الكاتب: مصطفى ناصر الدين

سائراً على نهج مفجّر الثورة الإسلاميّة الإمام الخميني العظيم (قده)، أولى قائد الثورة الإسلاميّة، الإمام الخامنئي (دام ظلّه)، اهتماماً بالغاً في قضايا البيئة. قبل أيام، جدّد سماحته في «يوم الشجرة»1 هذا الاهتمام، قائلاً: إنّ نظرتنا إلى الأشجار والنّباتات والمساحات الخضراء والبيئة نظرة معرفية ومعنوية، نظرة المعرفة الدينية. فما هي حقيقة هذه النظرة؟

إن مطالعة كلمات وخطابات سماحة الإمام الخامنئي في المناسبات التي تختصّ بالبيئة، كَفيلة برسم معالم رؤيته الحضاريّة. رغم ذلك، لا يُمكن فهم مواقف سماحته تجاه البيئة بُعمق، بعيداً من منظومته الفكريّة. كثيرةٌ هي الكلمات والتصريحات التي تحدّث بها الإمام الخامنئي حول البيئة، والتي جُمعت في كتاب صدر عن مؤسسة الثورة الإسلامية باللغة الفارسيّة حمل عنوان «نهضة الحفاظ على البيئة»، لذلك يصعب تلخيص هذه الرؤية هنا، باعتبار أن سماحته قدّ خصّص حيّزاً واسعاً وعميقاً لموضوع البيئة في مختلف المناسبات. بناءً عليه، سوف نتطرّق إلى هذا الموضوع بعيداً من الجانب التخصصي البيئي، بل انطلاقاً من منظومته الفكريّة وفي ثلاثة أقسام. التوحيد في الرؤية الكونيّة، المعنوية في النظام القِيَمي والأخلاقي، والحياة الطيّبة في النُظُم والأهداف الاجتماعيّة.

 

التوحيد

يَعتبر الإمام الخامنئي: «التوحيد محيطٌ مترامي الأطراف يغرق فيه أولياء الله»2، ويُعدّه الركن الأساسي لرؤيته الكونيّة، والمبدأ الحاكم على كل ما تحتويه منظومته الفكريّة. وبالتالي، إنّ التوحيد بالنسبة إليه ليس أمراً ذهنياً وفلسفياً فحسب، بل هو أمر واقعي وعملي يعدّ تحقّقه الهدف الأسمى في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة لدى لبشر. لذلك إن السلوك العملي لسماحته في التعاطي مع القضايا البيئية، إنّما هو إنعكاس لهذه الرؤية الكونيّة التي يُعتبر التوحيد بالنسبة إليها بمَنْزلة الروح إلى الجسد.

يُشير قائد الثورة الإسلاميّة إلى رؤية الإسلام بخصوص الكرة الأرضيّة قائلاً: يقول القرآن الكريم في موضع من المواضع {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} (الرحمن، 10)، بمعنى أن الله خلق الكرة الأرضية للإنسان، وهي ملك الجميع لا لبعض البشر، وليس لجماعة فيها حقّ أكثر من الآخرين، ولا هي لجيل دون غيره. ويضيف: يقول تعالى في آية أخرى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (الرحمن، 10) أيّها البشر، خلق كلّ ما في الأرض لكم، ولأن كل ما فيها لكم ولمصلحتكم، يجب ألّا تُخرّبوه... هي نعم الله ومواهبه، وكلها ملك للإنسان لكن ليس من حقّه تخريبها. ليس له حقّ أن يخرّب البساتين ولا الحدائق ولا الغابات ولا المراتع والسهول ولا الصحاري.3

يُوضح كلام الإمام الخامنئي أنّه رغم تكريم الله عزّ وجل للإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} (الإسراء، 70)، وتسخيره مقدّرات هذه الأرض له {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (لقمان، 20)، أو {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود، 61)، لكنّه تعالى هو المالك المطلق والأصيل للوجود، والأشياء التي وضعها بين يَدَي الإنسان، إنما هي أمانة يستخدمها العبد في الرشد والوصول إلى الكمال الإنساني. لذلك، لا يحقّ للإنسان أن يُضيّعها أو يهملها، وهذا ما يُطلق عليه التوحيد في المالكيّة. كذلك توضح كلمات سماحته أنّ الله هو الحاكم المستقل والحقيقي في الوجود، وأما حاكميّة الآخرين تأخذ شرعيتها في ظلّ الإذن الإلهي فقط، وهذا ما يُصطلح عليه بالتوحيد في الحاكمية.

 

المعنويّة

تحتل المعنوية حيّزاً واسعاً في فكر الإمام الخامنئي، وتشمل كافّة الساحات حيث يرى أن هذه المعنويّة، سواء على الصعيد الفردي أو الاجتماعي، توجب ازدهار حياة الإنسان وتعاليه وصولاً إلى الحياة الطيّبة.

قد يعتقد بعضهم أن نهج سماحته يجمع ما هو مادي وما هو معنوي فقط، بخلاف المدارس الماديّة التي لا تعترف بالمعنويّة، لكن مراجعة النظام المعنوي الإسلامي في المنظومة الفكريّة للإمام الخامنئي، توضح أنّ هذا الجمع ليس جمعاً منفصلاً فحسب، أي أنّ هناك أعمال ماديّة بحتة وأخرى معنويّة بحتة، بل جمعاً متّصلاً حيث يغذّي كلّ منهما الآخر، أو ما يُصطلح عليه بالتآزر. يعتبر الإمام الخامنئي أن نظام الكون هو نظام العلّة (الماديّة والمعنويّة) والمعلول (المادي والمعنوي)، أو قانون الأسباب في الاصطلاح الفلسفي، والذي يعبّر عنه بالسنن الإلهيّة في الاصطلاح الديني. ويوضح سماحته أنّ سعي الإنسان في إعمار الدنيا وعالم الطبيعة يُغذّي ازدهار الانسان المادي والمعنوي، فمن ناحية يؤثر الإنسان على ازدهار العالم المادي، ومن ناحية أخرى يعتمد تقدّم الإنسان وتطوّره على استخدام المواهب المادية.

وهذا ما تجلّى في خطاب سماحته الأخير حينما قال: إنّ نظرتنا إلى الأشجار والنّباتات والمساحات الخضراء والبيئة نظرة معرفية ومعنوية، نظرة المعرفة الدينية. هذا شائع جداً في أدبنا أيضاً.4 كذلك يوضح سماحته في كلام سابق حول البيئة: إنّ نظرة الإسلام إلى الطبيعة والبيئة، الحيّة وغير الحيّة، هي نظرة عاطفية وأخلاقية ومعنوية وإرشادية.5

 

الحياة الطيبّة

لا تنفصل رؤية الإمام الخامنئي تجاه البيئة عن المشروع الذي يعتبره هدفاً نهائياً للثورة الإسلامية، والمتمثل في بناء حضارة إسلامية جديدة. هذه الحضارة ستكون الحياة الطيبة عنوانها الأبرز. يقول سماحته: إنْ لم نهتمّ بقضايا المياه والتربة والهواء‌ والأشياء المتصلة بها، كالمراتع والمصادر الطبيعية والغابات والتنظيم المُدُني، لن يعيش الناس حياة طيّبة‌. لا تَجعل الصّناعة والتقدّم الصّناعي والعائدات المتزايدة للبلاد والمفاخر العلمية‌ المختلفة الحياة حُلوة، فكل هذه الأمور يجب أن تكون مُقدّمات لكي تتوافر للناس حياة سليمة وطيّبة.6

وعند الحديث عن الحضارة الإسلاميّة والحياة الطيبة، لا بدّ من الإشارة إلى عصر الظهور حيث تتجلّى الحضارة الإسلامية بصورتها الكاملة عبر الأُنموذج الأسمى والأرقى للحياة الطيبة. يقول الإمام الخامنئي: يُعاني الإنسان اليوم من تشويه القيم الأخلاقية، لكنّ القضية تختلف في عصر ظهور بقية الله (عج) حين ستتنعّم البشرية بموارد هذا الكون وما تنطوي عليه الطبيعة من طاقات دون أن يَلْحَق بها الضّرر أو الخسارة، تنعّماً يؤدّي بالإنسان إلى الرقيّ والتقدّم.7 إنّ مرحلة ولي العصر (عج) هي بداية الحياة البشرية لا نهايتها، وسوف تكون بداية الحياة الحقيقية للإنسان والسعادة الحقيقية لهذه العائلة البشرية الكبيرة، وسوف يَتَسنّى للإنسان الاستفادة من خيرات هذه الكرة الأرضية والموارد والطاقات الكامنة في هذا الكون دون أي ضرر أو خسارة أو خراب أو هدر.8

يبدو واضحاً أهميّة البيئة في المنظومة الفكريّة للإمام الخامنئي باعتبارها تنطلق من جذور توحيدية ترتبط برؤيته الكونيّة وتمرّ عبر الصراط المستقيم باعتبارها أحد معايير الإلتزام به، لتصل إلى الهدف النهائي الذي تسير نحوه الثورة الإسلاميّة، أي الحياة الطيبة. هذه الرؤية التي تلحظ البيئة انطلاقاً ومساراً وهدفاً، إنما يستمدها الإمام الخامنئي من تعاليم الإسلام، قائلاً: إنّ الهدف الأسمى للإسلام هو تزويد جميع الأجيال بالنّعم الإلهية وخلق مجتمع صحي بعيد من الفواصل الطبقية ومستعد للنمو والازدهار. وقد وفّر الضوابط الدينية للمحافظة على التعادل والتوازن في استخدام الموارد الطبيعية عبر البُعد من الإسراف، وقيّد ذلك بتجنّب الإضرار بالآخرين.9

 

الهوامش:

1- "يوم الشجرة" هو اليوم الأوّل من أسبوع الموارد الطبيعية في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة والذي يبدأ من تاريخ 6 حتى 13 مارس/ آذار.

2- من كلمة لسماحته بتاريخ 11/04/1990

3- من كلام لسماحته بتاريخ 08/03/2015.

4- من كلمة لسماحته بتاريخ 05/03/2021.

5- من بيان لسماحته بمناسبة إقامة مؤتمر حقوق البيئة في إيران، في 10/06/2003.

6- من كلام لسماحته بتاريخ 8/3/2011.

7- من كلام لسماحته بتاريخ 14/03/2001.

8- المصدر السابق.

9- من بيان لسماحته بمناسبة إقامة مؤتمر حقوق البيئة في إيران، في 10/06/2003.

 

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي موقع arabic.khamenei.ir