه السلام ومتعهدٌ أن يُسلِّمَ رايةَ دولةِ الحقِ إلى صاحبِها. أمَّا ما بعد الخطابِ فكانَ سباقاً من نوعٍ آخرٍ، إذ تهافت الحضورُ إلى السلامِ على القائدِ وتقبيلِ يده وبالطبعِ لم يبقَ عنده حينها لا كوفيةً ولا خاتماً إذ تم إعطاؤها لبعضِ الحاضرينَ ممن نالوا التوفيقَ لذلك، فهنيئاً لهم ملامسةَ نَفَسِ الولايةِ وشمَّ عطرِ الرسالةِ. وكانَ أكثرُ موقفٍ أثَّرَ على نفسي أني وجدتُ مجموعةً في الخارجِ بعدَ انتهاءِ الخطابِ تطلبُ خيوطاً من كوفيةِ السيدِ القائدِ التي تمَّ إعطاؤها لأحد الحاضرينَ وبالفعل لقد رأيتهم يسحبونَ منها خيوطا ويأخذونها للتبرُّكِ.

 

لقاء أصحاب المواكب الحسينية العراقيين2

 

و أما مضمونُ كلمةُ القائدِ فلستُ ممن يمكنُه وصفُها ...!

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته