بسم الله الرحمن الرحيم،[1]
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا، أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، [ولا] سيّما بقية الله في الأرضين.
أرحّب بالإخوة والأخوات الأعزاء كافة، وأبارك ولادة مولى المتّقين - عليه الصلاة والسلام - وولادة الإمام جواد الأئمة - عليه السلام - وأُكْبِرُ وأمجّد وأنحني أمام الأرواح الطيّبة للشهداء وعائلاتهم المكرّمة، وكذلك أشكر القائمين على هذا التكريم والذكرى الجليلة. شاهدتُ هذا المعرض الذي نظّمه الأحبّة. الأعمال التي أُنجزت أعمال جيدة، وكذلك تلك النقاط التي ذكرها أخونا العزيز هذا عن طهران وشهدائها وعائلاتهم وهي نقاط صحيحة ومتينة بالكامل. بدوري، سوف أذكر بضع جمل عن طهران، ومسألة أيضاً عن الشهداء.
قلّ ما جرى الحديث عن طهران. تحدّثت، أو تحدّث الآخرون، في مناسبات مختلفة، عن مختلف مدن البلاد، ومن المؤسف أنّه قلّ ما جرى الحديث عن طهران، في حين أنّه ينبغي عدّ طهران رمزاً لكثير من خصائص الشعب الإيراني، فالأمر هكذا بالفعل. من جملة الخصائص التي اتَّضحت عن الشعب الإيراني في قضايا الثورة وما يتعلّق بها هي شجاعة الشعب الإيراني وحميّته وتديُّنه واستقلاليّته ومناوءته الأعداء وغير ذلك. في رأيي إنّ طهران رمز هذه الخصائص كلها، أي إذا أردنا دراسة هذه الخصائص في مجموعة على وجه التحديد وبصورة موثّقة، فعلينا دراسة طهران؛ هذه الخصائص كلها مجتمعة ههنا.
نعم، صحيح أنّ الأحداث المتعلّقة بالثورة فصل حافل، وأنا أيضاً سألمّح إلى إشارة، لكن قبل قضايا الثورة وأحداثها، وعلى الأقل في هذه الأعوام المئة والخمسين الأخيرة – كذلك قبلها لكنّي الآن أعرض أكثر لقضايا هذا القرن والنصف الأخير – وحينما نستعرض هذه القضايا، نرى بوضوح تميُّز أهالي طهران. افترضوا مثلاً اتّفاقية «رويتر». لقد حال المرحوم الحاج الملّا علي كني الطهراني، الذي تقدّم الناس، دون هذا الاتّفاق الخائن، أو قضية «التّبغ» والاتفاقيّة الخائنة لشركة التبغ – هذه أيضاً اتّفاقية خائنة – التي أثار صخباً [بشأنها] في طهران المرحوم الميرزا محمّد حسن آشتياني، عالم طهران الكبير ومن الطراز الأول، اتّباعاً للميرزا الشيرازي و[فتواه] في التحريم، ففعلوا ما دفع الخادمات والخدّام إلى كسر «النراجيل» داخل أسرة الملك متأثّرين بفتوى [الميرزا الشيرازي]؛ إنّ حضور أهالي طهران خلف العلماء كان كذلك. [أيضاً] بعد ذلك قضية «الثورة الدستورية». في «الثورة الدستوريّة» غالباً لا يُذكر دور أهالي طهران وتُذكر [فقط] مسألة رز السفارة المطبوخ[2] تلك، وما شابه، في حين أنّها قضايا لاحقة؛ فأساس الأمر المطالبة بوزارة العدل، إذ تجمّع أهالي طهران في المسجد الجامع ذاك وأماكن أخرى وعقدوا اجتماعات وكانوا يسعون خلف وزارة للعدل، وبذلوا جهداً جهيداً أيضاً، كما قاسوا المشقّة، وضُربوا كذلك، لكن لاحقاً وصل الأمر إلى «الثورة الدستوريّة» في نهاية المطاف. بعد ذلك، وحينما كانت «الدستورية» آخذة بالانحراف – وهذا ما حدث – جاء قيام المرحوم الشيخ فضل الله [نوري] والناس والمسير إلى حرم السيّد عبد العظيم [الحسني]، والتحصّن هناك وما شابه. هذا كلُّه من فعل أهالي طهران. [وصولاً] إلى اتّفاقيّة العار، اتّفاقية «وثوق الدولة»، ونهضة تأميم النفط الوطنية عام 1951، والخامس عشر من خرداد [5 حزيران/يونيو] ثم الآن، فأينما تشاهدون قضايا مهمّة ونضالات أساسية في تاريخ إيران في هذه الأعوام المئة والخمسين حتى اليوم، فإنّ رمزها أهالي طهران. لقد خاضت طهران [وحدها] في مواضع، وفي مواضع خاض الآخرون أيضاً، [لكنها] كانت رائدة وفي الطليعة. هذه الأمور في غاية الأهمية؛ ينبغي إعداد هوية المدينة على هذا النحو، ويجب الفهم ورؤية السجل لعمل المدينة كذلك.
غالبية هذه القضايا التي ذكرناها تعود إلى ما قبل الثورة الإسلامية. لا شك أنّ مختلف المدن اضطلعت بأدوار مهمّة في قضايا الثورة الإسلامية – مثل قم، وتبريز وأصفهان ومشهد – لكن أولاً، كانت طهران في هذه القضايا كافة ضمن الطليعة، ثمّ في تلك النقطة المصيرية، أي 1979، حين تحوّلت النهضة إلى الثورة، حينذاك غدت طهران كل شيء، إذ كان أهاليها مُلهِمي البلاد قاطبة. خذوا بالحسبان صلاة عيد [الفطر] في قيطرية عام 1979. لقد انطلقت صلاة العيد تلك بتدبير من المرحوم الشهيد بهشتي وأضرابه – كان الشهيد مفتّح إمام هذه الصلاة – وكان انعكاسها في البلاد مهيباً، فلقد كنّا في مشهد، وكانت أحداث طهران تُنقل، وكل فعل يُحدث ضجّة في المناطق الأخرى. كذلك كانت ريادة طهران. صلاة عيد الفطر في قيطرية، وملحمة السابع عشر من شهريور (8/9/1978) في ساحة الشهداء، ومسيرة تاسوعاء، ومسيرة عاشوراء... نُظّمت هذه المسيرات في أماكن أخرى أيضاً، لكن كانوا يقودونها من طهران. اتّصلوا بنا بأنفسِنا في مشهد من طهران وقالوا: هنالك مسيرة في تاسوعاء، وهنالك مسيرة في عاشوراء، وحينذاك أعددنا الترتيبات في مشهد. [لذا] كانت طهران هي الرائدة.
في هذه الأحداث كافة، وفي هذه الأعوام المئة والخمسين التي ذكرتُها، وكذلك في وقائع 1979، كان علماء الدين أيضاً في مقدّمة الحشود، من قبيل الحاج الملّا علي كني الذي ذكرتُ اسمه، والمرحوم الميرزا محمّد حسن آشتياني، والشيخ فضل الله نوري، وأمثالهم، إلى الشهيد بهشتي، والشهيد باهنر، والشهيد مفتّح، والشهيد مطهّري. كان العلماء في المقدمة، وحشود فئات الناس – من الأصناف كافة – تأخذ بالسير خلفهم. حتّى جامعة طهران! غدت جامعة طهران مكان تحصّن للعلماء. ذهبنا وجلسنا وناقشنا أين نتحصّن؟ ذُكِرت أماكن مختلفة، وقال أحدهم: جامعة طهران، فوافق الجميع. نهضنا وأتينا وتحصّنّا أياماً في جامعة طهران إلى حين مجيء الإمام - رضوان الله عليه - أي صارت الجامعة في خدمة هذه الحركة، ومرة أخرى بمحوريّة العلماء وقيادة علماء الدين.
النقطة المهمّة ههنا، وهي أنّ هذه الأعمال وقعت في طهران، لكن أين طهران؟ وما هي طهران؟ طهران هي المدينة نفسها التي جرى فيها أعظم سعي من أجل تغيير الهويّة الوطنية والإسلامية. جرى السعي في عهد البهلويين – طبعاً كان ذلك أيضاً قبل البهلويين، وسأشير لاحقاً – لتغدو طهران نسخة بديلة عن المدن الأوروبية، من دون أشكال التطوّر بالطبع. خذوا على صعيد الانحلال، واللامبالاة الجنسية، إلى التزايد اليومي لمحلّات بيع المشروبات الكحوليّة، وإلى وضعية لباس النساء والرجال وزينتهم، وإلى الكباريهات والمقاهي المعلومة الحال، وإلى المراكز العامّة الفاسدة والمفسدة على غرار قصر الشباب يومئذ. أساساً كانت طهران مركزاً لمثل هذه النشاطات لدى تلك الأجهزة. كانت الأجهزة تقود هذا الأمر بجديّة، وتسعى لتحقُّقه، لكي يجعلوا طهران تتصف بهذه الأشياء. كان هذا هو السعي الذي يُبذل في طهران، ولم يكن يُبذل في مدينة أخرى. نعم، حدثت أشياء مثلاً كحفل الفن في شيراز، بيد أنّها كانت مرحلية، بينما تقع هذه الأعمال باستمرار في طهران لكنّ ما كانوا يريدونه لم يتحقّق. كانوا يريدون سلب طهران هويّتها الدينيّة والإسلاميّة والعقدية والوطنيّة، وأن يحوّلوها إلى مثل تلك النسخة المعيبة أو المسودّة الخاطئة عن المدن الأوروبية، لكنّ ما كانوا يريدونه لم يتحقّق.
كيف لم يتحقّق؟ نعم، انتشرت مظاهر غربيّة خاطئة في أماكن في طهران – شاهدنا من كثب وكنّا نعلم وضع طهران – لكن في المقابل، إنّ الأعمال التي أُنجزت في طهران في اتّجاه الفكر الإسلامي والروحي والديني لم تُنجز في أيّ مدينة من البلاد، فانتشر فيها أكثر من الأماكن الأخرى كافة في البلاد التيارُ الديني الناشط البصير والتنويري، وصاحب الكلام الجديد، كما تقدّمت المساجد العامرة، وعلماء الدين المناضلون والتنويريون، والمجالس الدينية المكتظّة – طبعاً «مكتظّة» بالنسبة إلى تلك الأيام لا اليوم، فالحشود تجتمع الآن في المجالس أكثر بعشرات الأضعاف من تلك الأوقات لكن قياساً بتلك الأيام كانت مجالس طهران ضمن أكثر المجالس اكتظاظاً، مجالسها للعزاء كما مجالسها الدينية المختلفة – والأقوال الدينية المتنوّعة الصانعة للتحوّل في مختلف أرجاء طهران، والإسلام السياسي الذي يُروّج في الخُطب ومن على مختلف منابر طهران وفي مختلف المساجد أو الهيئات الدينيّة المختلفة، والمظاهر الدينية الجذّابة للشباب، والهيئات التي تُعقد في المنازل – ما أقوله معلوماتي المؤكّدة التي رأيتها بأم عيني – فقد كان الشباب الجامعيون يشاركون في الهيئات الدينية بيتاً بيتاً، فكان أحدهم لا يشارك في صفّه الدراسي ليتمكّن من المشاركة في هذه الهيئة. كان في طهران وضعٌ من هذا القبيل، وهذا في النقطة المقابلة تماماً لذلك الوضع الذي أراد جهاز البهلويين المنحرف إيجاده في إيران، ولا سيّما في طهران العاصمة.
لذا، غدت طهران عام 1979 مُلهمة المدن الأخرى، في المسيرات كما في إنتاج الشعارات. هذه الشعارات المتناسقة التي كنتم ترونها تُبث في أرجاء البلاد كانت تُلهمها طهران. هذا التكبير من على الأسطح ابتكره الطهرانيون وأطلعوا عليه الأماكن الأخرى. أنا بنفسي كنت جالساً في مشهد، واتّصل بي ليلاً أحد الأصدقاء الطهرانيين الذي كان من المناضلين – رحمه الله – وقال: «أنْصِت»، وأخذ الهاتف نحو الصوت، فسمعت صوت «الله أكبر». قال: كبّروا [أيضاً] فصعدت مع أبنائي، الذين كانوا صغاراً، إلى السطح، وشرعنا في التكبير. كانت هذه الأمور تنتشر من طهران إلى أنحاء البلاد. كان الأمر كذلك بعد بداية النهضة إلى انتصار الثورة، انطلاقاً من وقائع الخامس عشر من خرداد (5 حزيران/يونيو)، والسابع عشر من شهريور (8 أيلول/سبتمبر)، وفتنة المنافقين في الثلاثين من خرداد 1360 (20/6/1981)، وصلوات الجمعة الصّاعقة في طهران، إلى الحركات التعبويّة وتلك الحشود المكوّنة من مئة ألف شخص في ملعب آزادي عام 1365 (5/10/1986)، ومختلف التجمّعات إلى يومنا. للإنصاف، أبلى أهالي طهران البلاء الحسن. بناء عليه ينبغي أن يترافق إحياء الذكرى لشهداء طهران مع صياغة الهويّة الثوريّة لها كسائر المدن، أي ينبغي أن تتوضّح للشباب هذه الهويّة الثوريّة لطهران. غالبكم من الحاضرين هنا لم تُعاينوا تلك الأحداث، ونحن أيضاً قصّرنا في تدوينها، فكثيرون لا علم لهم حتّى بما حدث. ينبغي لهذه الأمور أن تتوضّح. إلى جانب إحياء الذكرى هذا للشهداء الشامخين الذين تتألّق وجوههم كالنور وتضيء الحياة والقلوب، ينبغي أيضاً توضيح مساعي عموم الناس ونشاطاتهم والحديث عنها. هذا في ما يخصّ طهران.
فلنذكر كلمة عن الشهداء: قيل عن الشهداء كلام كثيرٌ عميقٌ وجوهريٌّ من أئمّة الهدى (ع)، ثمّ من الأجلّاء، أجلّاء الثورة والإمام [الخميني] العظيم والآخرين. جرى الحديث بكثرة عن الشهداء [لكن] في مقدمها جميعاً حديث القرآن الكريم والله المتعالي عن الشهداء، إذ لا تمكن مقارنته بأيّ كلام آخر. إنه يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشتَرى مِنَ المُؤمِنينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيَقتُلونَ وَيُقتَلونَ} (التوبة، 111)؛ {إِنَّ اللَّهَ اشتَرى}، [أي] إنّ الله يُتاجر. هذا في غاية الأهميّة. أين العبد وأين الله وإذْ بالله يشتري! يعطي أعظم هدية يمكن أن تُهدى لإنسان، أي الجنة – جنة الرضا الإلهي –، مقابل حياتنا، ثمَّ يصرّح: {يُقاتِلونَ في سَبيلِ اللَّه فَيَقتُلونَ وَيُقتَلونَ}. فهذا لا يختص بعصر الإسلام: {وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا في التَّوْراةِ والْإنْجِيلِ والقُرْآنِ} (التوبة، 111)، ففي التوراة أيضاً والإنجيل كذلك. هذه الآية التي تلاها القارئ العزيز هذا – {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيّونَ كَثيرٌ} (آل عمران، 146) – [تشير إلى أنَّ] هذا يختص بالأنبياء كلهم، أو تلك الآية الشريفة: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}؛ (آل عمران، 169)، فهذا حديث عن الشهداء وفضيلة الشهادة، ولا كلام أسمى منه، فما عسى الإنسان أن يقول؟
أكتفي بنقطة واحدة هي أنّ لجميع الشهداء درجة رفيعة، غاية الأمر أن درجة الشهداء ليست على حدٍّ سواء، فمثلاً شهداء كربلاء أسمى من الشهداء كافّة. نُقل بشأن بعض الشهداء في كلمات الأئمة (ع) أنّهم يعبرون يوم القيامة من على أكتاف بقية الشهداء ويمضون إلى الجنة. وقد قيل في بعض الشهداء أنّ لكلٍّ منهم أجر شهيدين، أي مضاعف. إذاً، الشهداء ليسوا على نحو واحد؛ تختلف قيمة الشهيد باختلاف الأهداف وطريقة الشهادة. أريد أن أقول إنّ أصناف الشهداء الذين استشهدوا في الثورة الإسلامية – مجموع الشهداء سواء الذين استشهدوا في أحداث الثورة، أو «الدفاع المقدّس»، أو الفِتن، أو الأمن أو الصحّة، أو الدفاع عن المقدّسات – بين الأكثر سمواً ويُعدّون بين الشهداء الأسمى عند الله المتعالي. لماذا؟ لأنّهم دافعوا عن مسارٍ ونالوا الشهادة في حدث هو في مقدّمة كثير من أحداث زمن الإسلام وأزمنة الأديان كافّة. ما هو ذاك؟ إنّه إنقاذ البلد والعالم الإسلامي من التبعيّة والاضمحلال والانصهار في ثقافة الكفر والاستكبار، وقد وقع هذا الحدث في الثورة الإسلامية. أخرجت هذه الثورة في الدرجة الأولى إيرانَ من الانصهار والذوبان والانحلال في ثقافة الكفر والاستكبار، التي هي ثقافة الغرب تلك، وأنقذتها، ومن ثمّ تشاهدون آثارها في العالم الإسلامي. نحن من دون شك لم نصدر تعليمات إلى أيّ أحد [بل] هذا هو أثر الثورة. دوماً قلتُ[3] إنّ الثورة مثل طقس ربيعيّ، ومثل النسيم العليل لا يمكن منعه، فيخرج من داخل البستان في الجوّ الربيعي اللطيف نسيم عليل وعبير الأزهار وينتشر في الأماكن الأخرى ولا يمكن منعه. كذلك لا حاجة إلى أن يُبادر شخصٌ إلى تصدير هذا النسيم [بل] يصدر بصورة طبيعيّة. أنتم اليوم تشاهدون علامات ذلك في العالم الإسلامي.
بدأ الانحلال والانصهار في ثقافة الكفر والاستكبار قبل البهلويين، إذ بدأ منذ عصر القاجار، وكذلك كان من شرع فيه هؤلاء المنتمون إلى القصر والملوك والأمراء الفاسدون والطفيليون والكسلانون والبطّالون وفاسدو الأخلاق، فأخذ هؤلاء الثقافة الغربية وروّجوها تدريجياً بين الناس بالنفوذ الذي كان لهم في المجتمع، أي بالنفوذ المالي والسلطة والمال وما شابه. وحينما وصل الدور إلى البهلويين، بلغوا بهذا الفساد والمرض المُعدي ذروته لكي يتمكّنوا من جعل البلاد مرتهنة ومعلّقة بالمعنى الحقيقي للكلمة بالقوى الغربية. كان الإنكليز قد دخلوا إيران قبل مدة طويلة ووطّؤوا للأمر، وكانوا ينفّذون أعمالاً ثم رأوا أنّه لا يمكن ذلك. إنّ من لهم معرفة بالتاريخ يعون ما أقول. كانت اتّفاقيّة «وثوق الدولة» بيعاً لإيران، فتصدّى لها المرحوم مدرّس بقوّة وحزم، ولم يسمح بها، فوجدوا أنّ ذلك غير ممكن فألغوا الاتّفاقيّة، أو اتّفاقية التبغ [التي كانت] بأسلوب آخر وأمثالها. وجدوا أنّه لا يمكن كذلك وأنّ عليهم أن يخوضوا مباشرة فأخذوا رضا خان الذي كان في يومٍ ضمن «قفقازيي» الحرس لسفارة إنكلترا – كانوا يعرفونه من هناك – وأتوا به وضخّموه ورفعوه ومنحوه السلطة وأَجْلَسوا حوله عدداً من التنويريين المرتهنين وكرَّسوهم وأطلقوا هذا الوضع الذي حصل في عهد رضا خان: مناوءة الدين والإسلام ومناوءة الاستقلال ومناوءة الحجاب ومناوءة مجالس العزاء وعلماء الدين. في عهد رضا خان بطريقة، وأيضاً ما بعد رضا خان بطريقة أخرى. كانت هذه هي الحركة.
إنّ الله رحم حقّاً الشعب الإيراني بحدوث هذه الثورة، وإلّا مع تلك الحالة التي كانوا آخذين فيها، لَصار وضع بلادنا أسوأ بكثير من الدول المُرتهنة كافة التي نعرفها. جاءت الثورة وحالت دون ذلك. بفضل الثورة الإسلاميّة، ومن خلال مبادرة حاسمة، تم إيقاف هذه الحركة نحو الانهيار التام، وأنقذت البلاد. كان الصراع الذي تحقّق عبر الثورة صراع الهويّة، وكان صراع الوجود، وهويّة الشعب الإيراني ووجوده. كان تاريخ الشعب الإيراني آخذاً بالاضمحلال وحيل دون ذلك. هؤلاء الذين قُتلوا في هذا السبيل قُتلوا من أجل تحقيق هذا الأمر، وأولئك الذين استشهدوا في سبيل الثورة الإسلاميّة – بأيّ نحوٍ من الشهادة – استشهدوا من أجل هذا الهدف، وعلى هذا النحو، وليس هذا بالأمر الهيّن.
بناء عليه شهداؤنا هم ضمن الأسمى. 24 ألف شهيد في طهران! لا شك أنّه أُقيمت ذكرى [لشهداء] محافظة طهران أيضاً في السنوات الماضية، 36 ألف شهيد من شهداء محافظة طهران وشهداء الأماكن الأخرى للبلاد. سواء أكانوا شهداء الحرب المفروضة، أم شهداء الدفاع عن الحرم، أم سائر الشهداء الذين ذكرناهم، جميعهم ضمن أرفع الشهداء. استطاعت دماء هؤلاء الشهداء أن تؤمّن ثبات هذه الثورة. دائماً قلتُ إنّ الشهداء قد حفظونا اليوم أيضاً في هذا السبيل. فما إن وَهُنَّا قليلاً، حتى أوقفنا مرة أخرى على أقدامنا اسم شهيدٍ، وحركة شهيدٍ، وقيام شهيدٍ، وشهادة شهيدٍ، بل أنعشنا. حينما يستشهد الشهيد سليماني، يُجدّد الشعب قُواه، ويُحيي الثورةَ كرّةً أخرى. بناء عليه العمل الذي أنجزتموه – إحياء ذكرى الشهداء – عمل عظيم، وهو مهم، وينبغي لمراسم إحياء الذكرى هذه أن تتمكّن من تمهيد الطريق الذي مضى فيه الشهداء، وأن تؤمّن هذا الطريق لشبابنا وللأجيال المتجدّدة التي تنزل إلى الميدان.
لأذكر كلمة مختصرة عن القضيّة المهمة للغاية: قضية غزّة. يجتمع مسؤولو الدول الإسلاميّة أحياناً فيطلقون تصريحاً أو يُجرون مقابلة أحياناً فيقولون شيئاً ما دون أن يفعلوا ما ينبغي أن يُقْدموا عليه. هم يُعلنون ضرورة وقف إطلاق النار. حسناً، لكنّ وقف إطلاق النار ليس بأيديكم. إنه بيد ذاك الخبيث والعدوّ، وهو لا يُقدم عليه. تجلسون وتقرّون أمراً ليس بمتناول أيديكم! هناك أمورٌ متاحة لكم ولا تقرّونها. ما هي؟ قطع الشرايين الحيويّة المؤدّية إلى الكيان الصهيوني. هذا بمتناول أيديكم، وفي مقدوركم ألّا تساعدوا وألّا تساندوا بل أن تقطعوا العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة. أنتم قادرون على فعل هذه الأمور. هذا سيؤدّي إلى إضعاف ذاك العدوّ وإخراجه من الميدان. هذا الإجراء بأيديكم، فلتقرّوه. فلتقرّوا هذا الأمر. لا يُقدمون على هذا الأمر، ويقرّون شيئاً ليس بأيديهم!
لكن في الوقت نفسه، ورغم هذا كلّه، فإن الأمر كما قال الله المتعالي: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل، 128). الله مع الناس المؤمنين، وكل من كان الله معه النّصرُ حليفه. طبعاً، هناك المصاعب أيضاً، فالمصاعب موجودة. حتى في ما يرتبط بالرسول (ص)، يقول الله المتعالي إنّ عاقبة أعدائك ستكون كذلك، سواء أأبقيناكَ حيّاً أم أخذناك من الدار الدنيا، وشرط ذلك ليس بقاء أمثالنا - أنا وأنتم - أحياء، فالنّصر حتمي. سوف يُشهدُ الله المتعالي - إن شاء الله - الأمّة الإسلاميّة قاطبة هذا النّصر في المستقبل غير البعيد، وسيبعث السرور في القلوب، وسيُفرح ويُسعد في مقدم هؤلاء جميعاً الشعب الفلسطيني وأهالي غزّة المظلومين، إن شاء الله. نأمل أن يستجيب الله المتعالي لهذا الدعاء، وأن يجعلنا في شهر رجب هذا المبارك، شهر الدعاء والاستغفار، مستعدّين أكثر ما أمكن لتجلّي الأنوار الإلهية في قلوبنا.
والسّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
[1] قدّم العميد حسن حسن زادة (قائد فيلق «محمد رسول الله» في طهران وأمين المؤتمر) تقريراً في مستهل هذا اللقاء.
[2] أثناء تحصّن مجموعة من معارضي المطالبة بتأسيس وزارة للعدل، الأمر الذي تحوّل لاحقاً إلى ما يعرف بـ«الثورة الدستورية». في السفارة البريطانية، كانت تُمدّ سُفر الطعام وعمادها الرز المطبوخ في إيران، وذلك في حديقة السفارة التي كان يتجمّع فيها المعارضون من بعض الماسونيين وأشباه المتنورين (نقلاً عن مقالة «مشروطه و دیگ پلوی سفارت انگلیس» في موقع «فارس نيوز» بتصرف).
[3] بما في ذلك كلمة في لقاء جمع من التعبويين، 29/11/2022.