الكاتب: السيّد حسن محفوظي الموسوي

تُعدّ تنمية تجارتها الخارجيّة من العناصر الأساسيّة لتقدّم الدول وتحقيقها النموّ الاقتصادي. وضمن تعريفٍ بسيط للتجارة الخارجيّة، فإنّها جزء من المعاملات الاقتصاديّة التي تتمّ بين الدول ويجري فيها تبادل البضائع أو الخدمات. تحتاج التجارة بين المستورد والمصدّر إلى وجود أكثر من ثلاث حاجات تمهيديّة بنيويّة ضروريّة، وهذه البنى التحتيّة تشمل «البنى التحتيّة القانونيّة والإشرافيّة»، «البنى التحتيّة لحمل البضائع ونقلها» و«البنى التحتيّة لإجراء المقايضات الماليّة». خلال الأعوام المنصرمة، سعت بعض الدول التي تندرج بشكل أساسي ضمن معسكر الغرب إلى وضع العوائق وإنشاء الحدود بشتّى الأساليب والذرائع مقابل التجارة الخارجيّة للدول المنافسة، عبر إحداث خلل في أيّ من البنى التحتيّة الثلاثة المذكورة. وكان من هذه القيود فرض أنواع الحظر.

ومن أوسع أنواع الحظر، أنواع الحظر النقديّة والماليّة والمصرفيّة، حيث أنّ أمريكا في الوقت الحالي تستفيد من هذا النوع من أنواع الحظر أكثر من أيّ دولة أخرى. والسبب الرئيسي لقدرة أمريكا على فرض أنواع الحظر الماليّة ضدّ الدول، هو انتشار الدولار وأنظمة الدفع القائمة على الدولار، وعلى أرض الواقع، لا يمكن لأيّ نوعٍ من أنواع الحظر أن يكون مؤثّراً أو ممكناً أيضاً دون الاستفادة من الدولار وأنظمة الدفع القائمة على الدولار. ضمن هذا الإطار وخلال الأعوام الأخيرة، حاولت مختلف الدول التخلّي عن أنظمة الدفع القائمة على الدولار وإخراجها من مقايضاتها مع سائر الدول. على سبيل المثال، سعت الصين منذ العام 2009 لجعل عملتها الوطنيّة (اليوان) دوليّة، ومنذ العام 2015 أطلقت نظام الدفع خارج الحدود الخاص بها المسمّى «CIPS» الذي يُعدّ أرضيّة متماسكة لإنجاز ودفع المعاملات الدوليّة بالعملة الوطنيّة لدولة الصين. كان الهدف من إطلاق هذا النظام هو تقليص التبعيّة للدولار في أعمال الدفع التي تجري بين الصين وسائر الدول التجاريّة التي يتعامل معها هذا البلد، بحيث أنّ نظام CIPS الصيني يمنح الدول الأعضاء إمكانيّة الإقدام على مقايضاتها وإنجاز معاملاتها بعملة اليوان. هذا النظام يتضمّن في الوقت الحالي 79 عضواً مباشراً و1348 عضواً غير مباشر من أكثر من 100 بلد ومنطقة.

إنّ تحليل سوابق نظام CIPS يُشير إلى أنّ هذا النظام شهد خلال الأعوام السابقة نموّاً ملحوظاً. كما إنّ دراسة الإحصائيات بشأن أداء هذا النظام تُشير إلى تضاعف قيمة المعاملات 20 ضعفاً خلال الأعوام الستّ الماضية، بحيث أنّ حجم المعاملات الماليّة الدوليّة المُعالجة في هذا النظام باستخدام عملة اليوان، بلغ ممّا يُعادل 650 مليار دولار في العام 2016 ما يعادل 14,070 مليار دولار في العام 2022.

في المقلب الآخر، فإنّ روسيا أيضاً التي تعرّضت للحظر الأمريكي بشكل مباشر منذ العام 2014، تسعى إلى تقليص حصّة الدولار في مقايضاتها الماليّة عبر إطلاق وسائل التواصل الماليّة المستقلّة الخاصّة بها والمسمّاة SPFS، والاستفادة منها من أجل القيام بالمعاملات الماليّة الداخليّة والخارجيّة مع بعض الدول وتقليص حصّة عملتَي الدولار واليورو في معاملاتها التجاريّة.

ووفق إحصائيات المصرف المركزي الروسي، فإنّ مداخيل العملات الصعبة المتأتّية من التصدير الروسي كان يتمّ بشكل عام باستخدام الدولار واليورو، وإنّ الحصّة العامّة للعملات الخاصّة بالدول «غير الصديقة» كما هو مصطلح كانت تبلغ الـ 87 %. هذا بينما كان استخدام الروبل يشكّل 12 % فقط في الصادرات وكانت حصّة اليوان أيضاً أقلّ من 0.5 %. على الرغم من هذا الأمر، فإنّ روسيا قلّصت عبر خطواتها العمليّة حصّة عملات الدول غير الصديقة ومداخيل الصادرات إلى 48 % وذلك حتى نهاية العام 2021، بينما بلغت حصّة الروبل واليوان 34 و16 % بالترتيب.

إنّ فصل العملات المستخدمة في أعمال الدفع ذات الصلة بالاستيرادات أيضاً شهد تحوّلاً ملحوظاً طوال العام الميلادي الفائت، بحيث أنّ حصّة العملات الخاصّة بالدول غير الصديقة لروسيا تقلّصت من 65 % في كانون الثاني/ يناير 2022 إلى 46 % في كانون الأول/ديسمبر، بينما ارتقت حصّة اليوان والروبل من 33 % إلى 50 %.

هنا لا بدّ من القول أنّ السعي من أجل تقليص حصّة الدولار في المعاملات الماليّة الدوليّة للبلدان لا يختصّ حصراً بالدول التي تعاني الحظر أو تشارف على الحظر، وإنّ دولاً كثيرة أقدمت على إنشاء آليّات خاصّة بها من أجل القيام بمعاملاتها الماليّة مع الاستفادة من عملاتها الوطنيّة بغية البقاء في مأمن من التهديدات والحدود المحتملة عند التعامل مع سائر الدول وكذلك تقليص التبعيّة للقيام بالمعاملات الماليّة بالدولار. على سبيل المثال، من هذه الآليّات نظام الدفع والتسوية الخاصّ بأفريقيا والمسمّى PAPSS، وهو نظام دفع وتسوية يركّز على المتاجرة بالبضائع وتقديم الخدمات داخل القارة الإفريقية.

إنّ الهدف من إطلاق نظام «بابس» هو إنشاء بنية تحتيّة ماليّة مع إمكانيّة الدفع الفوري وخارج الحدود بالعملات الصعبة المحليّة بين الدول الأعضاء في منطقة التجارة الحرّة الأفريقية. هذه البنية التحتيّة تساعد في تبسيط المعاملات الماليّة خارج الحدود وعليه، تقلّص التبعيّة للعملا غير الأفريقية عند القيام بهذه المعاملات.

تملك القارّة الأفريقية في الوقت الحالي قرابة الـ 42 عملة. نظام «بابس» نظامٌ متماسك في أرجاء القارة الأفريقية يتولّى إجراء عمليّات المعالجة والمقاصة والتسوية التجاريّة داخل أفريقيا مع الاستفادة من نظام التسوية الخالص متعدّد الجوانب. هذا النظام يسمح للمؤسسات الأفريقية بأن تدفع معاملاتها التجاريّة داخل قارّتها بعملتها الوطنيّة. ومن المتوقّع أن يؤدّي نظام «بابس» إلى مضاعفة سرعة التسوية والدفع للمعاملات التجاريّة وكذلك تقليص التكاليف، بحيث من المتوقّع بعد التطبيق التام لنظام «بابس» أن يتمّ توفير أكثر من 5 مليار دولار من تكاليف المعاملات الماليّة المدفوع داخل القارة الأفريقية.

من الدلالات الأخرى على تقلّص تبعيّة الدول لاستخدام الدولار، تقلّص ذخائر العملات الصعبة للدول. ويُعدّ الحجز على الذخائر الخارجيّة لأيّ بلد أمراً غير اعتيادي، لأنّ الحكومات تتوقّع أن تكون ذخائرها الخارجيّة «في مأمن» وقابلة للاستخدام عندما تستدعي الظروف ذلك، وإذا كانت الذخائر الخارجيّة بعملة معيّنة (الدولار مثلاً) محجوزة، فإنّ ذاك البلد سوف يحتفظ بالعملات البديلة غير القابلة للحظر أو سيلجأ إلى الذخائر التي لا تكون على هيئة عملات.

ضمن هذا الإطار، تُشير دراسة الإحصائيات الخاصّة بصندوق النقط الدولي أنّ ذخائر الدول في الدولار شهدت تراجعاً طوال الأعوام السابقة. وبتعبيرٍ أدقّ، إنّ حصّة الدولار في ذخائر الدول من العملات الصعبة تراجعت من 72.7 % في العام 2001 إلى 58.4 مع انتهاء العام 2022، وهذه أقلّ نسبة من الذخائر الخارجيّة بالدولار على مرّ التاريخ. وفي المقابل، إنّ ذخائر الدول بالعملات الأخرى ومنها اليوان الصيني تشهد تضاعفاً.

كما جرت الإشارة أعلاه، لا ينحصر تخلّي الدول عن الدولار بالدول التي تفرض أمريكا الحظر عليها أو التي تسعى إلى اجتناب حظر هذا البلد، فهناك دول كثيرة في شتّى المناطق حول العالم تسعى لتنمية التجارة دون الاستفادة من الدولار الأمريكي، وأهمّ الأسباب لقيامها بهذا الأمر هو عدم التبعيّة للدولار وتقليص تكاليف المعاملات التجاريّة وكذلك السعي من أجل الحفاظ على قيمة العملة الوطنيّة.

إنّ اللجوء إلى المقايضات بالعملات (currency swap)، من الأدوات المستفاد منها في مجال تطوير الاستفادة من العملات الوطنيّة للدول في التجارات ثنائية الجانب. المقايضة بالعملات من الأدوات المصرفيّة التي تستفيد منها بعض الدول من أجل توفير المصادر الماليّة للاستيرادات وإدارتها دون أن تكون تابعة لعملات ثالثة.

وقد استفادت الصين أكثر من أيّ بلدٍ آخر من هذه المقايضة بالعملات من أجل نشر استخدام اليوان في التجارة ثنائيّة الجانب مع الدول. كما إنّ تحليل مقايضة الصين بالعملات مع سائر الدول يشير إلى أنّ هذا البلد قايض حتى العام 2019 أكثر من 8.2 ألف مليار يوان مع حدود 40 دولة. ومن بين هذه الدول يمكن الإشارة إلى الأرجنتين وأرمينيا ومصر وماليزيا ونيجيريا وباكستان وتركيا وأفريقيا الجنوبيّة والإمارات وأوزبكستان.

إنّ إجراء دراسة عمليّة للمقايضات بالعملات يثبت أنّ وجود هذه الآليّة بين الدول أدّى إلى رفع مستوى التجارات الثنائيّة. على سبيل المثال، تثبت دراسة تجربة الصين في عقد المعاهدات النقديّة أنّ هذه المعاهدات قادرة على رفع نسبة التجارة بين الدول والصين إلى 1.9 % على الأقل. وفي الواقع، إنّ توقيع خطوط المقايضة المالية (swap) تساهم في تقوية الحركات التجاريّة الثنائية بين الصين والدول الشريكة، وتضاعف نسبة الحركات التجاريّة مع الصين، كما إنّ حصّة الصين تتضاعف من صادرات ذاك البلد حتى في ظلّ الظروف التي تشهد انخفاض كلّ صادرات البلد الشريك.

هذا الموضوع يشير إلى أنّ أحد دوافع البلدان الشريكة وخاصّة فيما يرتبط بالدول ذات العجز التجاري مع الصين، التي تحثّ هذه الدول على عقد معاهدات نقديّة مع هذا البلد، هو رفع مستوى التصدير إلى الصين.

طبعاً، إنّ سائر الدول أيضاً جعلت على لائحة أعمالها خلال السنين الأخيرة تطوير استخدام العملات الوطنيّة في المعاملات الخارجيّة. على سبيل المثال، سعت الهند في العام 2022 عبر إطلاق آليّة استخدام الروبية في أنواع الدفع الخاصّة بالتصدير والاستيراد، إلى حفظ قيمة عملتها الوطنيّة إضافة إلى التخلّي عن الدولار في جانب من تجارتها الخارجيّة.

وتركيا أيضاً من الدول الأخرى التي تستخدم عملتها الوطنيّة في أنواع الدفع الخاصّة بتجارتها الخارجيّة، وتجري تسوية 20 إلى 25 مليار دولار من حجم التجارة لهذا البلد عبر العملة الوطنيّة وبمساعدتها.

ومن النماذج الأخرى على استخدام العملات الوطنيّة في الدفع الخارجي، يمكن الإشارة إلى نظام الدفع في السوق المشترك لأفريقيا الشرقيّة والجنوبيّة (كومسا). بعد تشكيل الـ«كومسا» بهدف رفع مستوى التعاون الاقتصادي والمالي بين الدول الأعضاء، تمّ إنشاء غرفة المقاصة كومسا (COMESA Clearing House) وتشكّل نظام الدفع والتسوية الإقليمي لكي تتمكّن الدول الأعضاء من التفرّغ للتجارة وإجراء المعاملات فيما بينها مع استخدام العملات الوطنيّة. وقد تمّ الإقدام أيضاً على ما يشبه هذه الخطوات من قبل مجتمع تنمية أفريقيا الجنوبيّة.

وفي منطقة غرب آسيا كذلك الأمر، أقدم صندوق النقد العربي في العام 2018 على إطلاق نظام يحمل عنوان بُنى (Buna) والهدف منه الدفع والتسوية الإقليميّة والتلاحم الاقتصادي والمالي بين الدول العربيّة وكذلك الاستثمار وتطوير وتسهيل الأنشطة التجاريّة. وعبر نظام الدفع هذا يمكن للمصارف المركزيّة والتجاريّة الأعضاء القيام بمعاملاتها التجاريّة بواسطة عملات من قبيل درهم الإمارات والجنيه المصري والريال السعودي والدينار الأردني، بحيث تكون حاجتهم لاستخدام الدولار أقلّ خلال إنجاز المعاملات الماليّة فيما بينها.

 

  https://dailyreckoning.com/the-dollar-is-a-victim-of-its-own-success/

 https://www.cips.com.cn/en/index/index.html

  https://www.cbr.ru/Collection/Collection/File/43828/ORFR_2023-02.pdf

https://african.business/2022/08/finance-services/pan-african-payment-and-settlement-system-drives-africas-banking-integration

https://thefintechtimes.com/overview-of-the-pan-african-payment-and-settlement-system-papss/

 https://www.atlanticcouncil.org/in-depth-research-reports/issue-brief/will-economic-statecraft-threaten-western-currency-dominance-sanctions-geopolitics-and-the-global-monetary-order/

https://data.imf.org/?sk=E6A5F467-C14B-4AA8-9F6D-5A09EC4E62A4&sId=1408206195757

https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S1059056022001356

https://rbi.org.in/Scripts/NotificationUser.aspx?Id=12358&Mode=0

https://data.tuik.gov.tr/Bulten/Index?p=Foreign-Trade-Statistics-February-2023-49622

  https://www.comesa.int/over-100m-transacted-through-the-regional-payment-system/

https://www.imf.org/external/pubs/ft/wp/2007/wp07158.pdf

https://buna.co/download?path=https://www.buna.co/uploads/media/default/0001/01/a2cdb6237971c9564250e43f879fe1ee94db1041.pdf