تشكّل عالم ثلاثي الأقطاب هو أحد الكلمات المفتاحيّة الهامّة الواردة في بيان الخطوة الثانية الذي أطلقه الإمام الخامنئي؛ طبعاً إنّ المقصود من العالم ثلاثي الأقطاب هو العالم قبل انهيار الاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١. قبل أن نتطرّق إلى أسباب تحوّل الثورة الإسلاميّة إلى قطب منفصل عن قطبي الشرق والغرب، نرغب في معرفة المسار الذي جعل العالم عالماً يتألّف من قطبين؟
ينبغي العثور على مقدّمات تشكّل العالم بقطبين في الحرب العالميّة. ”العالم بعد الحرب العالميّة الثانية هو عالم يستند إلى معاهدة يالطا“ التي وقّع عليها في شبه جزيرة القرم رؤساء الجمهورية المنتصرون الثلاثة في الحرب أي رزوفلت، استالين وتشرشل؛ وعلى هذا الأساس تمّ وضع ركائز العالم ثنائي الأقطاب. وبسبب أنّ إحدى الأطراف شكّلتها الحكومات الليبراليّة الديموقراطيّة وفي الطرف الآخر كانت الحكومات الشيوعيّة. وقضيّة تشكّل عالم ثنائي الأقطاب هي أنّ أمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرهم توصّلوا إلى نتيجة تقول بأنّ ستالين يستغلّ هذا الفراغ الناشئ عن انهزام هتلر لكي يوسّع من دائرة نفوذه. وهكذا تشكّل حلفان عسكريّان؛ حلف وارسو المؤلّفة من بلدان محور الشرق وحلف الناتو المؤلّف من محور الغرب أي أمريكا وبريطانيا. عام ١٩٤٩ انتصر ماو تسي تونغ بمساعدة من ستالين في الصين؛ لذلك  شهد محور الشرق توسّعاً جغرافيّاً لتنضمّ إليه الصين وفيتنام ولاوس وكامبوج. عام ١٩٥٩، أي بعد عشرة أعوام، اندلعت ثورة كوبا وانضمّت كوبا إلى معسكر الماركسيّة. اندلعت ثورة كوبا في ظلّ ظروف كانت يحكم فيها مبدأ مونرو السياسة الخارجيّة لأمريكا، فقد كانوا ينظرون إلى أمريكا الجنوبيّة كباحة فارغة تابعة لهم. هذه التحوّلات جعلت أهميّة العالم ثنائي الأقطاب تبلغ ذروتها. 

 

في ظلّ هذه الظروف أيضاً نشهد تشكّل دول عدم الانحياز. ويبدو أنّ إحدى المعضلات الأساسيّة التي تجعل حركة عدم الانحياز لا تتحوّل في نفسها إلى قطب منفصل على قطبي الشرق والغرب هي الأزمة المعرفيّة بين أعضائها، هؤلاء لا تربط أيّ أحد منهم علاقة معرفيّة بالآخر …
حركة عدم الانحياز كانت مصابة بالضعف من حيث المضمون من الداخل؛ وكانوا يسعون للتحوّل إلى قطب ثالث لكن لم ينجح الأمر. ينبغي التدقيق في أسباب عدم تحوّل هؤلاء إلى قطب في الهندسة العالميّة. قطبي الشرق والغرب اشتركا في نبذ الدين، فالغربيّون جعلوا الإنسانيّة تحلّ مكان الدين وجذورها تعود إلى الثورة الفرنسيّة، والشرقيّون كانوا ماركسيّين؛ كلاهما اشتركا في نبذ المعنويّة، وما وراء الطبيعة والتخلّي عن الدّين. أعضاء دول عدم الانحياز أيضاً الذين كانوا يشكّلون عدداً من الشخصيات، كان جواهر لعل النهروي هندوسياً، وجمال عبد الناصر كان عربيّاً مسلماً، وفيدل كاسترو بعيداً عن أهدافه السياسيّة  الشيوعيّة أصبح في نهاية الأمر قائداً لبلد كاثوليكي. إذاً لم تؤل الأهداف المشتركة إلى نتيجة، واقتصر الأمر على النبذ، نبذ الشرق ونبذ الغرب، أي التوازن السلبي في السياسات الدّولية. بعيداً عن أيّ مؤشّر إيجابي قد يستطيع ربط هؤلاء ببعضهم البعض. في ظلّ هذه الظروف انتصرت الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩ ميلادي.

الدّين والانحياز للتديّن كان يُنظر إليه قبل نظرية الثورة الإسلامية كعامل مغفول عنه، العامل الذي كان يتمّ استبعاده عن الهندسة المعرفيّة عن سابق تصميم بواسطة القوى العظمى وعن جهل بواسطة الدول التابعة. وهكذا يستنتج المرء أنّ أهمّ إنجاز للثورة الإسلامية كان العودة الفاعلة للدين إلى مجال الحياة الفردية والاجتماعية. تحوّل الدين إلى محور للمعاهدات ومعياراً لإقامة أو عدم إقامة العلاقات والارتباطات حول العالم. أيّ نماذج يمكن لنا أن نذكرها كشواهد على ادعائنا؟
 نداء الثورة الإسلامية في إيران كان نداء إحياء الإسلام وإحياء الدين في العالم. بعد عدّة أشهر من انتصار الثورة الإسلامية في إيران اندلعت ثورة نيكاراغوا. قال لي فيدل كاسترون بأنّني قد قلت لقائد ثورة نيكاراغوا السيد دانييل اورتغا أنّنا أخطأنا في مكانين، لا تكرّرا هذا الخطأ، لقد حاربنا الدين، وثانياً تبعنا الاقتصاد الاشتراكي؛ لا تحاربوا الدين ولا يكوننّ اقتصادكم اشتراكيّاً.
خلال زيارتي إلى بولندا كان وزير خارجيّتهم قسّيساً فقال لي، لم تحيِ ثورتكم الإسلام فقط بل أحيت الدين حول العالم. إنّ أي رئيس جمهورية يفوز هنا عليه أن يذهب إلى الفاتيكان لكي يؤيّد البابا حكم المنتخب من قبل الشعب؛ وهذا استنساخ لقضيّة تنفيذ حكم رئاسة الجمهورية بواسطة الولي الفقيه بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران. انطلقت الصحوة الإسلامية في إيران من فتوى المرحوم الميرزا، الفتوى التي أصدرها وحرّم فيها شراء وبيع التنباك وأبطل بذالك قرار رجي ومن ثمّ كانت حركة المرحوم الحاج ملا علي كني النضالية ضدّ قرار رويترز الذي كان يقضي بتسخير إيران كلّها ومنحها للبريطانيّين. ثمّ بعد ذلك كانت قضيّة الثورة الدستوريّة بقيادة العلماء، وكان المرحوم الآخوند الخراساني على رأس العلماء المؤيّدين لهذه الثورة، كما كان السيّد عبدالله البهبهاني، والسيد محمد الطباطبائي والشيخ فضل الله النوي من العلماء المؤيّدين للثورة الدستوريّة. 
كان أيضاً تأسيس حركتي حماس والجهاد الإسلامي دليلاً على عودة الفلسطينيّين إلى الإسلام. والنّضال ذاته شهدناه في العراق، حيث تشكّل المجلس الأعلى. هذه الحركة تبلغ رويداً رويداً مكاناً يصبح فيه هناك قطب إسلامي يتمحور حول إيران وقد أثبتت [هذه الحركة] فاعليّتها. جبهة المقاومة هذه التي تأسست هي في الحقيقة منظّمة فاعلة؛ انطلاقاً من الجهاد وصولاً إلى التعاون الدفاعي والاقتصادي والسياسي والثقافي. كلّ هذه نماذج على العودة إلى الدّين والتديّن حول العالم، ”الدين تحوّل إلى محور لتشكّل اللقاءات وبات يشكّل ركيزة للمحاور العالميّة الجديدة.“

بعض المحلّلين يضربون انهيار الاتحاد السوفييتي كمثال على إمكانيّة انهيار النظام السياسي في أمريكا، على كلّ حال كان الاتحاد السوفييتي متصدّراً في العديد من المجالات على المستوى العالمي، فكان أوّل قوّة عظمى نوويّة، وأوّل بلد استطاع إرسال مركبة فضائيّة إلى الفضاء و… أمريكا اليوم هي قوّة عظمى متفرعنة تملك أقوى اقتصاد في العالم، وأقوى الجيوش و… لماذا تقترب الولايات المتحدة الأمريكية يوماً بعد يوم من انهيارها المعرفي؟
”أمريكا اليوم هي ليست أمريكا في زمان واشنطن التي حاربت الاستعمار البريطاني إلى أن سيطرت، هؤلاء حاربوا الاستعمار وتحوّلوا اليوم أنفسهم إلى مستعمرين.“ ترون اليوم أنّ شخصاً مثل ترامب يعتبر القيام بأيّ خطوة داخل وخارج أمريكا أمراً مشروعاً. حسناً هذا أمرٌ غير ممكن ”فقد كانت لديكم شخصيّة مثل آبراهام لينكلن الذي سعى من أجل تحرّر العبيد وفدى بروحه من أجل هذا الهدف.“ أيّ رئيس من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكيّة اليوم يشبه آبراهام لينكلن؟
هم أنفسهم يصرّحون بأنّ الشرطة الأمريكيّة تعالم السّود بأساليب أسوء بكثير من البيض؛ أي أنّ العنصريّة العرقيّة قد أزيلت في الظاهر لكنّها تمارس على أرض الواقع. ثمّ هؤلاء أنفسهم الذين كانوا مستعمرين في يومٍ من الأيام يسعون اليوم لاستعمار سائر الدّول. ففي إيران أطلقوا انقلاب ٢٨ مرداد، وهم اليوم يمدّون يد العون للسعودية كي تقصف اليمن، ويقمعون الفلسطينيّين، ويدعمون حكومة غاصبة. يقول نحن ندافع عنكم وعليكم أن تدفعوا ثمن الدفاع! أي أنّهم باتوا أشبه برجل مسلّح في إحدى الأحياء يملك قوّة كبيرة والسلاح بيده ومع ذلك يجبي الضرائب من الناس. لقد كانت أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية تفعل ما يحلو لها أينما شائت ذلك. بحيث أنهم ادّعوا الإطاحة بالاتحاد السوفييتي الماركسي وقالوا بأنّ العالم متشكّل من قطب واحد وهذا القطب هو نحن. عام ١٩٩١ صرّح بوش الأب أثناء تفقّده للقوة البحريّة بأنّ العالم اليوم متشكّل من قطب واحد ونحن القوّة العظمى الوحيدة في هذا العالم. لكنّه اليوم يقول بأنّنا كنا في سوريا، وأفغانستان والعراق و… وقدّمنا أثماناً باهظة لكن دون أن نجني أيّ فائدة. هذه علامات انهزام هذه القوّة العظمى.