الإمام الخامنئي في ختام مراسم العزاء للهيئات الطالبيّة الجامعيّة: «أنتم تتوجّهون في زيارة عاشوراء إلى الإمام الحسين (عليه السلام) قائلين: يا أبا عبد الله إني سِلمٌ لمَن سالَمَكم وحربٌ لمَن حاربكم إلى يوم القيامة... فالمعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية هي معركة مستمرة» 25/8/2024.
يُتصوَّر أن ثقافة كربلاء وعاشوراء هي مفهوم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالشيعة والثقافة الشيعية، ولكن عند النظر بدقة إلى ثقافة المقاومة الفلسطينية وهويتها، يمكن مشاهدة كثير من الدلالات التي تشير إلى الاعتقاد بالمقاومة الكربلائية وتأثير ثقافة عاشوراء في أذهان الناس والنخب والقادة الفلسطينيين. تأثيرٌ يظهر مداه في العمل والمقاوم والشهادة والاعتقاد بمنطق كربلاء. يُثبت الحضور المتعدد لمفهوم عاشوراء وكربلاء وإدراكه في مفهوم الشهادة والمقاومة لدى مختلف الفئات، من قادة وفنانين ومثقفين و... هذا المبدأ أكثر من أي وقت مضى.
يحيى السنوار
للبدء، يمكن الإشارة إلى تقرير من صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، الذي كشف بعضًا من رسائل الشهيد يحيى السنوار إلى صناع القرار خارج قطاع غزة أثناء «طوفان الأقصى». في هذا التقرير الذي ادّعت الصحيفة الأمريكية أنها حصلت على بعض البيانات والرسائل التي أرسلها يحيى السنوار، بصفته مسؤول «حماس» في قطاع غزة، إلى قادة «حماس» بشأن المفاوضات ومسار الحرب وكشفت عنها، يأتي السنوار في رسالة سرّية على ذِكر كربلاء، قائلاً: «علينا أن نمضي قدمًا على نفس المسار الذي بدأناه أو فلتكن كربلاء جديدة».[1]
زياد النخالة
في آذار/مارس 2024، أيضًا، عبّر السيد زياد النخالة، الأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي في فلسطين»، أثناء لقائه مع قادة الثورة الإسلامية، عن شكره لدعم جمهورية إيران الإسلامية لقضية فلسطين، مكرّماً ذكرى الشهيد الحاج قاسم سليماني، وتابع قائلاً:«ما يجري في غزة اليوم في الواقع هو تكرار لحادثة كربلاء، فرغم كل الصعوبات والمؤامرات، تمكّن أهالي غزة وقوى المقاومة، بصمودهم الاستثنائي، من إفشال مخطط أمريكا والكيان الصهيوني وداعميهم في القضاء على المقاومة»[2].
الشيخ خضر عدنان
أحد الأمثلة الأخرى على فهم كربلاء وأحداث سنة 61 ه-.ق. ومعرفتها، هي تصريحات الشهيد الشيخ خضر عدنان، أحد قادة حركة «الجهاد الإسلامي» في الضفة الغربية. استشهد الشيخ عدنان في سن الخامسة والأربعين في أيار/مايو 2023، بعد أن دخل في معركة إضراب عن الطعام استمرت 87 يومًا احتجاجًا على اعتقال الاحتلال الإداري له. في المجمل، كان الجنود الصهاينة قد اعتقلوا خضر عدنان 14 مرة على مدار 9 سنوات. عندما دخل الشهيد في معركة الإضراب عن الطعام، أعلن للجميع أنه لن يستسلم لقرارات الكيان الفاشي الصهيوني وأنه سينتزع حريته منهم.
في حديث له، يؤكد خضر عدنان بعبارات عجيبة ومؤثرة، تعكس عمق معرفته وإيمانه بعاشوراء، قائلاً: «إن لم تكن حسينيًّا على طريق الشّهادة فكن زينبيًّا وهذا طريق الإعلام والتبليغ، وهذا أقل ما نقوم فيه بالدفاع عن أرضنا ومقدساتنا وعن حقنا في الحرية والعزة والكرامة»[3].
باسل الأعرج
محبة أهل البيت (ع) وملحمة عاشوراء ليست مقتصرة على قادة المقاومة فقط. باسل الأعرج هو أحد الشهداء الشباب من أهل القلم والمؤرخين الفلسطينيين. ينحدر من الضفة الغربية، وحصل على شهادة الدكتوراه في الصيدلة من القاهرة. في عام 2016، اعتقلته السلطة الفلسطينية مرة بسبب نشاطاته ضد الاحتلال، ولكن أُفرج عنه بعد خمسة أشهر نتيجة لضغوط الرأي العام. لكنه بعد إطلاق سراحه، لاحقه الصهاينة لمدة سبعة أشهر حتى تمكنوا في النهاية من تعقّبه في أحد المخابئ، حيث استشهد بعد ساعات من الاشتباك.
يقول في إحدى كتاباته: «وإنّ أمي قد حببتني بالنبي المقاتل أكثر من من حب النبي المسالم، وإن كان يسوف نبيّها المحظي فلأنّ "المراجل في الصبر". وأرضعتني مع حليبها حب آل البيت ومولاتهم، وعداء من عاداهم وحب من أحبهم، وأورثتني المصاب بالحسين عبر حليبها عن أمها عن جدّتها عن جدّتها. فسلام على الحسين وآل الحسين، لتبقى كلماته الأخيرة شعار لنا في الحياة والممات: " ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام". فعظّم الله أجركم وإنا لله وإنا إليه راجعون».[4]
فتحي الشقاقي
الشهيد فتحي الشقاقي، مؤسس حركة «الجهاد الإسلامي في فلسطين»، الذي استشهد عام 1995 في مالطا على يد الكيان الصهيوني. ألّف قُبَيل انتصار الثورة الإسلامية كتابًا بعنوان «الخميني الحل الإسلامي والبديل». قربه من الثورة الإسلامية جعله يزور إيران مرات عدّة. يكتب آية الله الري شهري، أحد المقرّبين من الإمام الخميني (قده)، في مذكراته عن إحدى هذه الزيارات: «كان سماحة آية الله الخامنئي قد دعا الدكتور الشقاقي إلى منزله في إحدى الليالي. سأل أحد الحاضرين فتحي الشقاقي: "إلى أي مدى أنتم واثقون من نجاح نهجكم؟"، فأجاب بجواب أذهل الجميع، إذ قال: "نحن أصلاً لا نفكر في هذه المسألة! نحن نرى نجاحنا وانتصارنا في اختيار نهج الحسين بن علي عليه السلام. هدفنا هو أداء التكليف الإلهي"»[5].
محمود درويش
محمود درویش، الشاعر الفلسطيني الشهير، الذي لا يحتاج إلى تعريف، رغم فكره غير الإسلامي، ولكنّ مفهوم كربلاء يظهر بوضوح في أشعاره. هذه دلالة واضحة على عمق حضور كربلاء في هوية الشعب الفلسطيني وثقافته.
من جملة ذلك، قوله في شعره «وحين أحدّق فيك... أرى كربلاء»[6]:
وحين أحدق فيك
أرى مدناً ضائعة
أرى زمناً قرمزياً
أرى سبب الموت والكبرياء
أرى لغة لم تسجَّل
وآلهة تترجَّل
أما المفاجئة الرائعة
وتنتشرين أمامي
صفوفاً من الكائنات لا تسمّى
وما وطني غير هذه العيون التي
تجعل الأرض جسمًا
وأسهر فيك على خنجر
واقف في جبين الطفولة
هو الموت مفتتح الليلة الحلوة القادمة
وأنت جميلة
كعصفورة نادمة
وحين أحدق فيك
أرى كربلاء
وأثيوبيا
والطفولة
واقرأ لائحة الأنبياء
وسفر الرضا والرذيلة
أرى الأرض تلعب
أحمد دحبور
أحمد دحبور، الشاعر الفلسطيني الشهير، لديه قصيدة بعنوان «العودة إلى كربلاء»، يعبّر فيها عن مؤرّقاته ويفضفض ما يختلج فؤاده إلى كربلاء، ويفضح الحكّام الذين خانوا فلسطين، إذْ يقول إنّ أولئك الذين باعوا كربلاء نفسهم يسعون الآن إلى بيع فلسطين وتقسيمها، ولكن الشعب الفلسطيني، مستلهمًا من كربلاء، لن يخضع لهم ولن يرفع راية الاستسلام:
آتٍ، ويسبقني هواي
آتٍ، وتسبقني يداي
آتٍ على عطشي، وفي زوادتي، ثمرُ النخيل
فليخرجِ الماءُ الدفينُ إليَّ، وليكنِ الدليل
يا (كربلاءُ) تلمّسي وجهي بمائِكِ، تكشفي عطشَ القتيل
وتري على جرحِ الجبينِ أمانةً تملي خطاي
وتري خُطاي
قيلَ الوصولُ إليكِ معجزةٌ
وقيلَ الأرضُ مغلقةٌ
وقيل
وذكرتُ أنكِ لي، وإنَّ الكونَ يأكلُ من ثمارِكِ ما عداي
فأتيتُ يسبقني هواي
لا تسألي وجهي الجديدَ عن الأحبةِ
كانوا رعاةً - بالثيابِ - وكانتِ الأسرارُ ذئبة
كنا تبايعنا على موتٍ يقيلكِ من عذابِ الموتِ
في الأسرِ الطويل
فتقاسموا تمرَ النخيلِ ولم يمتْ أحدٌ سواي
شاهدتهم، ومعي شهودي
أنتِ، والماءُ الذي يغدو دماً
ودمٌ لديهم صارَ ماءْ
والنخيل
شاهدتهم - عينُ المخيمِ فيَّ لا تخطئ -
وكانوا: تاجراً،
ومقامراً،
ومقنعاً،
كانوا دنانيرَ النخيل
ودخلتُ في موتي وحيداً أستحيل
وطناً، فمذبحة، فغربة..
وأتيتُ تسبقني يداي
يا (كربلاء)، تفورُ فيّ النار،
أذكرُ كيفَ تنقلبُ الوجوه
عرفوا الغريمَ وأمسكوه
ويُقالُ: كان يخبُّ في لحمي ويشربُ من دماي
غضبوا عليه طوالَ ساعاتِ احتضاري
ثمَّ مُتُّ فتوَّجوه
وتبادلوا رأسي فلم يركبْ على عنقٍ
وعادَ إليَّ بالجرحِ النبيل
وأعود
لن يتصدّروا باسمي
فجرحي جاءَ ينكرُهم
وتنكرُ ما استباحوا مقلتاي
وإذا حسبتُ حسبتهمْ في صفِّ غاصبِكِ الدخيل
يا (كربلاء) الذبحِ، والفرحِ المبيَّتِ، والمخيمِ، والمحبة
كلُّ الوجوهِ تكشّفتْ.. كلُّ الوجوه
ورأيتُ كان السيفُ في كفي
وكنتُ لنظرةِ الفقراءِ كعبة
ورأيتُ من باعوكِ
باعونا معا
وتقاسمونا في المزادِ فما انقسمنا...»[7].
إبراهيم النابلسي
إبراهيم النابلسي هو أحد قادة الكتائب العسكرية ومؤسسي «عرين الأسود» في الضفة الغربية. كان إبراهيم النابلسي محبوبًا جدًا وقدوة لجيل الشباب المناضلين ضد الاحتلال، بسبب شخصيته الفريدة وروحيّاته المميزة. استشهد في 9 آب/أغسطس 2022، وهو في الثامنة عشرة من عمره في حصار واشتباكات في نابلس على يد القوات الصهيونية. في آخر تسجيل صوتي له قبل استشهاده يقول: «أنا الآن محاصر وسوف أستشهد... أحبك كثيراً، أنا أحب أمي... أنا استشهدت يا شباب... حافظوا على الوطن من بعدي... وأوصيكم لا تتركوا البندقية...»[8].
تروي والدة هذا الشهيد الشاب الفلسطيني قائلة: «كان عمره 15 سنة... وكان مع أصدقائه... أصدقاؤه وشموا على [أيديهم]... فأحبّ إبراهيم الفكرة ووشم على يده... لكن ماذا وشم؟ «لا فتی إلّا علي ولا سیف إلّا ذو الفقار»[9].
الشعب الفلسطيني مجبولٌ بكربلاء!
أُعيد نشر مشاهد كثيرة في وسائل الإعلام أثناء «طوفان الأقصى» وما قبلها، التي تُظهر بوضوح كيف أن الشعب الفلسطيني مجبولٌ بعاشوراء وفلسطين.
يقول محمد ربعي، إمام جامع مسجد سردا الكبير في رام الله، في خطبته يوم عاشوراء: «عاشوراء هو يوم نصرة المظلومين، ويومٌ قتلت فيه أركان الظلم سيد شباب أهل الجنة. لعنة الله وملائكته والناس أجمعين على مَن قتلوا الحسين (عليه السلام) أو مَن رضوا بذلك. السلام على الحسين عندما قال: لقد جعلوني بين أمرين، بين السلة أو الذلة، وهيهات منا الذلة»[10].
أو الأمّ التي استشهد ولداها في الهجوم الصهيوني الوحشي، تصرخ قائلة: «أنت لست أفضل من الحسن والحسين عندما قُتلا وذُبحا... مع السلامة يا بُنيّ»[11].
أو الرجلٌ الذي دُمّر منزله، يخاطب وسائل الإعلام قائلاً: «والله غزة كربلاء العصر! لا تظنوا أنني شيعي، لقد قرأت عن كربلاء في السجن!»[12]. والمئات من الأمثلة الأخرى التي تثبت أن الاعتقاد بفلسفة عاشوراء وجوهرها هو جزء من تاريخ هوية الفلسطينيين.
إن فهم قضية عاشوراء ومعرفتها لدى الإيرانيين والفلسطينيين قد جعل من «طوفان الأقصى» وبعض الأحداث المرتبطة بها، مثل استشهاد بطل الطوفان يحيى السنوار واستشهاد حامي الطوفان وفلسطين، السيد حسن نصر الله، ملحمة مشتركة وقابلة للفهم بالنسبة إلى الطرفين.
في الثنائية الحسينية واليزيدية، تعدّ غزة وشعبها نموذجًا لتبيلغ الإسلام، إنها الخط الأمامي والفاصل بين الثنائيات الحقيقية. إنها المكان الذي يبرز فيه الإسلام نفسه. المكان الذي فيه مفهوم كربلاء ونهجها حيٌّ؛ يعيشونه ويؤمنون به.
[1] https://www.timesofisrael.com/hamass-sinwar-said-to-laud-high-civilian-death-toll-in-gaza-as-necessary-sacrifice/
[3] https://www.alalam.ir/news/6607913/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%87%D9%8A%D8%AF-%D8%AE%D8%B6%D8%B1-%D8%B9%D8%AF%D9%86%D8%A7%D9%86--%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D8%A8-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D8%A8%D8%A3%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%A6%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D9%88%D9%8A%D8%A9