التحقت السيّدة سبا بابايي (كونيكو يامامورا)، والدة الشهيد محمّد بابائي، بالملكوت الأعلى بعد صراع مع المرض. وكانت السيّدة بابايي قد سردت حياتها ومصيرها في كتاب «مهاجرة من بلاد الشمس» الذي حظيَ بإعجاب قائد الثورة الإسلاميّة ودوّن تقريظاً له. كتابٌ ينطوي على فكرة فريدة من نوعها ويقدّم تجربة جديدة إلى قارئه. سيّدة من اليابان أسلمت بعد عقد قرانها على زوجها الإيرانيّ، ثمّ تأتي بعد عام ونيّف من الزواج إلى إيران لكي ترى من كثب شعلة الثورة الإسلاميّة بقيادة الإمام الخمينيّ (قده)، وتشهد أحداثاً متعدّدة منها «الدفاع المقدّس»، وتقدّم أيضاً أحد أبنائها في هذا السبيل. في هذه المناسبة، ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي نصّ الحوار الذي أجراه مع مؤلّف مهاجرة من بلاد الشمس، السيّد حميد حسام.

 

السيّدة بابايي، أو بعبارة أفضل كونيكو يامامورا، وصلت إلى الثورة الإسلاميّة والإمام الخميني - رحمة الله عليه - من خلال مسار يختلف عن الذي قطعتموه ومن هم من أمثالكم. لم يكن هذا المسار خالياً من المشكلات والمعضلات. حبّذا أن تحدّثونا قليلاً عن هذا المسار ومشكلاته.

يتبادر إلى ذهن السيّدة بابايي سؤالٌ حول الانحناء والقيام أثناء الركوع والسجود في الصلاة، ويصير هذا السؤال مقدّمة لتعرّفها إلى الإسلام. كانت المباحث الشرعيّة والعقديّة والمعرفيّة متجذّرة وعميقة في معتقدات السيّد بابابيي (زوج السيّدة بابابي) إلى حدّ كبير، لكن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى السيّدة بابايي. تلك المحبّة وذاك العشق كانا ترابيّين. لكن لم يكن الأمر على هذا النحو، أنّه قال فلتعرفي فقط هذه الكلمات الثلاث دون أن تعرف ماهية هذه الكلمات. كانت تعلم أن هذه هي بوابة الدخول والتشرّف بالإسلام.

حين تلتفت عائلة السيّدة كونيكو يامامورا إلى أن من المقرّر أن تتزوّج بإيرانيّ مسلم، ينشأ لديهم إشكالان. الأوّل هو: أين إيران في جغرافيا العالم؟ والآخر جهلهم بالإسلام. كانوا يعرفون الإسلام بمستوى سطحيّ جدّاً، كأن يُمكن للمسلم أن يتزوّج بأربع نساء ولا يمكنه تناول الخمر وأكل لحم الخنزير. لهذا، يبحثون داخل المدرسة في الكرة الأرضيّة عن إيران ويعثرون على مكانها.

هذا ما كان حاضراً في ذهن السيّدة بابايي حاليّاً، وكونيكو في ذلك اليوم، حول الإسلام. لكنّها حين ترى سكينة السيّد بابايي وهدوءه في صفّ تعليم الإنكليزيّة داخل المعهد، يلفتها هذا السكون بشدّة ويثير تساؤلاتها. يوجد في أعراف اليابانيّين الانحناء إلى حدّ الركوع أمام الشخص الآخر، لكنّها حين ترى الرّكوع والانحناء الكامل دون أن يكون أمامه شخصٌ معيّن، يكوّن لديها هذا الأمر عقدة قصصيّة جميلة وقد تابعت هذا المسار معها.

في البداية، تقبل السيّدة بابايي الإسلام لا بنظرة تعبّديّة ودينيّة عميقة، بل بنظرة أخلاقيّة وفطريّة جميلة. لكنّني أشعر بوجود شيء وراء كلّ هذه الأمور، هو أنّ هذه الأمور تحدث ضمن إطار حسابات ترابيّة وأرضيّة وهناك قصّة تحدث في محافظة كيوتو اليابانيّة. كأنّ من المقرّر أن يقع حدثٌ في الصحيفة الإلهيّة ويجري اختيار إنسان يعيش على بعد كيلومترات من إيران ويعكس هذا الأمر أحداثاً كبيرة للغاية واجهتها هذه السيّدة فقط داخل المجتمع الإيراني. يمكن قول هذا الأمر على نحو قاطع. لدينا أمّ شهيدٍ مليئة بالذكريات. لدينا أيضاً كثيرون من اليابانيّين الذين أسلموا في إيران، لكن السيّدة كونيكو يامامورا هي أمّ الشهيد اليابانيّة الوحيدة. في رأيي، لا تقتصر عظمتها على هذا الموضوع، لأنّ السيّدة بابايي سفيرة ثقافيّة بكلّ معنى الكلمة. وإذا أردنا أن نجري دراسة وتحليلاً لشخصيّتها وللطبقات الفكريّة العميقة لديها منذ الطفولة حتّى مرحلة الشباب وهجرتها من اليابان إلى إيران، نجد أنّها هاجرت مرّتين: إحداهما الهجرة الجغرافيّة من اليابان إلى إيران في 1958، ومرّة أخرى كانت الهجرة العقديّة في تلك السنوات من ديانة الشنتو التي تمثّل المرام الفكريّ للبوذيّين في اليابان إلى الإسلام والتشيّع. وبقدر تقدّم الزمان إلى الأمام، تكتسب الهجرة الثانية معناها أكثر في الكتاب، وبقدر ما يتقدّم الوقت، تبرز دروس ضمن إطار أحداث ووقائع تواجهها هذه السيدة تصنع منها إنساناً مختلفاً.

في تلك السنة التي رافقت فيها فريقاً من تسعة جرحى بالأسلحة الكيميائيّة بصفتها مترجمة وكانت ترافقنا، وقعت حادثة في كليّة الاقتصاد داخل [مدينة] هيروشيما لا أنساها أبداً. كان هناك مشهد المواجهة الأولى للناجين من القصف النووي لهيروشيما والناجين من القصف الكيميائي خلال مرحلة «الدفاع المقدّس» لدينا. لقد كانت تبكي أثناء ترجمتها أحداث القصف الكيميائي للنظام البعثي في العراق نقلاً عن شبابنا المصابين بهذه الأسلحة لليابانيّين. كانت هذه الدموع التي تساقطت على وجنتي السيّدة بابائي بمنزلة بوابة فُتحت ودهليز يؤدّي إلى عالم كبير، وشعرتُ أن من الممكن أن يتجلّى في كلامها هذا الاختلاف بين الفكر البوذيّ والإسلاميّ ودين الشنتو والتشيّع والعيش في اليابان حتّى سنّ العشرين ثمّ العيش في إيران. لقد لمستُ بداية هذا الشعور لديها بصفتها مترجمة لكنّني عثرت على وفرة من هذه الدموع في كلّ مكانٍ من ذكرياتها.

عندما حدث القصف النووي، كان لها من العمر سبع سنوات. لا يصنع هذا الحدث منها إنسانة متعصّبة، بل تشعر فقط بالحقد والكره تجاه الأمريكيّين. لكن لديها جملة حول «الدفاع المقدّس» تقول فيها إنّ هذا الدفاع كان مقدّساً بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، لأنّه كان منبثقاً من المعارف العقديّة والدينيّة. ثمّ تقول في جملة أكثر غرابة إنّني أحييت كرامتي المنكسرة في اليابان ضمن أجواء «الدفاع المقدّس». كان هذا التناقض رائعاً جدّاً بالنسبة إليّ.

 

الغصّة التي بدأت منذ القصف النووي لمدينة هيروشيما ورافقتها باستمرار... ما ترجمة هذه الغصّة في حياتها بعد تشرّفها بالإسلام ودخولها إلى إيران والثورة الإسلاميّة؟

نعم، كانت لديها هذه الغصّة وهذا الحقد بعمق. لعلّ بعض الأحداث تفقد حضورها في أنفسنا مع مرور الوقت لكنّها كانت عميقة جدّاً ومتجذّرة بالنسبة إليها، ولم تكن لتتراجع. على سبيل المثال، في قضيّة المدافعين عن المقدّسات، والشهيد سليماني، والدفاع عن خطابات الإمام الخامنئي ومختلف المواقف والمباحث المرتبطة بالالتزام والتمسّك بالمحرّمات والواجبات، كانت نفسها الفتاة التي ترتدي العباءة وتزحف عام 1980 تحت الأسلاك الشائكة وتتدرّب. هي تلك الفتاة نفسها، بل أعمق!

هذا الالتزام حاضرٌ في كلّ مكان. على سبيل المثال هي تنقل خاطرة حول مباريات ركوب الجمال في مصر إلى جانب الأهرامات، وبقدر ما يصرّون هناك على أنه لا بدّ أن يجلس بجانبك رجلٌ وأن تمسكي بيده كي لا يوقعك الجمل الذي ينهض أرضاً، ترفض هذا الأمر. ولكي تُثبت أنّها تملك هذه الشهامة، حين ينهض الجمل، ترفع يدها وتشير بعلامة النصر وهي ترتدي العباءة. حسناً يبدو هذا الأمر بسيطاً لكنّه يحكي العمق المعرفي لديها في المباحث المعرفيّة.

ربما يكون لدى الفتيات اللواتي كنّ تلميذاتها في الرسم والخط والفن في المدرسة الثانوية للبنات في 1980 و1981 مثل هذه الذكريات عنها في الأمور الاعتقادية. في الموضوعات السياسية والاعتقادية، كانت الشخص ذاته تماماً مثل ما كانت في بداية الثورة. التقت بالإمام الخميني وقائد الثورة الإسلامية مرتين وحدثتني مرات عدة عن هذين اللقاءين. كان هذان اللقاءان من أجمل مشاهد حياتها التي وصفتها دائماً في ذكرياتها. كانت النظرة الولائية عميقة جداً لديها. كانت ترى أن سلسلة الولاية - من رسول الله (ص) إلى الولي الفقيه - سلسلة جارية ومتصلة.

هذه كلمات نقولها ونتحدث عنها كثيراً في أجوائنا، ولكن بالنسبة إلى المرأة التي لا تعرف الفارسية، وتجعل الفارسية واجبها المنزلي الأول وتتعلمها مع وجود طفليها، يجعلها مميزة جداً وفريدة من نوعها.

 

دعنا نعود إلى «مهاجرة من بلاد الشمس»...

جرت كتابة هذا الكتاب منذ سنوات، وكانت إحدى أمنياتي أنه رغم التعريف بالكتاب سيجري التعريف بهذه السيدة، لأنني أؤمن من كل كياني أن هذه الإنسانة فريدة من نوعها. كان لدي تواصل مع أشخاص كثيرين وعايشتهم خلال الحرب، لكن لم يكن لدي مثل هذا التعصّب لأحد منهم، باستثناء هذه السيدة، لأنها كانت شخصاً فريداً. بشأن التقريظ أيضاً، كان لدي إيمان أن هناك حكمة في هذا التقريظ، وقد أظهر الإمام الخامنئي هذه الحكمة من هذا التقريظ وأنه إلى أي مدى يرى الأمور كافة بصوابية، ومدى معرفته الدقيقة بهذا الموضوع، ومدى درايته بأهمية تأثيرات السفير الثقافي.

النقطة الأكثر إثارة للاهتمام في الكتاب بالنسبة إليّ هي الشخصية المؤثرة والرسولية للمرحوم السيد أسد الله بابائي، المؤمن الراسخ اليزدي، الذي وضع امرأة لا تمتلك اعتقاداً توحيدياً على طريق الإسلام على نحو فني وبصبر وعبر انتهاجه نهج النبي (ص) وأسلوبه، ويجعل اسمها سبا استنباطاً من سورة سبأ، ويسمي ابنته بلقيس أيضاً. لاحظوا كم هذه النظرة تعبدية. هذا يعود إلى السنوات ما بين 1958 إلى 1960 وكان «خرداد 1342» (5/6/1963) لم يحدث ولم تتشكل نهضة الإمام بعد.

المواضيع كلها التي كانت أمام السيد بابائي ليعرّف زوجته إليها، مثل التعريف بالحجاب والصلاة والأئمة المعصومين (ع)، كان من الممكن أن تحدث بأساليب مختلفة، ولكنه فعل من أجل زوجته الشيء الذي يفعله نبيٌّ.

لا أتردد في استخدام مفردة نبي للتحدث عن السيد أسد الله بابائي، لأنه فعلاً تصرف على هذا النحو وأرى مدى عمق جذوره. عندما استشهد ابنها مثل كثير من أمهات الشهداء ينبؤها هاتفٌ من داخلها أن شيئاً ما يحدث لكِ. عندما تسمع الخبر، تقول هي نفسها: بدأتُ ألطم على صدري مثل أمهات الشهداء الإيرانيين، وفجأة هدأ الألم الشديد الذي كان يشبه الجبل على قلبي. تقول إنني كنت صبورة على هذا الأمر مثل السيدة زينب (ع). حسناً، إذا سمعت هذا من مئات أمهات الشهداء، فهو ليس مثيراً للاهتمام بالنسبة إلي كما من السيدة كونيكو يامامورا. إنه شيء مذهل جداً. حقاً لا يمكن استخدام تعبير له. كأن الله قد اختارها ليمرر أمام عينيها عالماً من الأحداث. لترى «خرداد 1342»، وكذلك القصف الذري على هيروشيما، وانتصار الثورة الإسلامية أيضاً، أو لتكون من أوائل النساء في ميدان الثورة، اللواتي تلقين التدريب التعبوي فيُكتب على بطاقتها: العنصر في تعبئة المستضعفين، كونيكو يامامورا من أهالي اليابان! هذا أمر مذهل جداً. في رأيي هذه القضايا، إلى جانب الأحداث الثقافية المذهلة التي حدثت لها بعد، تظهر أن إحدى الركائز القوية جداً للجسر بين إيران واليابان في قضية ضحايا الكيماوي هي السيدة سبا بابائي.

 

ما المفاهيم والموضوعات المشوّقة التي صادفتها والتي بقيت في ذهنك خلال كتابة الكتاب؟

في هذه القصة، سعيتُ عبر مجرى روايات السيدة بابائي وبعض الأبحاث المرتبطة إلى الدخول بعمق إلى التعرّف إلى اللغة وتعلّم فنون الفتيات اليابانيات قبل الزواج. هذه الموضوعات كانت ممتعة جداً للقراء، وقد قرأت التعليقات حولها في أماكن مختلفة. لكن زهرة نقاشاتهم كانت فن السيد بابائي، الذي أعتقد أنه كان الفصل المشترك بين الأذواق المختلفة، واسم هذا الرجل وفقاً لتعبير السيدة بابائي كان «آغا» (سيد) فقط. أول كلمتين تعلمتهما السيدة بابائي بالفارسية هما: «آغا» و«خانم» (سيدة). يخبرها السيد بابائي أنه من الآن فصاعداً سأناديكِ «خانم» ويمكنكِ مناداتي «آغا». لهذا هي تستخدم كلمة «آغا» في الحديث عن السيد بابائي. في المحادثات التي أجريتها مع السيدة بابائي، أخبرتها أن تكرار «آغا» يجعل القارئ يملّ بعض الشيء، وفي ثقافتنا، نحن نرى «آغا» شخصاً فوقياً، وأن تلك المودّة في الحوار والعلاقة بين الزوج والزوجة تخف وهجها... فإذا تسمحين أن أخاطبه عن لسانكِ باسمه أسد. قالت لي بحزم شديد: لم أخاطبه باسمه أسد أو أسد الله ولا مرة واحدة حتى آخر يوم من حياته! لقد كان بالنسبة إلي «آغا» وكنت له «خانم» حتى النهاية. كانت هذه المسألة مثيرة للاهتمام جداً وجميلة بالنسبة إليّ. كانت هاتان الكلمتان من أولى الكلمات التي تلقتها، وكانا يستخدمانها دائماً، فكانا «آغا» و«خانم» بالنسبة إلى بعضهما بعضاً بالمعنى الحقيقي للكلمة.

 

في موقف نهائي، أخبرنا قليلاً عن الأمور التي واجهتها أثناء كتابة «مهاجرة من بلاد الشمس» وسعيت إلى أخذها بالاعتبار.

لدى المولوي (جلال الدين الرومي) عبارة تقول: ولو أنك تصب ماء البحر في الجرة، يمكن أن يصير في الظاهر ماء جرّة (عذباً)، لكن طعمها هو طعم البحر، لأن الماء هو ماء بحر. ذكريات السيدة بابائي حكمها كحكم البحر وجعلها كتاباً أشبه بأخذ الماء إلى جرة، فالكتاب لا يملك القدرة على التعبير عن الأحداث التي حدثت لها، لكن علينا أن نُذيق القارئ طعماً من طعم البحر. لهذا، كانت المهمة الصعبة جداً لي وصديقي العزيز السيد مسعود أميرخاني - لقد أجرينا هذا العمل معاً ومضينا به قُدماً - هي كيفية ربط كل هذه الأحداث في سلسلة متصلة ببعضها بعضاً وجعلها تتابع كقصة متناغمة ومتناسقة.