الكاتب: عباس كنعان
لا شك بأنَّ قضية المرأة أخذت مساحة كبيرة من الفكر البشري، وفي مراحله التاريخية المختلفة، إذ ناقش - هذا الفكر بما يحمله من مرتكزات ومباني معرفية، وخلفيات عقدية ودينية، وتصورات حول الوجود والخالق والإنسان والعالم- قضايا هذا الكائن اللطيف، بما يمتاز به من خصائص، وما يرافقه من قضايا إشكالية، فضلاً عن محاولاته في صياغة الرؤية والدور وكيفية التعامل معه، وكون المرأة تشكّلُ المدماك الأساس في الأسرة التي تعد المكون الطبيعي للإنسان ومن ثم المجتمع البشري: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) (1)، وأن هذا الاجتماع عبارة عن مكوّنات أسريّة نواتيّة(2) وامتداديّة متعدّدة، تشكِّلُ سببًا لبقائه واستمرارِه، ومن دونِ هذه المكوّن الأساس -الذي ينْبغي العمل على رعايته، والحفاظ عليه سالماً، وتقدّمه وتساميه دومًا- لا يُكتب لهذا المجتمع الاستمرار.
من هنا كان لسماحة الإمام الخامنئي(دام ظله) حظًا وافرًا في معالجة هذه القضية، لكن ضمن رؤية متكاملة، وشاملة، فـالإسلام بنظره "ينظر إلى المرأة من زاوية الكرامة، وأنّ جميع الخصائص الإنسانية مشتركةٌ بين المرأة والرجل، فالإنسان قبل أن يتّصف بالأنوثة والذكورة فإنّه متّصفٌ بالإنسانية، وفي الإنسانية لا وجود للمرأة والرجل"(3) ، وكذلك-وفق رؤية سماحته- فقد لحظ الإسلام إلى المرأة من ثلاثة أبعاد:
الأول: البعد الإنسانيّ والتكامليّ: "دور المرأة بصفتها إنساناً في طريق التكامل المعنويّ والنفسيّ".(4)
الثاني: البعد الاجتماعيّ: (حيث يُنظر إلى دور المرأة) "في مجال النشاطات الاجتماعيّة والسياسية والعلمية والاقتصادية، فباب هذه النشاطات مُشرّع أمام المرأة بالكامل. ولو شاء أحد حرمان المرأة من مزاولة النشاط العلميّ والسعي الاقتصاديّ والسياسيّ والاجتماعيّ، فإنّما يتكلّم خلافاً لحكم اللّه. فلا مانع من مزاولة هذه الأعمال بالقدر الذي تبيحه القدرة الجسدية، وتستدعيه الحاجات والضرورات. والشرع المقدّس لا يمانع في بذل الجهود الاقتصادية والاجتماعيّة والسياسية قدر المستطاع. ولمّا كانت المرأة بطبيعة الحال أرقّ جسدياً من الرجل، لذلك فإنّ لهذه الحالة ضروراتها، وفرض العمل الثقيل على المرأة ظلم لها. إنّ الإسلام لا يوصي بهذا، ولكنه في الوقت نفسه لا يمنع ممارسة النشاط العلميّ والجهد الاقتصاديّ والسياسيّ والاجتماعيّ".(5)
الثالث: البعد الأُسريّ: "يُنظر إلى المرأة بصفتها عضواً في الأسرة، وهو الأهمّ من كلّ ذلك،.. الإسلام جعل في الأسرة جزئين شبيهين بمصراعي الباب، أو كالعينين في وجه الإنسان، ...، لكلّ واحد منهما خصائصه، وطباعه، وخصاله، ولكلّ منهما جسمه، وروحه، وفكره، وغرائزه، وعواطفه الخاصّة به،... ولو عاش هذان الجزءان بتلك الحدود والموازين نفسها التي عيّنها الإسلام فسيشكّلان أسرة خالدة، وعطوفة، ومباركة ونافعة" .(6)
إن الرؤية التكاملية للمرأة في الإسلام -من وجهة نظر الإمام القائد(دام ظله) - هي التي تجعلها في المقام الذي يحفظ مكانتها الإنسانية، و"الإنسان هو الذي يسير على طريق التكامل والتعالي. ولا فرق بين الرجل والمرأة في الحقوق الاجتماعيّة، كما لا فرق بين الرجل والمرأة في الحقوق الشخصية والفرديّة. ولقد أُعطيت للمرأة بعض الامتيازات في بعض المسائل الشخصية والخاصّة. وكذا الأمر بالنسبة إلى الرجل. وذلك طبقاً لِما تقتضيه طبيعة كلّ منهما. هذا هو الإسلام، إنّه الأمْتن والأكثر منطقيّة والأكثر عرضاً للقوانينَ العملانيّة والضوابط، التي يمكن للإنسان أن يفترضها لكلا الجنسين، من بين القوانين والحدود الموجودة" .(7)
إنّ قضية المرأة، والتي ينبغي تسميتها اليوم في العالم "أزمة المرأة"، تُعدّ من أكثر القضايا أهمّية في أيّ مدينة ومجتمع وبلد(8)، وأن منبع هذه المشكلة هو ما قدمه الغرب(9)، فأساس الثقافة الغربية (كان ولا زال حتّى عصرنا الحاليّ) مبنياً على جعل المرأة بضاعةً لمتعة الرجل(10)، تعرّضت المرأة عبر الزمن إلى الظلم، "ولكنّ الظلم العامّ والشامل يختصّ بالفترة الأخيرة، وهو ناجم عن الحضارة الغربيّة، حيث اعتبروا المرأة وسيلة لالتذاذ الرجال، وأطلقوا على ذلك اسم حرّية المرأة، بينما الحقيقة هي أنّ ذلك هو حرّية للرجال الطائشين من أجل التمتّع بالمرأة"(11)، وأولى نتائج هذه الرؤية الخاطئة والظالمة، "هي تلاشي العائلة، فقد تهاوى بُنيانها، وعندما يتزلزل بُنيان العائلة في مجتمعٍ ما ويتهاوى، تتأصّل المفاسد" .(12)
وأصل المشكلة في قضية المرأة(13) يعود – بحسب رأي سماحته (دام ظله)- إلى نقطتين أساسين: الأولى عبارة عن النظرة الخاطئة وإساءة فهم موقعية المرأة وشأنها في المجتمع، والثانية، أنّ أساس المشكلة هو إساءة فهم قضية الأسرة، وإساءة التصرّف في السلوكيات داخل الأسرة(14)، علمًا إنّ مسألة الأسرة هي مسألة مهمّة جداً، هي القاعدة الأساس للمجتمع، والخلية الأساس في المجتمع، لكن ليس بمعنى أنّه إذا كانت هذه الخلية سليمة، فإنّ السلامة ستُرى في بقية الأجزاء، أو أنّها إذا فسدت فإن باقي الأجزاء ستفسد بتبعيّتها، بل بمعنى أنّها إذا كانت سليمة فإنّ الجسم سيكون سالماً، لأنّ الجسم ليس شيئاً آخر غير الخلايا، وكل جهاز هو عبارة عن مجموعة من الخلايا، إذا استطعنا أن نحفظ هذه الخلايا سالمة، فسيكون الجهاز سليماً. المسألة مهمّة إلى هذا الحدّ.(15)
وبناءً على ما تقدم، وحيث أن للمرأة هذه المكانة العظيمة في الإسلام، لا بد من الإلتفات، إلى "أن الغرب يتهرّب عمداً من طرح مسألة الأسرة، في جميع الأبحاث التي يجرونها، هناك بحث حول المرأة ولكن لا يوجد أثر لبحث الأسرة. إنّ الأسرة هي نقطة ضعف الغرب. إنّهم يطرحون مسألة المرأة ولكن لا يذكرون حتّى اسم الأسرة، مع أنّ المرأة ليست منفصلة عن الأسرة، وبناءً على هذا، فإنّ التصدّي لهذه المسألة أمر ضروريّ"(16)، مما يستدعي التنبه واليقظة والحذر الدائم لهذه القضية الجوهرية، ودقة مقاربتها الشاملة والدقيقة، والاستناد إلى المباني الفكرية والمعرفية الإسلامية الأصيلة.
الهوامش:
1- القرآن الكريم، سورة الحجرات: الآية 13.
2- "إنّنا نوجد من خلال هذا العقد خليّة جديدة في جسد المجتمع، حيث يتشكّل جسد المجتمع من خلايا العائلات"، من كلامٍ للسيد القائد الخامنئي(حفظه الله)، أثناء عقده لقران، بتاريخ 02/03/1984، نقلاً عن كتاب: الأسرة، لقاء مطوّل مع سماحة الإمام الخامنئي، إعداد مركز صهبا-إيران، نشر مركز الأبحاث والدراسات التربوية، وجمعية المعارف الثقافبة الإسلامية-لبنان، ط1، 2018، ص25.
3- خطاب الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء المشاركات في المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلامية، بمناسبة المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلاميّة، في طهران، بحضور المشاركات في المؤتمر من 84 دولة-، بتاريخ 11/07/2012م.
4- خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة الاجتماع النسوي الكبير في محافظة آذربيجان، بحضور مختلف شرائح نساء محافظة آذربيجان، بتاريخ 04/05/1417هـ.ق.
5- خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة الاجتماع النسوي الكبير في محافظة آذربيجان، م.ن.
6- خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة الاجتماع النسوي الكبير في محافظة آذربيجان، م.س.
7- خطاب الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء جمع من مدّاحي أهل البيت عليهم السلام، بمناسبـة ذكرى ولادة سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام، في طهران، بحضور جمع من الشعراء والمدّاحين، بتاريخ 01/05/2013م.
8- خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة ولادة بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة الزهراء عليها السلام، في طهران، بحضور جمع من السيدات، بتاريخ 22/05/2011م.
9- الغرب في كلام الإمام الخامنئي دام ظله لا يعني منطقة جغرافية أو صناعيّة أو تكنولوجية معيّنة بل المقصود مدرسة فكرية لها إيديولوجية خاصة بها تعتمد على النظرية العلمانية، والماديّة، والنظرة الميكانيكية للإنسان، حيث تنظر إلى الإنسان كآلة وبدن وتغفل البعد المعنوي والروحي، وتطالب بمنفعته الفردية، وتنادي بالاعتماد على التجربة وكسب الأرباح، والتحرّر وأصالة الفرد...
10- خطاب الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء المشاركات في المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلامية، بمناسبة المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلاميّة، في طهران، بحضور المشاركات في المؤتمر (من 84 دولة)، بتاريخ 11/07/2012م.
11- خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة مولد الصديقة الزهراء عليها السلام، في طهران، بحضور جموع من أعضاء المراكز والجامعات الثقافية والسياسة وأسر الشهداء، بتاريخ 21/06/1413هـ.ق.
12- خطاب الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء جمع من مدّاحي أهل البيت عليهم السلام، بتاريخ 01/05/2013 م، م.س.
13- خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة ولادة بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة الزهراء عليها السلام، في طهران، بحضور جمع من السيدات، بتاريخ 22/05/2011م.
14- خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة ولادة بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة الزهراء عليها السلام، في طهران، م.ن.
15- المرأة والأسرة في فكر الإمام الخامنئي دام ظله، دار المعارف الإسلامية الثقافية، مركز المعارف للتأليف والتحقيق، 2017م- 1438هـ، ط1، ص59.
16- خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة ولادة الصديقة الطاهرة عليها السلام ويوم المرأة، في طهران - ملعب الحرية الرياضي، بحضور جموع غفيرة من النساء المؤمنات، بتاريخ 19/06/1418هـ.ق.