يمكن اعتبار كتاب "خوف؛ ترامب في البيت الأبيض" في عداد أهمّ الكتب السياسيّة خلال العقود الأخيرة في أمريكا وحتّى على مستوى السياسة الدوليّة. طوال السنوات الماضية، أي منذ العام 2016 حيث وصل دونالد ترامب إلى منصب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكيّة، أٌلّفت كتبٌ عدّة في داخل وخارج أمريكا حول كيفيّة تقلّد ترامب الحكم وكيفيّة إدارته للبيت الأبيض كرئيس أمريكي؛ لكن يمكن القول أنّ هذا الكتاب يختلف بشكل أساسي عن سائر الكتب التي أُلّفت في هذا المجال. لعلّه من المفيد قبل أن نتطرّق إلى تحليل محتوى الكتاب، أن ننظر إلى سوابق مؤلّفه؛ لأنّنا عندما نهمّ بتحليل كتبٌ من هذا القبيل تهدف إلى فضح الحقائق السياسيّة التي لا يطّلع عليها الجمهور العام، يكون تحليل مدى قدرة القارئ على الوثوق بمعطيات الكتاب من أهمّ المسائل التي ينبغي أن تحتلّ أهميّة خاصّة.  في واقع الأمر، يجب أن يعلم القارئ مدى قدرته على الوثوق بمضمون الكتاب وكلّ ادّعاء أو اتّهام يطرحه قبل البدء بقراءته.

لعلّه يمكن القول في هذا المجال أنّ كتاب "خوف ترامب في البيت الأبيض" يمتاز عن كلّ الكتب التي تناولت موضوع رئاسة ترامب، وسبب ذلك هو شخص مؤلّف الكتاب، "بوب وودورد". وودورد هو أحد أكثر الشخصيّات الإعلاميّة شهرة وحضوراً حول العالم. فقد كان وودورد أحد الصحفيّين الإثنين اللذان نشرا عام 1970 تقريراً حول فضيحة "ووترغيت" التي مهّدت لاستقالة ريتشارد نيكسون من رئاسة الولايات المتحدة الأمريكيّة؛ وواقع الأمر أنّ هذا التقرير يُعتبر أحد أهمّ التقارير في تاريخ الإعلام على المستوى العالمي. عندما يعجز رئيسٌ كنيكسون في ذروة قدرته وفي ذروة الفترة التي كان مسيطراً فيها على كافّة الشؤون السياسيّة والحركة السياسيّة في أمريكا عن مقاومة حقائق وردت في تقرير إعلامي ويُجبر على الاستقالة في النهاية، يُمكن لذلك أن يدلّ على مدى دقّة وقيمة التقارير التي يوردها مؤلّف الكتاب.

عليه، فإنّ هذا الكتاب المؤلّف بواسطة مؤلّفه الذي يُعتبر أحد أشهر الصحفيّين في التاريخ، يُمكن أن يتمتّع بمصداقيّة كبيرة جدّاً. كما أنّه توفّرت تقارير قبل نشر هذا الكتاب تُثبت أنّ دونالد ترامب وحكومة الولايات المتّحدة الأمريكيّة عملوا على منع انتشار هذا الكتاب، لكنّهم فشلوا في النهاية وتمّ نشره. ووفق ما يصرّح به ناشر هذا الكتاب، تمّ بيع مليون نسخة منالكتاب في الأسبوع الأوّل لنشره. وواقع الأمر أنّ ثقة القارئ بهذا الكتاب تخوّلنا الانتقال إلى المرحلة التالية؛ أي تحليل الكتاب. يمكن تقسيم مضمون الكتاب إلى قسمين: القسم الأوّل من الكتاب يرتبط بالمرحلة التي سبقت انتخابات الرئاسة عام 2016 والقسم الثاني من الكتاب يرتبط بالأيّام الأولى لانتخاب ترامب وأدائه في الأشهر القليلة الأولى في منصب رئاسة الولايات المتّحدة الأمريكيّة.

 

کتاب "خوف" ترامب فی بيت الأبيض1

 

في القسم الأوّل يأخذنا الكاتب إلى عدّة أعوام قبل عام 2016 ويعرّفنا على الأجواء الفكريّة لترامب. يقرّر ترامب بصفته تاجراً، وشخصيّة تلفزيونيّة سعت على الدوام لاستقطاب الرأي العام دخول ميدان السياسة.  وكخطوة أولى يتّجه نحو الحزب الديمقراطي؛ لأنّه حسب قول الكاتب شارك مرّات عديدة خلال سنين الشباب في الانتخابات الحزب الديمقراطي الداخليّة وقدّم طوال سنين نشاطه التجاريّ مساعدات ماليّة كبيرة لمرشّحي الحزب الديمقراطي. لأنّه كان يعتبر أنّ الديمقراطيّين وابتكاراتهم تساهم بشكل مثاليّ في تأمين مصالحه التجاريّة. إذاً، كان من الطّبيعي أن يبادر كخطوة أولى للاتّجاه صوب الديمقراطيّين؛ لكنّه لم يحظَ بترحيبٍ لائق من الحزب الديمقراطيّ. في الحقيقة، تعامل الساسة الديمقراطيّون مع فكرة تقديم ترامب كمرشّح لرئاسة الولايات المتّحدة الأمريكيّة على أنّها أشبه بمزحة. هنا أدرك ترامب بعد استشارته للمستشارين والمحيطين به أنّه عندما تكون المرحلة مرحلة فقدان الحزب الجمهوريّ لمرشّح مناسب يقابل مرشّح الحزب الديمقراطي؛ أي هيلاري كلينتون في انتخابات عام 2016، سيكون من المناسب أن يمهّد ترامب رويداً رويداً الأرضيّة لنشاطه في الحزب الجمهوري. وبهذه السّهولة يبدي ترامب استعداده للانقلاب 180 درجة والانضمام إلى الحزب الجمهوريّ.

هذه هي الدلالة الأولى التي يقدّمها لنا الكاتب والتي تثبت أنّ ترامب مستعدٌّ من أجل الوصول إلى أهدافه ومصالحه للتخلّي أيضاً عن اعتقاداته وأهدافه التي امتلكها لأعوام متمادية، وعندما يتحوّل ترامب إلى منتقد من الطراز الأوّل للحزب الديمقراطي، هل بإمكاننا تصديق التصريحات التي يطلقها وانتقاداته لسياسات هذا الحزب ودفاعه عن الحزب الجمهوري والتمييز بين كونها صادقة أو غير صادقة؟

لذلك فإنّ أوّل دلالة يقدّمها لنا الكاتب توضح أنّه لا يمكن الاعتماد كثيراً على تصريحات وآراء ترامب في الكثير من المجالات. ثمّ يأخذنا الكاتب نحو أجواء ما بعد انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتّحدة. فقد ورد في الكتاب على لسان أحد كبار مستشاري ترامب أنّ ترامب لم يكن مستعدّاً لتقلّد منصب الرئاسة ولم يكن يعتقد أبداً بالفشل في الانتخابات، لكنّه لم يكن يعتقد بالفوز أيضاً. وقد ورد في نقل القول هذا أنّه يوجد اختلاف في المعنى بين هذين الموضوعين؛ بمعنى أنّه من الصحيح أنّ ترامب استطاع دائماً عبر الاستفادة من مصادره الماليّة الوصول إلى ما يشاء، لكنّه كان في نقطة جعلته يصدّق أنّه لن يفشل في هذا السّباق، وقد ركّز على الفوز في الانتخابات بحيث لم يفكّر أبداً بالمرحلة التي ستعقبها.

وفي الأيّام الأولى لانتخاب ترامب رئيساً للولايات المتّحدة الأمريكيّة، وبسبب عدم اطّلاعه على الأجواء السياسيّة وعدم امتلاكه علاقات سياسيّة مناسبة، يُظهر لنا الكاتب أنّ ترامب لم يكن على معرفة بأشخاص مناسبين لملء فراغ المسؤوليات والمناصب في حكومته؛ لذلك اتّجه نحو توصيات الساسة في الحزب الجمهوري له. ولعلّه كان يجري حوارات مع عشرين شخص فيما يخصّ المناصب الأساسيّة حتّى يعثر على شخصٍ يكون أقرب من أفكاره وأهدافه؛ لكنّ هذه التعيينات التي جاءت إثر عدم اطّلاع ترامب على الأجواء السياسيّة والساسة في الحزب الجمهوريّة وفي الحزب الديمقراطي في المقابل، تسبّبت في أن يشهد البيت الأبيض خلال أوّل عامين من رئاسته أكبر نسبة من العزل من المناصب المهمّة في تاريخ أمريكا السياسيّ.

القضيّة الأخرى التي تتمّ الإشارة إليها في هذا الكتاب هي الاضطراب السياسيّ واضطراب الأجواء السياسيّة في البيت الأبيض والولايات المتّحدة الأمريكيّة بعد امتلاك ترامب للقدرة. ولإثبات هذا الأمر، ينشر الكاتب في الصفحة الأولى من الكتاب رواية منقولة عن كوهن، أحد كبار مستشاري ترامب، حول رسالة موقّعة يأخذها عن مكتبه لكي لا يطّلع عليها الرّئيس الأمريكيّ. رسالة وردت الإشارة في نصّها إلى الانسحاب الفوري لأمريكا من معاهدة التجارة الحرّة مع كوريا الجنوبيّة، والتي تتّخذ طابعاً تنفيذيّاً في حال وقّع عليها الرّئيس. يبرّر كوهن هذا التصرّف لأعوانه بأنّ الرّئيس كان سيوقّع هذه الرسالة لو رآها وكان ذلك سيحمل تبعات سياسيّة واقتصاديّة كبيرة للولايات المتّحدة.

هذه القضيّة وسائر القضايا التي يُشار إليها في الكتاب، تثبت أنّ المستشارين والمعاونين وأيضاً أعوان ترامب يحاولون مرّات عديدة إخفاء معلومات ووثائق عن الرّئيس؛ لأنّهم لا يثقون بقرارات الرّئيس المتسرّعة. وفي ظلّ أجواء لا يثق فيها كبار المستشارين والمعاونين والوزراء بقرارات الرّئيس، يكون من الطبيعي وجود انقسامات في الأجواء السياسيّة. حقيقة الأمر هي وجود مؤيّدين ينسجمون دائماً مع الرّئيس ومعارضين يسعون لإنقاذ الولايات المتحدة الأمريكيّة من قرارات الرّئيس السيّئة. هذا الأمر يجعلنا ندرك الأجواء الفكرية التي أدّت خلال الأشهر الأولى لرئاسة ترامب إلى اتّخاذ كلّ هذه القرارات المتناقضة؛ قرارات أعلن عنها بعض الوزراء أو معاوني الرّئيس وتمّ الإعلان أو تنفيذ ما يتناقض معها بعد عدّة أيام أو عدّة أشهر.

كما ينقل الكاتب في الكتاب رواية أخرى قد تبرز أكثر من أيّ قصّة أخرى حجم الاضطراب السياسي في أمريكا والبيت الأبيض بعد استلام ترامب زمام أمور الحكم. في هذه الرواية، يصدر ترامب أمراً مباشراً بقتل واغتيال بشّار الأسد، رئيس الجمهورية العربيّة السوريّة؛ لكن ما يزيد هذه القصّة جذابيّة هو ردّ فعل وزير الدفاع الأمريكيّ حينها على هذا الأمر حيث يُطمئن الرّئيس بأنّ هذا القرار سوف يُنفّذ، لكنّه بعد قطع هذا الاتّصال يُطمئن معاونيه بأنّ أمراً كهذا لن يحصل أبداً. لأنّ هذه الخطوة جنونيّة. هذا الأمر يُثبت لنا مدى عدم ثقة وزراء ومستشاري ترامب بقراراته حيث يحاولون في حالات عديدة السيطرة على قرارات الرّئيس؛ لأنّ بعض القرارات المتسرّعة التي تعكس حالة دونالد ترامب النفسيّة لا تتناسب مع الأجواء السياسيّة لإدارة أيّ بلد.

هناك العديد من المواضيع المشابهة في هذا الكتاب. تتمّ الإشارة مرّات ومرّات في هذا الكتاب إلى روايات يتّخذ فيها الرّئيس قرارات متسرّعة قد تكون لها تبعات كُبرى على أمريكا. إضافة إلى هذه النّقطة، تتمّ الإشارة في الكتاب إلى أنّ البعض كانوا معتقدين ضمن الأجواء السياسيّة لأمريكا أنّ روسيا كانت مؤثّرة في الانتخابات الأمريكيّة حيث يشير الكاتب إلى كيفيّة تعاطي دونالد ترامب مع هذه الاتهامات. فعندما يتمّ إطلاق التحقيقات ضدّ الرّئيس والمقرّبين منه في حملته الانتخابيّة، ينتقد الكاتب كيفيّة تدخّل الرّئيس من أجل منع إجراء هذه التحقيقات النزيهة ويروي كيف حاول ترامب وأعوانه ترهيب أو إغراء الشهود والأشخاص ذوي الصّلة بمسار التحقيق، وكيف أخلّوا مرّات عدّة بمجرى التحقيق بهذا الملفّ.

هذه النماذج ومثيلاتها التي تمّت الإشارة إليها في هذا الكتاب تثبت أنّ الرئيس الأمريكيّ لم تكن لديه خلال الأعوام الأولى لرئاسته على الأقلّ أيّ معرفة ودراية وقدرة على كيفيّة تنفيذ سياسات البلاد، وكيفيّة وضع القوانين والتعامل السليم ضمن العلاقات الدوليّة، ويتّضح هذا الأمر للقارئ أكثر فأكثر بأن كيف استطاع الرّئيس الأمريكيّ من خلال استغلال علاقاته الشخصيّة ومصادره الماليّة حصراً، تأمين نفوذ سياسيّ دون أن يرسم مستقبلاً يتضمّن خطّة لتنفيذ سياساته.