بسم الله الرحمن الرحيم،
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، ولا سيما بقية الله في الأرضين. اللهم صلِّ على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها بعدد ما أحاط به علمك.
أبارك لكم جميعاً، أعزائي الحاضرين في هذا اللقاء، خاصة الإخوة الذين أفاضوا واستفدنا جداً منهم، ولادةَ الصدّيقة الطاهرة (ع)، وولادة الإمام [الخميني] العظيم،1 وعشرة الفجر. وأتحسّر لأنّ [قراءة المدّاحين] كانت قصيرة، وأتمنى لو كنا نستطيع أن نستفيد منكم ضعفين أو ثلاثة. لقد دوّنت بعض النقاط، لكن بالطبع لا يمكن التطرّق إليها جميعاً في هذا الوقت. عندي بضع كلمات عن الصدّيقة الطاهرة (ع)، وإحداها عن يوم المرأة وعيد الأم، وقد سُمّيت هذه المناسبة الميمونة بذلك بذوق حسنِ، كما سأتطرّق إلى ظاهرة المديح المتنامية في البلاد لحسن الحظ.

الدّرجة العالية والمنزلة الاستثنائيّة لفاطمة الزّهراء (ع)
في ما يتعلق بالسيّدة الزّهراء (ع)، إذا ما نظرنا إليها بهذه العين المادية – طبعاً عيون الحقيقة والواقع والعين الربانية ستراها بطريقة مختلفة – [نرى] أنّ هذه العظيمة هي بنت الرسول الأعظم (ص)، الفتاة التي يقبّل الرسول (ص) يدها ويقف لقدومها. وفي كلّ سفر، يكون الوداع الأخير لبيت الزّهراء (ع)، ومن هناك، ينطلق إلى سفره. ثم عند عودته من السفر أول مكان يقصده ليسلّم عليه هو بيت الزّهراء (ع). هي فتاةٌ من هذا النوع. من ناحيةٍ هي سيدة معصومة. إنّ رتبة العصمة عجيبة. إنها منزلة استثنائية. ومن ناحية ثانية هي كفؤ علي بن أبي طالب (ع)، علي بن أبي طالب (ع) الذي هو بتلك العظمة، علي بن أبي طالب (ع) الذي لم ترَ عيون العالم شبيهاً له بعد الرسول (ص). فاطمة الزّهراء (ع) هي الزوجة الكفؤ لهذه الشخصية! ومن ناحية أخرى هي أمّ لأربع شموس ساطعة، اثنان منهم من الأئمة المعصومين. أيضاً هي رأسُ السلسلة للنسل المبارك للرسول الأعظم (ص) الذي بعد 1400 عام يفتخر به ملايين البشر حول العام اليوم، بفضل لله. ورأس السلسلة هذه هي فاطمة الزّهراء (ع).

سيرة الزّهراء (ع) متطابقة مع رسالة الرسول (ص)
تنطبق سيرة هذه العظيمة مع سيرة الرسالة تماماً، أي أن هذه العظيمة أشرقت بعد بعثة النبي (ع) بوقت قصير، وغرُبت بعد وقت قصير من وفاة النبي الأكرم (ص)، ما يعني أن حياتها تتوافق تماماً مع زمن الرسالة. في طفولتها، تشعر بمحنة شِعب أبي طالب (ع) وتدركها، فتدخل وسط ميدان الحياة الصعب، [بعد أن] تفقد والدتها، وهو أمر صعب للغاية على فتاة في هذا العمر، لكنها تقوم على عمل رائع بجانب تحمّل هذه الصعوبة، هو المواساة لحزن الرسول (ص). النبي (ص) الذي فقد خديجة (ع) وأبا طالب (ع) يحتاج إلى مواسٍ له، والفتاة هي التي صارت المواسية. استمرت هذه المواساة للحزن بالطريقة نفسها حتى زمان المدينة المنورة، وفي أُحُد والخندق وأماكن أخرى كثيرة، فقال الرسول (ص) حينذاك: «فاطمة أم أبيها»2؛ لقد قامت مكان الأمّ للرسول (ص). ثم في قضية الهجرة، والامتحانات الفريدة من نوعها في زمن المدينة المنورة، والزوجة لعلي بن أبي طالب (ع)، إذ كان لها قدمٌ في البيت وأخرى في ميدان الجهاد – أي تحمّل هذه الصعوبات – ثم تربية هؤلاء الأطفال الأربعة الرائعين في مسيرة حياتها، ثم تقديم أوّل قربان بعد وفاة الرسول (ص)، محسن (ع)، وأخيراً استشهادها بعد وفاة الرسول (ص) ببضعة أشهر.

حياتها تجسيد لأسمى المفاهيم الإنسانيّة حول المرأة
هذه الحياة القصيرة لهذه العظيمة التي استمرّت ثمانية عشر عاماً أو أكثر قليلاً لها مثلُ هذه القصة، وهي مهمة. لقد كانت تلك السيّدة تجسيداً لأسمى المفاهيم الإنسانية والإسلامية حول المرأة، ويجب الالتفات إليها. درس فاطمة الزّهراء (ع) هو مجملُ هذه الموارد. بعض القضايا الإسلامية هي قضايا مختصة مثل الأمومة والزواج والتدبير المنزلي وتربية الأبناء. في كل ذلك السيّدةُ فاطمة الزّهراء (ع) هي القمّة لما يمكن تخيّله. في مجال تربية الأبناء، في مجال التعاون مع الزوج، في المجالات والأمور المشتركة بين الرجل والمرأة مثل عبادة الله، واجبات عظيمة مثل عبادة الله... كانت حالةُ فاطمة الزّهراء (ع) حالة مهمة ويُثنى عليها جداً.
يقول الإمام الحسن المجتبى (ع) إن أمّه (ع) كانت تقضي ليلة الجمعة إلى الصباح في العبادة، وكلما سمع صوتها، يراها تدعو للآخرين. وصباحاً قال: «أمّاه! دعوتِ للآخرين ولم تدعِ لنفسك!» فقالت له: «يا بُنيّ: الجار ثم الدار»3. وهذا درس لنا.. بشأن «هل أتى»، أرى أنّ [قوله تعالى] {إِنَمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} (الإنسان، 9) درسٌ للأمة الإسلامية وللمجتمع الإسلامي وللجمهورية الإسلامية، وفيه أنه ينبغي أن يُؤدّى العمل بإخلاص.
يقول الحسن البصري، وهو واحد من الزهّاد الثمانية4 ولديه جنوحٌ عن أهل البيت (ع)، «ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة؛ كانت تقوم حتى تورم قدماها»5. هذا التعبير، «ما كان أعبد من فاطمة»، لا يعني أنه ليس هناك شبيه بها أو ليس هناك من هم بمقدار عبادتها. لا! يعني في اللغة العربية أنه لا يوجد أحد في الأمة مثلها في العبادة. هذا ما يقوله البصري! البصري الذي لم يُدرك عهد فاطمة الزّهراء (ع). لكنه عندما يقول ذلك بحسمٍ، هذا يدّل على أنّه أمرٌ من المسلّمات والمتواترات الموجودة في ذلك الحين. فواجب العبادة، ثم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، يعني الحضور في ذلك الميدان العجيب الذي سيحدّد مصير أمّة الإسلام، وذلك الحضور العاصف والعجيب لفاطمة الزّهراء (ع) بتلك الخُطب العجيبة.
إنّ الرؤية الجامعة لهوية المرأة في منطق الإسلام هي: الأم الصالحة، الزوجة الصالحة، المجاهدة في سبيل الله، وفي الوقت نفسه ربّة المنزل، مديرة المنزل، وأيضاً العابدة اللهَ تعالى. وفي نهاية المطاف، أثبتت فاطمة الزّهراء (ع) أنّ المرأة يمكن أن تصل إلى أعلى درجات العصمة، وهذه كلها من خصوصياتٌ لهذه المرأة العظيمة.

الآثار الجميلة لاتّباع رؤية الأسرة العلوية–الفاطمية
تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الأسرة المثالية والفريدة – ربّ البيت علي (ع)، وربّة البيت فاطمة الزّهراء (ع)، وأولاد البيت الإمام الحسن (ع) والإمام الحسين (ع) وزينب (ع) وأمّ كلثوم (ع)، بما نعرفه عنهم من صفات – هي تلك الأسرة التي يقول القرآن للنبي (ص) عنها: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى، 23). المودّة لهذه الأسرة. المودّة تعني التّضامن والتّعاطف والمرافقة والتّعاون. هذا هو معنى المودّة. التّعاون والتّضامن والتّعاطف مع هذه العائلة، مع هذه الشعارات، مع هذه الحركات... انظروا إلى أي قمّة ستُوصِل الأمة الإسلامية! هذه الخدمة المخلصة التي تمثّل شعارهم هي ما يجب أن نسعى إليه.
أودّ أن أقول لبعض القلوب التي تضطرب أحياناً في بعض الأمور وتقلق وتنزعج: لا تقلقوا! فلحسن الحظ أنّ آثار هذه المودّة مشهودة بصورة كاملة في الجمهورية الإسلامية ونظامها. الحركة التعبوية، والروحية التعبوية، والخدمات المخلصة للشهداء النوويّين، والجهود الحثيثة للمعسكرات الجهادية، والجهود العلمية والعملية البعيدة من الرّياء لآلاف الشباب في أنحاء البلاد على صعيد الجبهات الثقافية والاجتماعية والفنية، كلها مشاهد جميلة لاتّباع الرؤيةِ التي لأسرة أمير المؤمنين (ع) وفاطمة الزّهراء (ع)، وقد رأيناها أيضاً في المدة الأخيرة خلال أزمة «كورونا»، ومن أجمل مشاهدها أداء الفرق الطبية والتمريضية.

الجمهورية الإسلامية ونظرتها إلى المرأة مقابل نظرة الغرب
حسناً، في مسألة المرأة والأم، تختلف نظرة الجمهورية الإسلامية وموقفها تجاه المرأة اختلافاً تاماً عن النظرة الغربية الرائجة، النظرة التي يحاولون نشرها في كل العالم بألف طريقة وعبر منصّات واسعة النطاق على نحو عجيب. كلّا! النقطة المقابلة هي نظرة الجمهورية الإسلامية.
نظرة الجمهورية الإسلامية هي تكريم المرأة واحترامها، وهي معاكسة للنظرة الغربية الرائجة إلى المرأة، أي النظر إليها كسلعة وأداة، فكرامة المرأة في المنطق والأسلوب ونمط العيش الغربي مهشّمة. لقد رأيتم أنّ واحدة من كبار المسؤولين الحكوميين والعسكريين أعلنت قبل بضعة أشهر أنّها تعرّضت للتحرّش الجنسي.6 أي حتى النساء اللواتي يصلن إلى مراتب إدارية واجتماعية وسياسية عالية لسن محصّنات ولا يأمنّ ضرر المنطق الغربي بشأن المرأة. نظرة الإسلام أن الرجال والنساء متساوون في القيم الإلهية والإنسانية؛ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ...} (الأحزاب، 35). ليس هناك أيّ اختلاف بين الرجل المسلم والمرأة المسلمة في القيم الإلهية والإنسانية. كلاهما لديه مسؤوليات مشتركة، فواجب الأمر بالمعروف مشترك، وواجب الخدمة مشترك، وواجب الجهاد في سبيل الله لكل منهما واجب مشترك بتعبير ما، ولا يخصّ رجلاً أو امرأة بعينها. لكل منهما واجباته الخاصة، فللمرأة واجبات، وللرجل واجبات خاصة، والله – تعالى – خلق بُنيتهما الجسدية والروحية بشكل متناسب مع هذا الواجب، ومن أجل هذه الواجبات الخاصة.
من منطلق هذه النظرة للإسلام ونظرة الجمهورية الإسلامية إلى المرأة – نحن فخورون بهذه النظرة –، نُندّد كلّ التنديد بالنظرة والأسلوب ونمط العيش الغربي في ما يخصّ المرأة، بل نؤمن بأنهم يظلمون المرأة.

تقدّم النساء وتطوّرهن ببركة الجمهوريّة الإسلاميّة
تزعُم الدعاية الغربية أن النظرة الإسلامية تُعيق تقدّم المرأة وتطوّرها! هذه كذبة واضحة وكلام مُغرض تماماً. في بلدنا، في أي وقت من التاريخ، لا في الماضي ولا في عصر التأثر بالغرب، لم يكن لدينا كثير من النساء المتعلمات، ولا كل هؤلاء النساء الناشطات في الفعاليّات الاجتماعية والثقافية والعلمية. لم يكن لدينا كل هؤلاء السيدات المؤثّرات في المصير الاجتماعي، ولا كل هؤلاء النساء ذوات الفهم والتحليل السياسي. لم يكن لدينا كثير من الكاتبات والمترجمات والفنانات بالمعنى الحقيقي للكلمة. كل ذلك [صار] ببركة الجمهورية الإسلامية، وببركة نظرة الإسلام إلى المرأة، وهي نظرة تكريم.
يجدر بي هنا أن أزيّن كلامي بتكريم أمّهات الشهداء وأزواجهم في كِلا الجيلين [الأخيرين]: الأول في ما يخص الدفاع المقدس، والآخر في ما يخص الدفاع عن العتبات. ينبغي لنا حقاً أن ننحني تعظيماً أمام زوجات الشهداء وأمّهاتهم اللواتي تركن دوراً رائعاً وخالداً. للأسف، إنّ نشاط الإنتاج الفني في ما يخصّ هؤلاء الأحباء، هؤلاء العظماء، هؤلاء الأجلّاء، انخفض كثيراً. هذا المجال مميز جداً ويتسّع لمزيد من العمل.

أقوى الأسس للتربية في حضن الأسرة الدافئ والمبارك
يقول بعضهم إن الحجاب يعيق تقدّم المرأة وتطوّرها. كلا! بالعكس، الحجاب يمنع ذلك الظهور في غير محله، فهذا ما يعيق مسيرة المرأة. اليوم لدينا الآلاف من النساء العظيمات والبارزات في مختلف المجالات العلمية والعملية والاجتماعية والسياسية والتقنية... وجميعهن يعشن بالحجاب الكامل.
حسناً، عندما ننظر إلى النساء بهذه النظرة، يصير دورهنّ في الأسرة بارزاً أيضاً، ويصير دور الأم والزوجة وربّة المنزل وما إلى ذلك... بارزاً، وهذا ما صار مُهمّشاً في الغرب يوماً بعد آخر. الأسرة في الغرب تسير نحو الاضمحلال. الأسرة، الحضن الدافئ والمبارك الذي وُضعت فيه أقوى الأسس للتربية الإنسانية. ففي حضن الأسرة، وُضعت الأسس الأولى والأهم للتربية الروحية والفكرية للإنسان. المنزل هو أفضل بيئة لراحة جسم الإنسان وروحه، وهو أفضل حضن لإزاحة تعب الجسم والروح. إنّه أصدق بيئة للمحبة، فلا يمكن تصوّر المحبة في أي بيئة بقدر ما هي موجودة في الأسرة وبين الأم والابن والأب والأزواج.
من المحور في مثل هذا الكيان؟ الأمّ. من الأساس؟ الأمّ. من مركز الدائرة؟ الأمّ. الأمّ هي محور الأسرة. هذا ما تحاول أجهزة الدعاية الغربية، وللأسف بعض أفراد شعبنا المتأثّرين بالغرب، [عمله] للتقليل من أهميته أو الجهل به أو إخفائه. أدّت ربات البيوت أعظم الخدمات، حتى أولئك اللواتي ليس لديهن عمل خارج المنزل. من الضروري أن نفهم قيمة الخدمات التي تقدمها النساء اللواتي فضّلن التدبير المنزلي، مع أن الخدمات خارج المنزل هي من مسؤوليّة المرأة أيضاً وستبقى كذلك، ولا إشكال فيه، لكن هذا هو الجزء الأكثر أهمية في دور المرأة.

تعزيز الزّواج والإنجاب في الوقت المناسب من الوظائف المهمّة والأساسيّة
حسناً، في ما يتعلّق بموضوع العائلة، اسمحوا لي أن أتحدّث بجملة حول مسألة الزواج في الوقت المناسب ودون تأخير. ما سأقوله يتوجّب عليكم، أنتم مدّاحي أهل البيت الأعزاء الذين تمثّلون إحدى وسائل الإعلام العظيمة والقيّمة في بلدنا، الترويج له. وسأشرحها لاحقاً. هذه القضايا تحتاج إلى الترويج. الزواج في الوقت المناسب دون تأخير من المهمات الضرورية والأساسيّة التي يجب فعلها، فكلاهما – الزواج المبكر وفي الوقت المناسب، والإنجاب – من الاحتياجات الحيوية للبلد اليوم وغداً. حسناً، يجب أن يكون لهذه المفاهيم حيّز جدير في كلامكم، أيّها المدّاحون الأعزاء. بالطبع، هذه القضيّة أكثر تفصيلاً في ذهني وكما دوّنتها، لكن نظراً إلى ضيق الوقت واقتراب الظهيرة، سأشير إليها على وجه السرعة.

المديح ظاهرة فنية خاصة وفريدة
لنتناول موضوع المديح. المديح ظاهرة فنية خاصة وفريدة ولا مثيل لها في أي مكان. بالطبع لديهم حفلات ولقاءات من هذا القبيل في الدول الغربية وغير الغربية لكنّ الأمر يختلف عن المديح من الأرض إلى السماء. إنّ إدارة مجالس العزاء والمديح أمر رائع. لحسن الحظ أنه النموذج الأفضل والأكثر عدداً في بلدنا. بالطبع هي موجودة في أماكن أخرى أقل بقليل من هنا لكن، لحسن الحظ، نموذجها الأفضل هو في بلدنا. هذه الجامعيّة، هذا التأثير الإعلامي، هذا الإقبال الاجتماعي والشعبي الذي يتمتع به هذا الفن بالذات، كلها غير موجودة في أي مكان آخر بهذه الصورة.
أولاً المديح هو مزيج من فنون عدة: الشعر، التنغيم، إدارة الاجتماعات واللقاءات، نقل الكلام إلى أعماق روح المستمع عبر أذواق ومبادرات شخصية، الصوت الجميل... هذا جزء من العمل يحمل طابعاً فنيّاً للمديح. الجانب الآخر هو المحتوى. إنه مزيج من الفكر والعاطفة والمشاعر والمعلومات المعرفيّة والتاريخية والوعي الاجتماعي والإلمام باحتياجات الجمهور. لقد لاحظتم أنه في بعض نماذج المديح البارزة اليوم، الجيدة جداً لحسن الحظ، كالالتفات إلى قضايا العالم والبلاد، كانت ممزوجة بالمفاهيم الدينية والإسلامية، وهي عند المدّاح كشربة الماء، كما كانت سلسلة وميسّرة لدرجة تظهر التألّق في هذا المجال أيضاً.
مجال العمل للمدّاحين هو أرقى المجالات، أو من أرقاها، لأنه مدحٌ للنماذج البارزة في عالم الوجود، أي محمد وآل محمد (ص)، وتكرارٌ لتعاليمهم وذكرهم. هذا يعني أنكم بعملكم تردّدون ذكرهم باستمرار، ولن تتركوهم طيّ النسيان، بل تصوّبون المشاعر نحو دروسهم وحديثهم ونمط عيشهم، سواء في ولاداتهم أو شهاداتهم. لذلك، إن مجال عمل المدح من أبرز المجالات.
الشيء المهم الآخر هو التثقيف الذي تفعلونه، أي إحياء ذكرى الأئمة (ع) والرسول الأعظم (ص). هذا بحد ذاته بناء للثقافة في المجتمع، وتعزيز للفكر السامي لهؤلاء العظماء، وهو أمر جيد للغاية، ويعني ترويجاً لنمط العيش النبوي والعلوي والفاطمي. إنكم تروّجون لنمط حياتهم بعملكم. لذلك، موضوع المديح مهم جداً، وهو ظاهرة بارزة وقيّمة، ولحسن الحظ هو في تزايد. أي هذه الظاهرة تنتشر في بلادنا يوماً بعد آخر.

بعض التّوصيات للمدّاحين الأعزّاء
1) الجدّية في التّثقيف وتعزيز الأسس الفكريّة والثقافيّة للإسلام ونشرها
لديّ بعض النصائح لكم، أيّها المدّاحون الأعزاء، وهي ختام حديثي معكم. التوصية الأولى أن نتعامل بجدية مع هذه المهمة العظيمة والصعبة التي أشرت إليها، التعامل بجدية مع مهمّة التثقيف، ومهمة الترويج، ومهمة نشر الأسس الفكرية والثقافية للإسلام. هذا مهم جداً. هو أساس عملكم. فليكن محور الاهتمام. هذه هي النصيحة الأولى. فلتنشروا الأفكار والنصائح والمعرفة والبصيرة باستخدام هذه الأدوات الفنية المتميزة، وبالإبداعات والمهارات التي يمتلكها كلّ شخص.
2) الحفاظ على شكل المديح ومضمونه
التوصية الثانية هي الحفاظ على شكل المديح ومضمونه. لا ينبغي الخلط بين المديح وإدارة مجالسه وبعض الأعمال المماثلة هنا وهناك. يجب الحفاظ على إطار المديح واستخدام جميع الأدوات الفنية المذكورة – الصوت الحسن والتلحين والتنغيم الجيد – لكنكم لن تستخدموا مطلقاً الأشياء الخارجة عن هذا الإطار من المديح. فليتمّ اجتنابها. لا تدع مجالس المديح تتحول إلى بيئات أخرى. مجالس المديح يجب أن تبقى مجالس مديح. هذه هي النقطة الثانية. ستنتبهون إلى عمق هذا الأمر، بإذن الله.
3) الإتقان في الكلام والتوسّع في الدّراسات المعرفيّة والتّاريخية
التوصية التالية هي الإتقان. حاولوا أن تتحدّثوا بإتقان. ما يُقال ينبغي أن يُقال بإتقان، سواء أكان سيرة، أم تاريخاً، أم دراسات معرفية وتوحيدية... ونحو ذلك، أم العزاء. أي الكلام المُتْقن والمُحْكم والمَتين. هذا بالطبع ينطبق خاصة على الشعراء الذين ينشدون الشعر في مجالس المديح. هم أيضاً يجب أن تكون لديهم دراسات معرفيّة وتاريخيّة موسّعة جداً، وأن يعرفوا السيرة والتاريخ والمعارف بطرق صحيحة.
4) نشر الآداب الإسلامية في المجتمع وتجنّب الإساءة والشّتيمة
التوصية الأخيرة هي نشر الآداب الإسلامية في المجتمع. أعزائي: مِن أهمّ الأمور الحفاظ على الآداب الإسلامية في الكلام، وللأسف، هذا الأدب الإسلامي يتضاءل اليوم تدريجياً مع توسّع الفضاء الافتراضي.
يجب القضاء على الإساءة والشتيمة في المجتمع. اليوم هناك من يحاولون [نشرها] أو يتجاهلونها، وهو في حالة ازدياد في المجتمع، خاصة في بعض الوسائط – سواء الصوتية أو المرئية – وتحديداً في الفضاء الافتراضي. يتوجب عليكم في بيانكم وطريقة عملكم ألّا تروّجوا لذلك.
مدرسة الأئمة (ع) والمدرسة العلويّة والفاطمية بريئة من هذه الأمور. انظروا! ألقت السيّدة فاطمة الزّهراء (ع) خطبتين عاصفتين، خطبتين عاصفتين بكلّ ما للكلمة من معنى: إحداهما في مسجد المدينة المنورة وسط حشد كثيف من الرجال، والأخرى لنساء المدينة، وهما مليئتان بالمواد الاحتجاجية والمهمة جداً – الاعتراض – والتذكير بالمفاهيم الإسلامية البارزة التي شعرت السيّدة فاطمة الزّهراء (ع) بالخطر تجاهها، لكن في هاتين الخطبتين المهمتين الكبيرتين والعاطفيتين لا توجد كلمة واحدة مهينة وقبيحة. [إنما] كلمات حازمة وحاسمة وأقوال متقنة ومتينة. عليكم فعل ذلك في الأقوال والأحاديث، وألّا يكون هناك قول بلا علم. لا غيبة، ولا افتراء، ولا إساءة أو شتيمة.
علّموا هذا للناس، علّموهم هذا في الكلام، وفي العمل، وسترون مدى الأهمية لذلك. قال أمير المؤمنين (ع): «إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين‏»7، عندما توجّه بعض الأفراد من جيش أمير المؤمنين (ع) بنوع من السباب إلى جيش معاوية، قال لهم الإمام: كلّا! لا تسبّوا، لا تشتموا؛ «إني أكره لكم»، إنّي أكره لكم أن تكونوا هكذا. هذه هي الأخلاق الفاطمية والعلوية.
لحسن الحظ، تتجه أجهزة الدعاية في البلاد اليوم نحو التطور والتميّز. دعوني أخبركم بهذا. يجري العمل بصورة جيّدة في الحوزات العلميّة في كل المجالات العميقة والفكرية والعلمية وغيرها، وكذلك في الميادين الأخرى. إننا في هذا الإطار، لحسن الحظ، رأينا انعكاس ذلك في مقاطع المديح، في آخر محرم ووسط وباء كورونا، وفي شهر رمضان حين كان الوباء أيضاً، رأينا كيف عملتم جيّداً، وكيف بادرتم ونفذتم أعمالاً جميلة.

ازدياد القوة للجمهورية الإسلامية واقتدارها في مواجهة الأعداء
نتمنى، إن شاء الله، أن تمضوا قدماً وتعملوا على هذا النحو، وتنمّوا معارفكم، وتكونوا أكثر نجاحاً وتوفيقاً يوماً بعد يوم، بإذن الله. اعلموا أن الأعداء لا يمكنهم أن يخطئوا في مواجهة الجمهورية الإسلامية. وكما ذكر بعض إخواننا في خطاباتهم، بحمد لله، إن الإسلام والجمهورية الإسلامية يزدادان قوة يوماً بعد يوم، روحياً ومادياً. بالطبع هناك مشكلات. هذه المشكلات هي تقلّبات وستظل موجودة دائماً في الحياة الاجتماعية. بعض الناس يعملون، وبعضهم يفقدون قدراتهم. هذا موجود. لكنّ مجموع هؤلاء كلهم في تقدّم، بإذن الله.
أسأل الله – تعالى – لكم التوفيق، وأدعو لكم، ونتوسّل لبقيّة الله – أرواحنا فداه – صاحب الدعاء المستجاب، بالدعاء لكم، ونأمل منكم أن تدعوا لي، ونسأل الله – تعالى – أن يُرضي عنّا الروح الطاهرة لإمامنا العظيم وأرواح الشهداء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الهوامش:
1- تصادف ولادة الإمام الخميني (قده) بالتاريخ الهجري القمري ذكرى ولادة السيّدة الزّهراء (ع).
2- كشف الغمة، ج. 1، ص. 462.
3- علل الشرائع، ج. 1، ص. 182.
4- الزهّاد الثمانية المشهورون في القرن الأول الهجري: عامر بن عبد قيس، هرم بن حيان، الربيع بن خثيم، أويس القرني، أبو مسلم الخولاني، مسروق بن أجدع، الحسن البصري، الأسود بن يزيد.
5- مناقب آل أبي طالب، ج. 3، ص. 341.
6- أعلنت عضوٌ في مجلس الشيوخ الأمريكي تُدعى مارثا ماكسيلي أنها تعرضت لاعتداء جنسي أثناء خدمتها في القوات الجوية.
7- نهج‏ البلاغة، الخطبة 206.